ترى فلة قوار، رئيسة مؤسسة "إنتليجنت نيتوورك (INET)" ومؤسِّسة أكاديمية Inet المتخصصة في الأمن السيبراني، في تصريحها لـ"الأيام نيوز"، أن دخول الجزائر عصر الجيل الخامس (5G) يُعد خطوة متقدمة نحو تحديث البنية الرقمية الوطنية وتعزيز التنمية الاقتصادية في مختلف القطاعات، إلا أن هذا التحول، رغم ما يحمله من آفاق واعدة في مجالات الاتصال والابتكار، قد يُقابَل بتحديات أمنية كبيرة على مستوى الفضاء السيبراني، وهو ما يستدعي اتخاذ الاحتياطات اللازمة ووضع استراتيجية وطنية متكاملة تشمل تعزيز البنية القانونية، وتكوين الكفاءات المحلية، وبناء منظومات مراقبة واستجابة قادرة على احتواء التهديدات قبل وقوعها.
وتعتبر فلة قوار، أن دخول تقنية الجيل الخامس (5G) إلى الجزائر يمثل تقدمًا نوعيًا في مسار التحول الرقمي الوطني، نظراً لما تحمله هذه التكنولوجيا من فرص كبرى في مجال الاتصال والخدمات الذكية والاقتصاد الرقمي. وتؤكد أن هذا التطور يعكس توجهًا استراتيجيا نحو تأسيس بنية تحتية تكنولوجية قادرة على الاستجابة لتحديات العصر الرقمي، إلا أن الوجه الآخر لهذا التقدم يرتبط مباشرة بتصاعد مخاطر الأمن السيبراني.
وترى قوار أن الجيل الخامس (5G) هو تغيير جوهري في منطق عمل البنى التحتية الرقمية، حيث تتوسع الشبكات، وتزداد سرعة تدفق البيانات، وتصبح المنظومات أكثر تداخلاً واعتمادًا على التقنية، ما يفتح المجال أمام بروز ثغرات غير تقليدية قد تُستغل في هجمات إلكترونية معقدة.
وفي طليعة التحديات التي تثير قلق المختصين، تشير رئيسة مؤسسة "إنتليجنت نيتوورك" إلى ما تسميه "تعدد نقاط الهجوم"، وهو ما ينجم عن الارتفاع الكبير في عدد الأجهزة المتصلة، خاصة في ظل انتشار واسع لإنترنت الأشياء (IOT)، ما يزيد من عدد المداخل المحتملة التي يمكن أن تُستغل من قبل المهاجمين لاختراق الأنظمة.
ولا تقف المخاطر عند هذا الحد، بل تمتد إلى ما هو أعمق، حيث تُبرز قوار هشاشة البنى التحتية الحيوية كأحد أبرز بؤر القلق. فالقطاعات الحيوية مثل الصحة، الطاقة، النقل، والصناعة، ستصبح أكثر اعتمادًا على الجيل الخامس (5G)، ما يجعلها أهدافًا محتملة لهجمات سيبرانية قد تكون موجهة أو عشوائية، لكنها في كل الحالات تحمل تأثيرًا كبيرًا على الاستقرار الوطني.
وتؤكد أن تعقيد بنية شبكة (5G)، خاصة مع اعتمادها على تقنيات متقدمة، يُضيف مستويات جديدة من الصعوبة في الكشف عن الثغرات الأمنية. فهذه الطبقات التكنولوجية، رغم ما تحمله من فعالية، إلا أنها قد تخفي داخلها نقاط ضعف غير مرئية حتى الآن، الأمر الذي يستدعي جاهزية تقنية متقدمة لرصدها والاستجابة لها بسرعة.
إلى جانب ذلك، تطرح المتحدثة إشكالية "ضعف المراقبة والتتبع"، وهي مشكلة ناتجة عن الطابع اللامركزي لشبكة الجيل الخامس (5G)، ما يقلل من فعالية التدخل السريع في حال وقوع هجمات أو اختراقات، ويعقّد مهمة تعقّب مصدر التهديد أو احتوائه فورًا.
