2025.05.21
اقتصاد

بنية تحتية جديدة.. كيف حوّلت الجزائر مياه البحر إلى مورد مستدام؟


لم يكن خيار الجزائر في تعزيز سيادتها المائية مجرد حاجة ظرفية، بل رؤية استراتيجية تعكس إدراكًا مسبقا بأهمية " الماء" في رسم ملامح استقرار اجتماعي وتنمية اقتصادية مستدامة. وسط تحديات شح الأمطار وامتداد موجة الجفاف لجأت الجزائر إلى الاستثمار في مشاريع تحلية مياه البحر، لتأمين حاجيات ساكنتها بالماء الشروب، بعيدًا عن التقلبات المناخية وارتدادات الأزمات العالمية. في فيفري 2025، ، دخلت الجزائر مرحلة جديدة من استقلالها المائي مع بدء تدشين خمس محطات كبرى لتحلية مياه البحر، موزعة عبر ولايات وهران، تيبازة، الطارف، بومرداس، وبجاية. هذه المشاريع، التي جرى تنفيذها بسواعد محلية، تشكل تحولًا نوعيًا في مسار الأمن المائي، حيث ستساهم في رفع القدرة الإنتاجية للمياه المحلاة إلى مستويات غير مسبوقة. بحضور كبار المسؤولين في الدولة، استمع الرئيس تبون إلى عروض تفصيلية حول مراحل إنجاز هذه المحطات والتقنيات المستخدمة فيها. وأكد خلال كلمته أن هذه المشاريع العملاقة "شرف للجزائر المنتصرة"، مشيرًا إلى أن توفير المياه للجزائريين يمثل أولوية قصوى، وأن هذه الإنجازات ستُخلد في التاريخ باعتبارها محطات مفصلية في مسيرة التنمية الوطنية. بأيدٍ جزائرية إنجاز هذه المحطات الكبرى كان ثمرة رؤية استشرافية اعتمدت على تسخير الموارد المحلية والخبرات الوطنية لإنجاز مشاريع كانت في الماضي حكرًا على الشركات الأجنبية. وبفضل هذه الجهود، تمكنت الجزائر من إتمام هذه المحطات في وقت قياسي، وبمعايير عالمية تضمن الاستدامة البيئية والاقتصادية. ويحمل هذا التدشين دلالات سياسية واقتصادية عميقة، فهو يؤكد عزم الجزائر على مواجهة تحديات التغير المناخي وشح الموارد المائية التقليدية، مع تقليل الاعتماد على مصادر المياه التقليدية لصالح موارد غير تقليدية أكثر استدامة. كما يعكس الإرادة السياسية في تعزيز سيادة البلاد على مواردها الاستراتيجية، وعدم ترك أمنها المائي رهينة للعوامل الخارجية، في خطوة تعزز موقع الجزائر بين الدول الرائدة في مجال تحلية المياه في المنطقة والعالم. تفاصيل المشاريع الخمسة تعد محطة الرأس الأبيض في وهران واحدة من المحطات الخمس الكبرى التي تم تدشينها، وهي الأكبر في غرب البلاد بطاقة إنتاجية تبلغ 300,000 متر مكعب يوميًا. توفر هذه المحطة المياه لسكان وهران والولايات المجاورة، بما في ذلك مستغانم وعين تموشنت، مما يساهم في تقليل معاناة السكان مع الانقطاعات المتكررة للمياه، خاصة خلال فصل الصيف. تم تنفيذ المشروع من قبل شركة الهندسة المدنية والبناء (GCB)، وهي واحدة من الشركات الوطنية الرائدة في هذا المجال، مما يعكس توجه الجزائر نحو توطين هذه الصناعة وتقليل الاعتماد على الشركات الأجنبية. أما محطة فوكة 2 في ولاية تيبازة، فقد تم إنشاؤها لتلبية احتياجات السكان في تيبازة وأجزاء من العاصمة الجزائر. بطاقة إنتاجية مماثلة تبلغ 300,000 متر مكعب يوميًا، تساهم هذه المحطة في دعم استقرار الإمدادات المائية لمنطقة تشهد كثافة سكانية متزايدة. وقد تم تنفيذ المشروع