2025.05.21
اقتصاد

خارطة طريق جزائرية نحو المستقبل الذكي.. الجيل الخامس يدق الأبواب


في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم، تقف الجزائر على أعتاب مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح اقتصادها الوطني وتعزز موقعها في خارطة الاقتصاد الرقمي العالمي. فإدماج تقنية الجيل الخامس لا يُعد مجرّد تحديث تقني، بل هو رهان استراتيجي يحمل في طيّاته وعودًا بنقلة نوعية في أداء القطاعات الحيوية، من الصحة إلى التعليم، ومن الصناعة إلى الإدارة الرقمية. وبين الحماس لإطلاق الشبكة، وتحديات البنية التحتية والتشريعات، يبرز تساؤل جوهري: هل تمتلك الجزائر كل المقومات التي تخوّلها للاستفادة الكاملة من ثورة الجيل الخامس؟

تستعد الجزائر للدخول رسميا إلى عصر الجيل الخامس (5G) خلال النصف الثاني من عام 2025، في خطوة تُعدّ محورية ضمن مسار التحول الرقمي الوطني وبناء اقتصاد قائم على المعرفة. ومع تزايد الطلب على خدمات اتصال أسرع وأكثر استجابة، أصبح تعميم هذه التقنية أحد الأهداف الاستراتيجية للدولة لتحسين البنية التحتية للاتصالات، وأيضا لتسريع نمو القطاعات الحيوية ورفع كفاءة الأداء الحكومي والاقتصادي.

شهدت الجزائر خلال السنوات الأخيرة ديناميكية ملحوظة في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، تجسدت في مشاريع ضخمة لتوسيع التغطية الرقمية وتحسين خدمات الإنترنت. وخصصت الحكومة أكثر من مليار دولار سنويًا لتطوير البنية التحتية الرقمية، خاصة فيما يتعلق بالألياف البصرية والنطاق العريض، ما مثّل أرضية تمهيدية لإدماج الجيل الخامس مستقبلاً.

تنامي استخدام الإنترنت وانتشار الأجهزة الذكية دفع إلى التفكير الجدي في ضرورة القفز إلى مرحلة جديدة من الاتصالات المتطورة. وقد ساهمت برامج التوسعة في رفع عدد المشتركين في الإنترنت الثابت من 3.5 ملايين إلى أكثر من 6 ملايين أسرة، إلا أن الجزائر ما تزال تسعى لبلوغ نسبة تغطية تتجاوز 80%، خاصة في المناطق الداخلية والجنوبية التي تعاني من ضعف الربط الشبكي.

وتدرج الحكومة الجزائرية الجيل الخامس ضمن رؤية شاملة لتعزيز السيادة الرقمية، وتحفيز الابتكار، وتقليص الفجوة التكنولوجية بين المدن والمناطق الريفية. ولهذا الغرض، بدأت في إعداد إطار قانوني منظم، إلى جانب تقييمات تقنية وتنظيمية بالشراكة مع فاعلين محليين ودوليين لضمان جاهزية السوق ونجاح الإطلاق.

خارطة طريق حكومية لإطلاق الجيل الخامس

أكد وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، سيد علي زروقي، أن الجزائر تعتزم إطلاق شبكة الجيل الخامس خلال النصف الثاني من سنة 2025، في خطوة وصفها بـ"التحول الاستراتيجي"، لا مجرّد تحديث شبكي. وأوضح أن المشروع يخضع حاليًا لدراسات معمّقة تشمل الأبعاد التقنية، والمالية، والتنظيمية، بهدف ضمان إطلاق ناجح وآمن لهذه التقنية المتقدمة.

وتُنفَّذ هذه الدراسات بالتنسيق بين الحكومة، وشركات الاتصال، وشركاء تكنولوجيين دوليين، لضمان مطابقة المعايير العالمية في الأمان السيبراني، واستقرار الخدمة، وكفاءة الأداء. وتأتي هذه الخطوة لتقطع الشكوك التي أثيرت بشأن تأخر الجزائر مقارنة بدول أخرى، وتُظهر بالمقابل رغبة الدولة في تجنّب الإطلاق العشوائي أو غير المنظم الذي قد يُضعف فعالية التكنولوجيا.

وبالتوازي مع التحضير التقني، تعمل الحكومة على سن قانون جديد ينظم الخدمات الإلكترونية والمعاملات الرقمية، ويضمن بيئة قانونية تحفّز الاستثمار وتحمي المستهلك. يتضمّن مشروع القانون بنودًا تخصّ حماية المعطيات الشخصية، وضبط التعريفات والتصديقات الإلكترونية، ما يؤشر على نضج مقاربة الدولة في تهيئة الإطار التشريعي قبل دخول الجيل الخامس حيز الخدمة.