هجمات أكثر تطورًا... ومطلوب تعزيز السياسة الأمنية
وتلفت مؤسِّسة أكاديمية Inet المتخصصة في الأمن السيبراني إلى بعد آخر بالغ الأهمية يتعلق بـ"الاستخدام الخبيث للذكاء الاصطناعي"، حيث يمكن للفاعلين السيبرانيين استغلال فعالية شبكة الجيل الخامس لتكثيف الهجمات من خلال أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على الأتمتة، والمراوغة، واختراق الأنظمة المعقدة دون تدخل بشري مباشر، ما يُحدث تحوّلًا نوعيًا في طبيعة التهديدات.
وترى أن هذا التحول يتطلب من الجزائر اتخاذ الاحتياطات اللازمة وتعزيز منظومات الدفاع الرقمي بما يتماشى مع تعقيدات البيئة التكنولوجية الجديدة. فالهجمات لم تعد تقليدية، والوسائل المتاحة للرد عليها ينبغي أن تكون متطورة تقنيًا، قائمة على التحليل اللحظي للبيانات، واستجابات مرنة وسريعة تتناسب مع طبيعة التهديدات المتغيرة.
وتؤكد المتحدثة أن التحول الرقمي الآمن لا يتحقق بمجرد إطلاق الشبكات المتطورة، وإنما يتطلب رؤية وطنية متكاملة تُراعي الأمن كجزء أصيل من كل مشروع تكنولوجي، مع إشراك جميع المتدخلين من الدولة والقطاع الخاص والهيئات البحثية في وضع وتنفيذ هذه الرؤية.
وفي هذا السياق، تدعو قوار إلى ضرورة الاستثمار في تكوين الخبراء، وإنشاء مراكز رصد واستجابة وطنية متخصصة، إلى جانب تحديث التشريعات المرتبطة بالأمن السيبراني، بما يجعلها قادرة على مواكبة تطورات التهديدات وأساليب الحماية الحديثة.
وتشير إلى أن الحفاظ على وتيرة الجاهزية في هذا المجال يُعد ضروريًا، لأن أي تراجع في مستوى اليقظة قد يعرّض الجزائر لمخاطر متزايدة، خاصة في ظل سعي العديد من الدول إلى تعزيز سيادتها الرقمية وتحصين فضائها السيبراني.
وتؤكد على أن التحول إلى الجيل الخامس (5G) هو فرصة تنموية، لكنه يحمل في طياته اختبارات حقيقية لقدرة الدولة على التنبؤ، والتحكم، وحماية فضائها الرقمي، داعية إلى جعل الأمن السيبراني ركيزة أساسية من ركائز السيادة الرقمية للبلاد.
استراتيجية جزائرية متكاملة لمواجهة مخاطر الجيل الخامس
كما تعتبر فلة قوار أن مواجهة التحديات التي يفرضها الانتقال إلى شبكة الجيل الخامس (5G) في الجزائر يتطلب استراتيجية أمنية وطنية متكاملة، تقوم على محاور عملية ومدروسة تُراعي طبيعة السياق الرقمي الجديد. وتؤكد أن مجرد الترقب لا يكفي، إذ يجب العمل المسبق على بناء منظومة حماية قادرة على الاستباق والاستجابة.
وترى قوار أن أولى الأولويات تتمثل في وضع استراتيجية وطنية واضحة للأمن السيبراني، تتضمن أبعاد الوقاية والكشف والاستجابة، مع الأخذ في الاعتبار خصوصيات البيئة الجزائرية، سواء من حيث البنية التحتية أو القدرات البشرية والتقنية المتوفرة.