من قبل شركة كوسيدار قنوات، ما يؤكد التزام الجزائر بإسناد المشاريع الاستراتيجية إلى كفاءات وطنية قادرة على تنفيذها وفق معايير دولية. وفي شرق البلاد، تم تدشين محطة كدية الدراوش بولاية الطارف، وهي واحدة من المشاريع التي طال انتظارها، حيث تعاني هذه المنطقة من شح الموارد المائية، خاصة خلال فترات الجفاف. توفر هذه المحطة المياه لسكان الطارف، قالمة، عنابة، وسكيكدة، ما يعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية لهذه المناطق. بقدرة إنتاجية تبلغ 300,000 متر مكعب يوميًا، ستخفف الضغط على سد بني هارون، الذي كان حتى وقت قريب المصدر الرئيسي للمياه في المنطقة. تم تنفيذ هذا المشروع من قبل الشركة الجزائرية لإنجاز المشاريع الصناعية (SARPI)، فرع سوناطراك، مما يعكس مدى انخراط الشركات الجزائرية الكبرى في مشاريع البنية التحتية الوطنية. وفي ولاية بومرداس، تم تدشين محطة كاب جنات، التي توفر أيضًا 300,000 متر مكعب يوميًا، ما يضمن إمدادات مستقرة من المياه لسكان بومرداس، تيزي وزو، وجزء من العاصمة. وتعتمد المحطة على أحدث تقنيات التناضح العكسي، التي تتيح تقليل استهلاك الطاقة وزيادة كفاءة إنتاج المياه المحلاة. المشروع تم تنفيذه من قبل المؤسسة الوطنية للأشغال البترولية الكبرى، وهو جزء من السياسة الوطنية التي تهدف إلى إشراك المؤسسات الوطنية في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية. أما المحطة الخامسة، تيغرمت توجة في ولاية بجاية، فهي محطة محورية لتزويد مناطق واسعة من منطقة القبائل بالمياه الصالحة للشرب، بقدرة إنتاجية تبلغ 300,000 متر مكعب يوميًا. سكان بجاية، سطيف، والمناطق المجاورة سيستفيدون من هذه المحطة، التي تم إنجازها من قبل الشركة الوطنية للقنوات. وتعد هذه المحطة مثالًا على التوسع في البنية التحتية المائية في المناطق التي تعاني من تقلبات حادة في مواردها المائية الطبيعية. 14 محطة سابقة وبهذه المشاريع الخمس الكبرى، يرتفع عدد محطات تحلية مياه البحر في الجزائر إلى 19 محطة، بعد أن كانت البلاد تعتمد في السابق على 14 محطة قائمة وموزعة عبر مختلف الولايات الساحلية. كانت هذه المحطات السابقة توفر 2.2 مليون متر مكعب يوميًا، ما يمثل حوالي 20% فقط من إجمالي الاحتياجات الوطنية للمياه الصالحة للشرب. ومع دخول المحطات الجديدة حيز الخدمة، قفزت القدرة الإنتاجية الإجمالية إلى 3.7 مليون متر مكعب يوميًا، مما يجعل الجزائر تعتمد بنسبة 42% على المياه المحلاة في تلبية الطلب المحلي. تراكم الخبرة في تشغيل هذه المحطات الـ 14 السابقة ساعد الجزائر على تطوير استراتيجيات جديدة لتوسيع شبكة التحلية بشكل أكثر كفاءة واستدامة. ومع دخول المحطات الخمس الجديدة للخدمة، أصبحت البلاد تمتلك واحدة من أكبر شبكات تحلية مياه البحر في شمال إفريقيا، ما يجعلها قادرة على مواجهة الأزمات المائية المستقبلية بثقة أكبر. تعزيز الأمن المائي بخطوات استراتيجية في هذا السياق، أعلنت الحكومة عن خطة جديدة لإنجاز ست محطات تحلية مياه البحر ابتداءً من عام 2025، موزعة على ولايات تلمسان، مستغانم، الشلف، تيزي وزو، جيجل، وسكيكدة، بطاقة