وتعوّل الدولة على أن يكون هذا الإطلاق رافعة لتحديث قطاعات مثل الصناعة، والنقل، والصحة، والتعليم، وذلك من خلال توفير سرعات اتصال تفوق 1 غيغابت/ثانية وزمن استجابة منخفض للغاية، ما يفتح الباب أمام تطبيقات ذكية، وخدمات عمومية أكثر تفاعلية. وتسعى الحكومة لأن يصبح الجيل الخامس محرّكًا فعليًا للاقتصاد الرقمي الوطني.

وتشمل خارطة الطريق التي ترسمها وزارة البريد البنية القانونية، والسياسات التجارية، ومجال الابتكار، ما يعكس مقاربة شاملة تُوازن بين الحكامة والابتكار، وتُمهّد لتحول رقمي مستدام. وتُعد هذه المنهجية ضرورية لتجنّب تكرار أخطاء سابقة في تقنيات لم تُرافقها إصلاحات تشريعية أو تنظيمية كافية.

تجارب ناجحة... شبكات الاتصالات تُثبت الجاهزية التقنية

وبرزت شركتا “جازي” و”موبيليس” كمحركين رئيسيين في جهود تجريب تقنية الجيل الخامس بالجزائر. فقد أجرت جازي، بالتعاون مع شركتي "هواوي" و"نوكيا"، تجارب ميدانية ناجحة في مدن كبرى مثل الجزائر العاصمة، وهران، وعنابة، وأظهرت هذه التجارب سرعات اتصال تخطّت حاجز 1.5 غيغابايت في الثانية، وهو ما يعكس تطور الشبكة وقدرتها على استيعاب متطلبات 5G.

كما أعلنت شركة جازي عن استعدادها لتوسيع التجارب إلى ولاية تلمسان بالتعاون مع شركة “ZTE” الصينية، في خطوة تؤكد التزامها بتوسيع نطاق التجارب وتعزيز شراكتها مع رواد التكنولوجيا العالميين. هذه الشراكات تُظهر رغبة المتعاملين في نقل الخبرة والتكنولوجيا، مع مراعاة المعايير الدولية للأمن السيبراني وجودة الخدمة.

من جهتها، صرحت مسؤولة الاتصال بشركة موبيليس، فرح أوشعبان، بأن التجارب الأولية في العاصمة أظهرت "استجابة أعلى بكثير من شبكة الجيل الرابع"، ما يجعل الانتقال إلى 5G مسألة وقت أكثر من كونها عائقًا تقنيًا. وأضافت أن هذه التقنية تفتح آفاقًا واسعة لتطبيقات متقدمة في مجالات مثل الطب عن بُعد، والتعليم الرقمي، وإنترنت الأشياء.

كما شملت التجارب أيضًا اختبارات لمدى قدرة الشبكات على التعامل مع عدد كبير من الأجهزة المتصلة في نفس الوقت، وهي ميزة أساسية تميّز الجيل الخامس عن سابقيه. وأكدت النتائج قدرة الشبكات الجزائرية على تحمّل الضغط الشبكي، خاصة في المناطق الحضرية ذات الكثافة العالية، وهو ما يعزّز ثقة الدولة في جاهزية المشغّلين للإطلاق الفعلي.

ويعكس نجاح هذه التجارب تطور البنية التحتية التقنية للاتصالات في الجزائر، ويُعد مؤشرًا على أن البلاد باتت قريبة من دخول فعلي إلى عالم الجيل الخامس. كما يُبرز جدية الفاعلين المحليين في مواكبة التحول الرقمي، والاستعداد لاستغلال هذه التقنية بما يخدم طموحات الدولة، ويستجيب لتطلعات المواطنين في خدمات أسرع وأكثر ذكاءً.

الجيل الخامس.. هل يكون قاطرة القطاعات الحيوية في الجزائر

ويشكل قطاع الصحة أحد أبرز المستفيدين من تقنية الجيل الخامس، إذ تُتيح هذه الشبكة فائقة السرعة تطوير خدمات الطب عن بُعد، بما في ذلك التشخيص والمعاينة في الوقت الحقيقي. وبفضل زمن الاستجابة المنخفض وسرعة الاتصال العالية، سيكون بإمكان الأطباء في الجزائر العاصمة أو وهران متابعة حالات مرضى في ولايات أخرى قد تكون معزولة، ما يُساهم في تقليص الفوارق الجغرافية في جودة الرعاية الصحية.

كما سيساهم الجيل الخامس في إحداث تحول جوهري داخل القطاع الصناعي، عبر تمكين ما يُعرف بـ"المصانع الذكية" التي تعتمد على الأتمتة، وإنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي. وبفضل البنية الشبكية القوية التي توفرها 5G، ستكون المصانع الجزائرية قادرة على تحسين الإنتاجية، وتقليل الأخطاء، ورفع القدرة التنافسية، مما يعزّز من مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي.

