الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.
وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.
قراءة "ورش عن نافع"
لطالما سألتُ نفسي: كيف نجح الشعب الجزائري في دحر الاستعمار وطرده إلى الأبد، رغم ما مارسه هذا الاستعمار من أبشع أنواع التعذيب والتنكيل والإجرام؟ وما هو السرّ الكامن وراء الفشل الذريع للمحتل الفرنسي في إخضاع شعب عاش مائة واثنتين وثلاثين سنة تحت وطأة ظلمه وغطرسته؟
الجواب الذي توصلتُ إليه بعد طول إشغال الفكر والتأمل هو أن الإيمان بالله أصيلٌ ومتأصلٌ في قلب الإنسان الجزائري، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقرآن الكريم، إضافة إلى الأجواء الدينية التي تسود كافة ربوع الجزائر.
رغم جميع المحاولات العسكرية والسياسية والثقافية، وحرب الإبادة التي انتهجها الاستعمار ضد الإنسان والأرض، وتدمير المساجد والمدارس، فقد بقي الشعب الجزائري متمسكًا بقيمه الدينية وعقيدته الإسلامية، وحضور القرآن الكريم بكل فعالية في الحياة اليومية للإنسان والمجتمع.
وقد تمكَّنت الزوايا، خلال قرون طويلة، من ترسيخ كل سورة، وكل آية، وكل كلمة، وكل حرف من كتاب الله في الجينات التي توارثتها الأجيال الجزائرية عبر العصور، مما جعل القرآن الكريم جزءًا ثابتًا من نسيج المجتمع الجزائري، كما جعل المساجد - في مختلف المناسبات - مؤسّسات حيوية لتحفيظ القرآن وتلاوته وترسيخه في صدور وأفئدة الجزائريين.
إن الإنسان الجزائري يستأنس بالقرآن الكريم، ويستلهم منه قوته الروحية، ويستشهد بآياته في الحديث اليومي بشكل طبيعي إلى درجة أنه يمكن أحيانًا الانتباه إلى ذلك منذ أول وهلة، من خلال افتتاح الصباح الجزائري بآيات من القرآن الكريم في البيت والمحل التجاري ومكان العمل.. وكثيرًا ما نجد المصحف الشريف وسجّادة الصلاة في سيارات الجزائريين.
استغربتُ من ذلك، وفوجئتُ أول مرة عندما شاهدتُ مهرجًا ينشّط مهرجانًا للأطفال في مزرعة الخيول على وقع الموسيقى وأنغام الطرب، حيث كان المهرج يتحدّث إلى الجمهور ويستشهد بآية قرآنية بشكل عادي جدًا.. ولعل وجه الغرابة بالنسبة لي سببه أنني غير عربي وأتحدث اللغة الفارسية مع ما فيها من كلمات مشتركة مع اللغة العربية.
تكرّر هذا الموقف مرات أخرى، وصرتُ معتادًا على الناس وهم يستشهدون بالآيات القرآنية ويذكرونها في أحاديثهم اليومية، ما يثبت أنسهم بكتاب الله، وامتزاج الوحي السماوي بالحياة الأرضية.
المصحف الشريف المعتمد في الجزائر هو من قراءة "ورش عن نافع"، وأنا كإيراني متعوّد على قراءة "حفص عن عاصم"، مع أن القراءات الست الأخرى موجودة - كما يقول "حافظ الشيرازي"، الشاعر والصوفي الإيراني الشهير: "العشق يغيثك لو كنت مثلي تحفظ القرآن على القراءات السبع" - وأحيانًا يتم اعتماد القراءات المختلفة في الاحتفالات القرآنية وتعليمها في المدارس المختصّة، لكن القراءة الأكثر تداولًا هي قراءة "حفص"، وبشكل خاص المصاحف التي تأتي من السعودية في أيام الحج، فكنت أحبها وأقتنيها وأقرأ فيها.
وحينما جئت إلى الجزائر، وبدأت أقرأ المصحف الشريف من قراءة "ورش"، تذكرتُ أول مصحف رأيته لهذه القراءة. كنت صغيرًا في العمر عندما سافر والدي إلى الجزائر لأول مرة، وعند عودته جاءني بكتاب لأنه يعرف أنني مولعٌ بالثقافة والكتب. وكانت الهدية غالية جدًا تتمثل في المصحف الشريف بالخط المغربي المبسوط - كما عرفت ذلك لاحقًا - تزينه المنمنمات الأندلسية الرائعة بألوان زاهية جدًا.
وقتها لم أتوقع أنني سأكون يومًا ما ممثّلًا للثقافة الإيرانية في الجزائر بعد أربعين سنة من هدية والدي، وأشاهد بشكل يومي ودائم حضور المصحف الشريف في الحياة اليومية الطبيعية للجزائريين.
وأحمد الله سبحانه وتعالى على هذه السعادة الكبيرة، وحضوري إلى هذا البلد المؤمن، ووجودي بين أناس طيّبين ومؤمنين حقيقيين وصادقين. وكما قال أحد زملائي في السفارة ذات مرة، فإن بعض الزملاء في الخارجية الإيرانية يغبطوننا ويقولون: "أنتم تعملون في بلد مسلم وصديق ومجاهد وثوري، وتعيشون في أجواء مفعمة بعطر القرآن ونور الإيمان، فهنيئًا وطوبى لكم. يا ليتنا كنا معكم في الجزائر!".