إنتاجية تصل إلى 300 ألف متر مكعب يوميًا لكل محطة. وبذلك، ستضيف هذه المنشآت 1.8 مليون متر مكعب يوميًا إلى القدرة الإنتاجية الوطنية، لترتفع كمية المياه المحلاة إلى أكثر من 5.5 مليون متر مكعب يوميًا بحلول 2030، ما يعزز قدرة الجزائر على تأمين احتياجات سكانها في ظل التحديات المناخية المتزايدة. ست محطات أخرى على الطريق إلى جانب هذه المحطات الكبرى، سيتم إنشاء محطة متوسطة في تامدة أوقمون بولاية تيزي وزو بطاقة 60 ألف متر مكعب يوميًا، ما يعزز قدرة البلاد على مواجهة ندرة المياه، خاصة في المناطق الجبلية التي تعاني من محدودية الموارد المائية الطبيعية. هذا المشروع يعكس التزام الحكومة بتوسيع شبكة التحلية في المدن الساحلية الكبرى وأيضًا في المناطق التي تحتاج إلى حلول مبتكرة لتوفير المياه الصالحة للشرب، وهو ما يعكس تحولًا استراتيجيًا في طريقة إدارة الموارد المائية في الجزائر. وزير الري، طه دربال، أكد في تصريحاته أن هذه المشاريع تأتي ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى رفع نسبة الاعتماد على المياه المحلاة إلى 60% من إجمالي استهلاك المياه الصالحة للشرب بحلول 2030. حاليًا، تغطي المياه المحلاة 42% من الطلب الوطني، بفضل المحطات الـ19 التي دخلت الخدمة، ومع دخول المحطات الست الجديدة، سيتم تقليل الاعتماد على المياه السطحية والجوفية التي تتأثر بشكل متزايد بالتغيرات المناخية والجفاف. كما أشار الوزير إلى أن هذه المحطات ستساعد في تعزيز الأمن المائي للولايات الساحلية والولايات الداخلية على حد سواء، حيث سيتم نقل المياه المحلاة لمسافات تصل إلى 150 كلم نحو المدن الواقعة في الداخل. استقلالية تكنولوجية وشكلت مشاريع تحلية مياه البحر التي تم تدشينها مؤخرًا محطة مفصلية في تأمين المياه الصالحة للشرب، وأيضًا في تأكيد قدرة الجزائر على تنفيذ مشاريع استراتيجية كبرى بأيدٍ وطنية خالصة. فقد أثبتت هذه المشاريع أن الكفاءات الجزائرية تمتلك ما يكفي من الخبرة والتقنية والإرادة لإنجاز منشآت معقدة وحساسة مثل محطات التحلية، التي تتطلب معايير عالية في التصميم، والهندسة، والتنفيذ، والتشغيل. وقد تم تنفيذ هذه المحطات الخمس الأخيرة من طرف شركات وطنية كبرى، من بينها الشركة الوطنية للقنوات، وكوسيدار قنوات، وساربي (فرع سوناطراك)، إلى جانب مؤسسات عمومية أخرى متخصصة، استطاعت أن تبرهن على جاهزيتها لتولي هذا النوع من المشاريع دون الاعتماد على الخبرات الأجنبية، كما كان الحال في السابق. هذا الاعتماد على الكفاءات الوطنية في بناء وتشغيل محطات التحلية هو جزء من رؤية استراتيجية لبناء سيادة مائية مكتملة الأركان، تتجاوز مجرد الإنجاز إلى التحكم في التكنولوجيا والتصنيع. وفي هذا الإطار، صرّح وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، محمد عرقاب، أن الجزائر لن تكتفي بتركيب المحطات، وإنما تسعى إلى تصنيع مكوناتها محليًا، وعلى رأسها أغشية التناضح العكسي، وهي قلب العملية التكنولوجية في التحلية. هذه الخطوة ستمكن البلاد من تقليل فاتورة الاستيراد، وضمان استقلالها الصناعي في قطاع حساس يرتبط مباشرة بأمن المواطن