أما في قطاع التربية، يُتوقع أن تُمكّن تقنية الجيل الخامس من توسيع التعليم عن بُعد بأسلوب أكثر سلاسة وتفاعلية. وستتيح هذه التقنية توظيف أدوات مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز في الصفوف الافتراضية، ما يُحدث ثورة في طريقة تقديم الدروس، خاصة في المواد العلمية والتطبيقية. كما يُنتظر أن تسهم في سد فجوة التعلّم في المناطق النائية.

وسيساهم الانتقال إلى الجيل الخامس أيضا في تنشيط الاقتصاد الرقمي، وفتح آفاق جديدة لريادة الأعمال، خصوصًا في مجالات البرمجيات، وتطوير التطبيقات، وخدمات البيانات الضخمة. كما يُتوقع أن يخلق هذا التحول آلاف مناصب الشغل الجديدة في مجالات متخصصة، ما يُعزز من توجه الجزائر نحو اقتصاد المعرفة، ويدعم طموحاتها في التنويع الاقتصادي بعيدًا عن المحروقات.

ومن خلال نشر شبكات الجيل الخامس، يمكن تطوير الخدمات العمومية الرقمية، ما يُحسّن من التفاعل بين المواطن والإدارة. وسيكون بمقدور الجزائريين تنفيذ إجراءات إدارية بسرعة أكبر، وبجودة أفضل، دون الحاجة إلى التنقل، خاصة في ظل التوجه نحو تعميم المنصات الإلكترونية الحكومية. كما أن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإدارة قد يصبح أكثر فاعلية مع بيئة اتصال قوية.

هل الجزائر مستعدة لاستيعاب الجيل الخامس؟

رغم التحسن الملحوظ في البنية التحتية الرقمية، لا تزال الجزائر تواجه تحديات في استكمال تغطية الألياف البصرية، خاصة في المناطق الداخلية والجنوبية. فبينما ارتفع عدد الأسر المرتبطة بالإنترنت إلى أكثر من 6 ملايين، ما تزال نسبة التغطية الشاملة دون 80%. ويمثل هذا العائق تحديًا أمام تعميم خدمات الجيل الخامس التي تتطلب شبكة قوية ومتواصلة.

كما أن نشر شبكة الجيل الخامس يتطلب استثمارات ضخمة، سواء من الدولة أو من متعاملي الهاتف النقال. وتكمن التحديات في شراء المعدات المتطورة، وتحديث الأبراج الهوائية، وضمان التغطية الكاملة للمدن الكبرى والمناطق الصناعية. وتشير تقارير تقنية إلى أن تكلفة نشر شبكة 5G على المستوى الوطني قد تتجاوز عدة مليارات من الدولارات، ما يستدعي شراكات دولية وتمويلا مستدامًا.

ورغم إعلان الحكومة عن إعداد مشروع قانون خاص بالخدمات الإلكترونية، إلا أن هذا النص لا يزال في طور الدراسة ولم يُفعل بعد. وعليه، فغياب إطار قانوني متكامل يبطئ من استعداد السوق، ويخلق نوعًا من التردد لدى المستثمرين، سواء المحليين أو الأجانب. كما أن حماية المعطيات الشخصية، وضبط التوقيع والتصديق الرقمي، تبقى من الملفات الحساسة التي تتطلب وضوحًا تشريعيًا.

ونجاح الانتقال نحو الجيل الخامس يتطلب تأهيلًا بشريًا وتكوينًا متخصصًا في مجالات التكنولوجيا الحديثة. وتواجه الجزائر تحديًا في سد النقص في الكفاءات الرقمية القادرة على إدارة وتطوير أنظمة 5G. إضافة إلى ذلك، لا يزال الوعي المجتمعي باستخدام آمن ومسؤول للتقنية محدودًا، وهو ما قد يفتح المجال لسوء الاستخدام أو ضعف الاستفادة.

يمثّل دخول الجزائر إلى عالم الجيل الخامس نقطة تحوّل كبرى في مسار التحول الرقمي وبناء اقتصاد المعرفة، لما تحمله هذه التقنية من إمكانات هائلة لتطوير القطاعات الحيوية، وتحسين جودة الخدمات، وتعزيز التنافسية. ورغم التحديات القائمة على مستوى البنية التحتية، والتشريعات، والتكوين، إلا أن المؤشرات تؤكد أن الجزائر وضعت الأسس التقنية والتنظيمية اللازمة للانطلاق. ويبقى الرهان الحقيقي في مواصلة الاستثمار الذكي، وتسريع الإصلاحات، وتوسيع الوعي المجتمعي، لضمان استغلال فعلي وناجع لهذه التكنولوجيا، بما يخدم المواطن، ويُعزز مكانة الجزائر في المشهد الرقمي الإقليمي والدولي.