وتقترح في هذا السياق إنشاء مركز وطني خاص بالإشراف والاستجابة للحوادث الرقمية (CERT/SOC)، يتولى بشكل دائم مراقبة التهديدات السيبرانية وتنسيق التدخلات بين مختلف الهيئات. هذا الهيكل المؤسسي سيكون بمثابة الدرع الرقمي للدولة، ويُعد حجر أساس لأي دفاع سيبراني فعّال.
وتُشدد على ضرورة تعزيز الإطار القانوني والتشريعي بما يتماشى مع التهديدات الجديدة. فالأمن الرقمي لا يمكن أن يظل فضاءً مفتوحًا دون ضوابط، بل يجب أن تكون هناك قوانين واضحة تحمّل المسؤولية وتُجرّم الأفعال الخبيثة وتحدد صلاحيات الجهات المختصة.
وتضيف قوار أن تكوين الكفاءات المحلية أمر لا غنى عنه، مشيرة إلى أهمية تطوير برامج تدريب متخصصة في الأمن السيبراني، ومنح الشهادات المعترف بها، خاصة من خلال مراكز متخصصة مثل أكاديمية INET، من أجل خلق نواة بشرية قادرة على قيادة التحول الرقمي الآمن.
كما تؤكد أن جميع مشغلي الجيل الخامس (5G) جب أن يُلزموا بمعايير صارمة في ما يتعلق بالسلامة والامتثال، وذلك من خلال مراقبة دائمة لمدى صلابة بنيتهم التحتية وقدرتهم على مواجهة التهديدات، لأن أي خلل في أي نقطة من الشبكة قد يؤدي إلى أضرار شاملة.
نحو سيادة رقمية جزائرية قائمة على الابتكار والتعاون
وترى فلة قوار أن ضمان أمن شبكة الجيل الخامس (5G) تطلب أيضًا بناء منظومة تكنولوجية مستقلة تدعم السيادة الرقمية للجزائر، وهو ما يجعل دعم البحث والابتكار المحلي في مجال الأمن السيبراني مسألة مصيرية لا يمكن تأجيلها.
وتشدد على أهمية تشجيع ظهور حلول جزائرية سيادية في مجال الحماية الرقمية، من خلال تحفيز الجامعات ومخابر البحث والشركات الناشئة لتطوير أدوات وخوارزميات محلية، مما يعزز من الاستقلالية الاستراتيجية ويقلل من التبعية للتكنولوجيا الأجنبية.
في ذات السياق، تؤكد قوار أن التعاون الإقليمي والدولي يُعد ركيزة لا يمكن إغفالها، فالتحديات السيبرانية لا تعترف بالحدود، والتعامل معها يتطلب تبادل المعلومات والخبرات والأدوات بين الدول، لمواجهة التهديدات العابرة للحدود بكفاءة أكبر.
وترى أن التحول إلى (5G) هو فرصة اقتصادية وتكنولوجية واعدة، لكنه في الوقت ذاته نقطة تحول حساسة تتطلب وعيًا سياسيًا وتقنيًا عميقًا، إذ أن المخاطر المصاحبة له قد تكون معقدة ومركبة، تتطلب استجابة متكاملة بعيدة عن الحلول الجزئية.
وتعتبر أن نجاح الجزائر في هذه المرحلة سيعتمد بدرجة كبيرة على قدرتها في تعبئة الموارد القانونية، والبشرية، والتقنية اللازمة، ورسم خارطة طريق واضحة تُدمج فيها كل الأطراف الفاعلة، من مؤسسات حكومية إلى قطاع خاص ومجتمع أكاديمي.
وفي ختام تصريحها، تؤكد فلة قوار على ضرورة أن يتحول الأمن السيبراني إلى ركيزة مركزية في مشروع السيادة الرقمية الوطنية، وأن بناء بيئة آمنة لتقنية الجيل الخامس (5G) هو شرط أساسي للاستفادة الكاملة من إمكاناتها في التنمية والابتكار والتنافسية.