واستقرار التنمية. ولتجسيد هذه الرؤية، شرعت الجزائر في عقد شراكات دولية مدروسة، من أبرزها توقيع اتفاقية شراكة مع شركة "بورت إنيرجي لوجيستيك" الألمانية، تهدف إلى نقل تكنولوجيا إنتاج الأغشية إلى الجزائر. ويؤكد الوزير عرقاب أن هذه الشراكة تمثل "لبنة أولى في بناء قاعدة صناعية وطنية خاصة بتقنيات التحلية"، مضيفًا أن هذا التوجه سيدعم قدرات البلاد في إنشاء وصيانة المحطات، ويعزز من موقع الجزائر كمصدر للخبرة في هذا المجال مستقبلاً. وبالتوازي مع هذا التوجه الصناعي، تعمل الحكومة على دمج البحث العلمي والتكوين الأكاديمي في قطاع تحلية المياه، من خلال اتفاقيات تعاون بين الجامعات ومراكز البحث، تهدف إلى تطوير حلول مبتكرة تتماشى مع خصوصيات البيئة الجزائرية، سواء من حيث جودة المياه الخام، أو الظروف المناخية، أو الطاقة المستعملة في التشغيل. ووفقًا لما أكده عرقاب، فإن الهدف هو "إعداد جيل جديد من الخبراء والتقنيين قادر على ضمان استدامة هذه المنشآت الاستراتيجية"، ما يعني أن الجزائر تبني نظامًا متكاملاً للسيادة التقنية والمائية. تخفيف الضغط على السدود وفي ظل تزايد حدة الجفاف وتغير نمط التساقطات المطرية في الجزائر، بات من الواضح أن الاعتماد على السدود والمياه الجوفية كمصادر رئيسية لم يعد خيارًا كافيًا أو مستدامًا. فقد كشف وزير الري، طه دربال، في أكثر من تصريح، أن نسبة امتلاء السدود على المستوى الوطني لا تتجاوز 38.4%، وهو معدل مقلق بالنظر إلى حجم الطلب المتزايد على المياه في القطاعات السكنية والزراعية والصناعية. هذا الوضع يفرض إعادة النظر في سياسة الموارد المائية، والبحث عن بدائل أكثر استقرارًا، لا تتأثر بالعوامل المناخية أو تقلّب المواسم، وهو ما جعل تحلية مياه البحر تتحول من خيار إضافي إلى ضرورة وطنية. وزير الري أوضح أن الوصول إلى 5.5 مليون متر مكعب يوميًا من المياه المحلاة بحلول سنة 2030 سيرفع نسبة المياه المحلاة إلى 60%، ما يعني أن الجزائر ستكون قد تمكنت من تقليل الضغط على السدود بشكل كبير، وتوجيه المياه السطحية والجوفية نحو قطاعات استراتيجية مثل الفلاحة والصناعة، أو الاحتفاظ بها كمخزون استراتيجي للأزمات. مكاسب اقتصادية تُعد مشاريع تحلية مياه البحر في الجزائر جزءًا من رؤية أشمل تتجاوز ضمان التزود بالماء الشروب، لتشمل تحفيز ودعم القطاعات الاقتصادية الحيوية، وعلى رأسها الزراعة والصناعة. فقد أكدت الحكومة أن تحرير المياه الجوفية والسطحية من الضغط الناجم عن استخدامها في الشرب سيمكن من إعادة توجيه هذه الموارد نحو الاستخدامات الاقتصادية، ما يمثل تحولًا استراتيجيًا في إدارة المياه، ويمنح هذه القطاعات دفعًا قويًا للاستثمار والتوسع في ظل تحديات مناخية متزايدة. ووفقًا لتقديرات وزارة الري، فإن رفع نسبة الاعتماد على مياه البحر المحلاة سيمكن من تخصيص أكثر من 500 مليون متر مكعب سنويًا من المياه التقليدية لفائدة النشاط الفلاحي والصناعي، ما من شأنه تعزيز الإنتاج الوطني وتحسين القدرة التنافسية للمؤسسات المحلية، خاصة في ظل سعي الجزائر لتحقيق الأمن الغذائي وتقليص فاتورة الواردات. وقد أشار الوزير طه دربال إلى