كل يوم يحمل الفيسبوك إلينا مفاجآت لا تشبه الفرح، فقد كنا نظنه مساحةً للذكريات الجميلة، فإذا به يتحول إلى مرآة تذكرنا بفقدنا الكبير. ففي كل صباح جديد، تتهادى على شاشتي الإشعارات لتحمل لي تنبيهًا بلطف آلي بأعياد ميلاد أصدقاء لهذا اليوم، ويقترح عليّ أن أرسل التهاني للأصدقاء: "اليوم عيد ميلاد فلان.. لِما لا تُشاركه لحظة فرح؟". فأكتب كما أفعل كل يوم كلمات بسيطة دافئة: "كل سنة وأنت بخير يا صديقي، عقبال مية سنة سعادة ونجاح". لكن الرد لا يأتي من صاحبه، بل يأتيني محمّلًا بالصدمة القاسية التي صارت كأنها جزء من يومي... فيأتيني الرد من أخِ الصديق، أو صديقِ الصديق، أو من أحد الأقارب، حيث يكتب: "الله يرحمه، استُشهد"، "غاب منذ القصف الأخير ولم يعد"، "ترك الدنيا وترك لنا الذكرى فقط"، وآخر يكتب: "دعواتك له بالرحمة". وتتكرر الحكاية: رسالة وردٍ مكسور، ابتسامة نويت أن أرسلها، فارتدت إليّ غصّة.
الغريب أن الفيسبوك لا يعرف الموت، فيواصل تذكيرنا بالأصدقاء ويطلب منا أن نشاركهم الفرحة. وهكذا صار الفرح إشعارًا يتحول إلى لحظة صمت. ففي شهرٍ واحد، أرسلت أكثر من خمسمئة تهنئة، ثلاثون منها عادت إليّ بمرارة الشهادة. كأنني أمرّ على المقابر، أوزّع باقات من الود فلا يفتح أحد بابه. كم هو مؤلم أن تحتفل بذكرى ميلاد من غاب عن الحياة، أن ترسل تهنئة فتجد نفسك تقرأ الفاتحة على روحه. كم هو مربك أن تتحول مناسبات الفرح إلى طقوس للوداع. وفي كل مرة أقرأ عبارة "الله يرحمه"، أشعر بشيء ما ينكسر داخلي... شعور ثقيل لا يشبه الحزن المعتاد، بل يشبه الغربة عن الزمن، وعن الأصدقاء الذين باتوا يعيشون فقط في الذاكرة.
ما يزيد الألم قسوة أنك لا تتألم وحدك، بل يتقاسم معك هذا الوجع أعزّ الناس على قلبه: أمه وأبوه، زوجته وأبناؤه، أو من كان أقرب إليه من صداقتك. أولئك الذين كانت تربطهم به علاقة لا تشبه أي صلة أخرى، علاقة تشبه اتصال الروح بالجسد. فتشعر حينها أن ألمك، مهما اشتد، يظل أقل وطأة من حزنهم، فتلوذ بالصمت وتمضي محمّلًا بوجع مزدوج؛ وجع الفقد، ووجع العجز عن مواساتهم بما يليق بفداحة الغياب.
صرنا نعيش في مواسم متكررة للفقد، حتى باتت أعياد الميلاد، تلك المناسبات الصغيرة التي كنا ننتظرها بابتسامة، تتحول إلى محطات بكاء صامت. فأعياد الميلاد لم تعد احتفالًا بالحياة، بل تحولت إلى وقفات عزاء نمرّ بها على عجل، نحاول أن نبتسم خلالها رغم وجع القلب. فقد تغيّر العيد في غزة... فلم يعد يعني "العمر المديد"، بل "ذكرى أليمة"، مشكّلًا درسًا قاسيًا في الفقدان، ونداءً خفيًا يهمس لنا: لا تؤجل كلمة طيبة أو لقاءً مؤجّلًا، فقد لا تمنحنا الحياة فرصة أخرى. لم نعد نحتفل بمرور السنوات، بل نحسب كم سنة مرّت على الرحيل. صار "عيد الميلاد" شهادة أخرى على ما خسرناه من الأصدقاء الذين باتوا يعيشون فقط في الذاكرة.
هنا أسأل نفسي: هل أستمر في إرسال التهاني، أم أصمت وأكتفي بالدعاء؟ وهل أقبل من التكنولوجيا هذا الحنين الجارح؟ أم أعيد تشكيل علاقتي بالذكريات الرقمية؟ فقد أصبحنا جيلًا يهنّئ الراحلين، جيلًا يكتب للموتى، لأنهم لم يغيبوا تمامًا من ذاكرتنا. فالفيسبوك يُذكّرنا بما نريد أن ننسى، لكنه من حيث لا يدري، يُعيدنا إليهم، ويفتح نافذة صغيرة نطلّ منها على الوجع. نقرأ أسماءهم، ونرسم وجوههم، ونهمس: كل سنة وذكراك طيّبة.