أن هذه المقاربة الجديدة تعكس "رؤية استشرافية لتأمين المياه للمواطن دون أن يكون ذلك على حساب التنمية الاقتصادية". دعم الفلاحة والصناعة عبر استقرار الموارد المائية في المجال الزراعي، الذي يُعد من أكبر المستهلكين للمياه، سيُمكن هذا التوجه من استقرار الإنتاج الفلاحي، خاصة في مناطق الظل والمناطق الداخلية التي عانت طويلًا من تقلبات التزود بالمياه، مما انعكس على المحاصيل الزراعية وعلى تذبذب دخل الفلاحين. كما سيفتح المجال أمام تطوير مشاريع زراعية كبرى تعتمد على مياه السقي المنتظمة بدل الاعتماد على الأمطار أو مياه السدود غير المضمونة. أما في القطاع الصناعي، فستساهم وفرة المياه التقليدية المخصصة للإنتاج في تشجيع الصناعات التحويلية والغذائية والمعدنية، خصوصًا في الولايات التي تمتلك طاقات إنتاجية لكنها تفتقر إلى الموارد المائية الكافية. وهذا ما يعزز فرص الاستثمار الصناعي المحلي، ويجذب رؤوس أموال جديدة للاستفادة من الاستقرار المائي الذي توفره مشاريع التحلية. استثمارات ضخمة بحاجة إلى حلول مبتكرة ورغم القفزة النوعية التي حققتها الجزائر في مجال تحلية مياه البحر، إلا أن هذه الاستراتيجية تواجه تحديات متعددة تتطلب حلولًا مبتكرة لضمان نجاحها على المدى الطويل. يتمثل التحدي الأول في التكاليف الباهظة لإنشاء وصيانة محطات التحلية، حيث تتطلب هذه المشاريع استثمارات ضخمة تشمل البنية التحتية والتشغيل والصيانة. فعلى الرغم من أن الجزائر خصصت أكثر من 3 مليارات دولار لإنجاز مشاريع التحلية، إلا أن تشغيل هذه المحطات بشكل مستدام قد يفرض ضغوطًا مالية إضافية، خاصة مع ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية المستخدمة في عمليات التحلية. لذا، فإن البحث عن حلول أكثر كفاءة من حيث استهلاك الطاقة وتقليل التكاليف التشغيلية بات ضرورة ملحة لضمان استمرار هذه المشاريع دون أن تتحول إلى عبء مالي على الدولة. إدماج الطاقات المتجددة في التحلية من بين الحلول التي بدأت الجزائر في تبنيها، إدخال الطاقات المتجددة في تشغيل محطات التحلية، حيث أعلنت الحكومة أن 30% من الطاقة المستخدمة في المحطات الجديدة ستكون من مصادر متجددة، مثل الطاقة الشمسية. هذا التوجه سيمكن من تقليل التكاليف التشغيلية والحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري، مما يساهم في تقليل الأثر البيئي لهذه المشاريع. إلا أن تطبيق هذه الحلول يحتاج إلى تطوير البنية التحتية للطاقة المتجددة في البلاد، وتعزيز الأبحاث في تقنيات التحلية التي تعتمد على استهلاك أقل للطاقة، مثل التحلية عبر الطاقة الشمسية أو نظم إعادة تدوير الطاقة الحرارية داخل المحطات. تحسين شبكات التوزيع لضمان وصول المياه المحلاة التحدي الآخر يتمثل في تحسين شبكات توزيع المياه لضمان وصول المياه المحلاة إلى المناطق الداخلية. فعلى الرغم من أن المحطات الجديدة ستوفر كميات ضخمة من المياه، إلا أن بعض الولايات الداخلية لا تزال تعاني من مشاكل في التوزيع بسبب تهالك البنية التحتية وتسرب المياه في الشبكات القديمة. ووفقًا لوزارة الري، فإن نسبة التسربات في الشبكات الحالية تصل إلى 30% في بعض المناطق، مما يعني أن جزءًا كبيرًا من المياه المنتجة لا يصل إلى المستهلكين. لذا، فإن نجاح استراتيجية تحلية المياه يعتمد ليس فقط على إنتاج كميات كبيرة، ولكن أيضًا على تطوير شبكات نقل وتوزيع المياه بما يضمن إيصالها إلى كل المناطق المستفيدة بكفاءة عالية. سيادة مائية وتقليل التبعية للخارج في هذا الصدد، كشف وزير الداخلية والجماعات المحلية، إبراهيم مراد، أن الحكومة وضعت آلية صارمة لمتابعة تشغيل وصيانة محطات التحلية، حيث سيتم إنشاء وحدات متخصصة داخل كل ولاية لضمان الأداء الأمثل لهذه المنشآت. وأوضح أن الدولة ستعمل على تحسين شبكات توزيع المياه حتى لا يكون هناك أي فجوة بين الإنتاج والتوزيع تؤدي إلى استمرار معاناة بعض المناطق من نقص الإمدادات رغم توفر المياه المحلاة. ورغم هذه التحديات، فإن آفاق تحلية المياه في الجزائر تبدو واعدة، حيث إن التوجه نحو تحقيق الاستقلالية التكنولوجية، من خلال تصنيع مكونات محطات التحلية محليًا، سيقلل من تكاليف الاستيراد ويعزز من قدرة البلاد على التوسع في هذه المشاريع دون قيود خارجية. كما أن الشراكات مع الجامعات ومراكز البحث الوطني لتطوير حلول مبتكرة في هذا المجال ستدعم مسار الجزائر نحو تحقيق سيادة مائية كاملة. وبينما تمثل التحلية اليوم حلاً استراتيجيًا لمشكلة ندرة المياه، فإن نجاحها على المدى الطويل يعتمد على تكاملها مع سياسات أخرى، مثل تحسين كفاءة استهلاك المياه، والتوسع في استخدام المياه المعالجة في الزراعة والصناعة، ما يضمن استدامة الموارد المائية للأجيال القادمة. وهكذا، تمضي الجزائر بخطى واثقة نحو رسم ملامح سيادتها المائية، مستندة إلى إرادة سياسية صلبة، وكفاءات وطنية أثبتت جدارتها، ورؤية استراتيجية تزاوج بين التحديات المناخية ومتطلبات التنمية. تحلية مياه البحر أصبحت عنوانًا لعصر جديد تصنع فيه الجزائر حلولها بيدها، وتستعيد من خلاله حقها الطبيعي في التحكم بثروتها الأهم: الماء... روح الحياة ونبض الاستقرار. عبد القادر سليماني - خبير اقتصادي

تحلية المياه.. خيار اقتصادي أم ضرورة حتمية؟

تطرق الخبير الاقتصادي عبد القادر سليماني، في حديثه مع "الأيام نيوز"، إلى الأثر الاقتصادي والاجتماعي العميق لمشاريع تحلية مياه البحر في الجزائر، مؤكدًا أنها تحوّلت إلى رافعة استراتيجية لتحقيق السيادة المائية والتنمية المستدامة. وأوضح أن هذه المشاريع تحمل في طياتها أبعادًا تتجاوز تلبية الطلب على المياه الصالحة للشرب، لتشمل دعم الاقتصاد الوطني، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي، خاصة في ظل المتغيرات المناخية والضغوط الاقتصادية التي تواجهها البلاد. واعتبر سليماني أن تحلية مياه البحر تحوّلت إلى جزء جوهري من منظومة الأمن الاستراتيجي للدولة الجزائرية. وفي ظل التحولات الإقليمية والدولية التي تشهد تراجعًا في الموارد، وتصاعد الصراعات غير التقليدية، أصبحت السيطرة على المياه عنصرًا حاسمًا في معادلة السيادة. وأوضح أن الدولة الجزائرية أبدت وعيًا واضحًا بهذه المتغيرات، من خلال خطوات سياسية ومؤسساتية ملموسة، على رأسها استحداث وزارة خاصة بالري، ما يؤكد أن الملف أصبح ذا أولوية في رسم السياسات العمومية. كما أشار إلى أن إنشاء الوكالة الوطنية لتحلية مياه البحر وربطها مباشرة بوزارة الري، بعيدًا عن الوصاية السابقة لوزارة الطاقة، يمثّل تحولًا في فلسفة تسيير هذا القطاع، من منطق التبعية التقنية إلى منطق السيادة المائية المستقلة. مشاريع تحلية جديدة لتعزيز الأمن المائي رأى سليماني أن التوجه نحو إنشاء 14 محطة تحلية جديدة، إلى جانب المحطات الخمس الكبرى التي تم تدشينها، يعكس إرادة قوية للخروج من دوامة الشح المائي، ويؤسس لرؤية طويلة الأمد لحماية الموارد الجوفية، خاصة في الجنوب والهضاب العليا. واعتبر أن هذه المشاريع تؤسس لبيئة مائية متوازنة، تُمكّن الجزائر من الدخول في معادلات التنمية والاستقرار دون الخضوع لتقلبات المناخ أو الابتزاز الخارجي المرتبط بالموارد. نحو تحقيق تغطية مائية بـ 60% عبر التحلية كما أوضح الخبير سليماني أن الجزائر تهدف إلى بلوغ نسبة 60% من تغطية الاحتياجات الوطنية من المياه الصالحة للشرب من خلال مشاريع تحلية مياه البحر، وهو ما يشكّل قفزة نوعية في سياسة الموارد المائية. هذا الهدف، بحسبه، يعكس طموحًا مدروسًا يتجاوز الحلول الظرفية، ليؤسس لاستراتيجية قائمة على تنويع مصادر الماء. وأشار إلى أن بلوغ هذا الطموح يتطلب تعبئة موارد مالية كبيرة، تتراوح بين 250 و300 مليون دولار، ما يستدعي رؤية استثمارية متكاملة تتقاطع فيها الدولة مع القطاع الخاص، خاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمتخصصة في مجالات البناء والصيانة والتجهيز. وفي هذا السياق، شدد سليماني على أهمية إشراك معاهد البحث العلمي ومؤسسات التعليم العالي، بما يضمن تطوير حلول محلية، وبناء كفاءات قادرة على إدارة وتشغيل هذه المشاريع في المستقبل، دون الاعتماد المستمر على الشركاء الأجانب. كما أشار إلى أن وجود وزارة مستقلة للري من شأنه أن يفعّل هذا التنسيق بين الهيئات المعنية، ويوفر البيئة المؤسساتية اللازمة لتجسيد أهداف التحلية ضمن منظور تنموي شامل، وليس فقط كحل تقني لمشكلة المياه. وأكد أن نجاح هذه الاستراتيجية يُقاس بعدد المحطات وكميات المياه المنتجة، وأيضًا بقدرتها على خلق منظومة اقتصادية متكاملة، تُساهم في تحقيق أهداف الأمن الغذائي وتدعيم الاقتصاد الوطني. واعتبر أن الاستثمار في هذا القطاع هو استثمار في الاستقرار، إذ إن الأمن المائي يمثّل الأساس لأي تنمية مستدامة، وأي تراجع في هذا الجانب قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق. انعكاسات اقتصادية لمشاريع التحلية وفي تحليله للانعكاسات الاقتصادية، أشار عبد القادر سليماني إلى أن محطات التحلية تعد رافعة اقتصادية حقيقية، لما توفره من فرص لتقليل الضغط على مصادر المياه التقليدية، وتوجيهها لقطاعات استراتيجية كالفلاحة والصناعة. وأكد أن هذه المشاريع ستُساهم في تأمين حاجيات المدن الكبرى والمناطق الداخلية، من خلال شبكات نقل تصل إلى 200 كيلومتر، وهو ما يقلل من الفوارق التنموية ويحقق نوعًا من العدالة في توزيع الموارد الحيوية. كما شدد على أن توسيع نطاق استخدام المياه المحلاة سيسمح بتوسيع الرقعة الزراعية، وبالتالي تنويع الإنتاج الوطني وتقليل فاتورة الاستيراد، ما ينعكس إيجابًا على الميزان التجاري للبلاد. ورأى أن هذه المشاريع قد تُحفز كذلك على إنشاء صناعات مرافقة، كصناعة الأنابيب والتجهيزات، وهو ما يفتح المجال لتشغيل آلاف اليد العاملة وتدوير الأموال داخل السوق المحلية. ولم يغفل سليماني التحديات المرتبطة بالكلفة، معتبرًا أن التحكم في تكاليف الإنتاج يتطلب الاستثمار في الطاقة المتجددة لتقليص المصاريف التشغيلية، مما يجعل التحلية خيارًا اقتصاديًا على المدى المتوسط والبعيد. الأبعاد الاجتماعية والتنموية للمشروع ومن الجانب الاجتماعي، اعتبر الخبير الاقتصادي أن مشاريع التحلية ستُحدث تحولًا في نوعية حياة المواطنين، لاسيما في المناطق التي كانت تعاني من انقطاعات متكررة في التزود بالمياه. فوفرة الماء تخلق إحساسًا بالكرامة والاستقرار، وهو ما ينعكس على السلوك العام ويخفف من التوترات الاجتماعية. كما أكد أن الأمن المائي مرتبط مباشرة بالأمن الغذائي، فكل تحسّن في الموارد المائية يعني دعمًا للقطاع الفلاحي، وبالتالي تخفيض أسعار المواد الغذائية، ما ينعكس مباشرة على القدرة الشرائية للمواطن. وأشار إلى أن تحسين خدمات المياه من شأنه أن يُقلص الفجوة بين المدن الكبرى والمناطق الداخلية، ما يعزز مبدأ الإنصاف في التنمية، ويمنح هذه المناطق فرصة حقيقية للنمو والاستثمار. وأضاف أن التحلية تُوفر أساسًا متينًا لتوطين السكان في مناطقهم، وتقليل الهجرة نحو المدن، خاصة إذا تم ربط هذه المشاريع بمخططات التنمية المحلية والتشغيل. ورأى أن إشراك المواطنين في ثقافة الترشيد والاستهلاك الواعي للمياه ينبغي أن يواكب هذه المشاريع، حتى تُترجم على أرض الواقع إلى مكاسب مستدامة وشاملة. الدكتور فضيل براهيم مزاري - أستاذ العلوم السياسية بجامعة الشلف

تحلية المياه.. سيادة جزائرية تُصنع من عمق البحار

يرى الدكتور فضيل براهيم مزاري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الشلف، في تصريح لـ"الأيام نيوز"، أن مشاريع تحلية مياه البحر في الجزائر تمثّل خيارًا استراتيجيًا يعكس إرادة الدولة في تكريس السيادة المائية كجزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية. ويؤكد أن هذا التوجه يُعبّر عن وعي رسمي متقدم بأهمية تأمين الموارد الحيوية بعيدًا عن التبعية الخارجية، في ظل تحديات ديمغرافية ومناخية متزايدة. موضحًا أن الحضور المباشر لرئيس الجمهورية في تدشين هذه المشاريع يندرج في سياق ترسيخ رمزية الدولة في إدارة ثرواتها الحيوية واستقلالية قرارها الاستراتيجي. التحلية كخيار استراتيجي للسيادة المائية أكد الدكتور مزاري أن تحلية مياه البحر تعبّر عن التزام الجزائر بترسيخ سيادتها على مواردها الحيوية، وفي مقدمتها الماء، الذي أصبح عاملًا حاسمًا في معادلة الأمن الوطني. وأوضح أن النمو الديمغرافي المتسارع والضغوط المناخية المتفاقمة فرضا على الدولة الجزائرية ضرورة البحث عن حلول بديلة وغير تقليدية، لتأمين حاجيات المواطنين من المياه والغذاء، خاصة وأن القطاع الزراعي، المرتبط عضوياً بالأمن الغذائي، لا يمكن أن يُفصل عن الأمن والسيادة المائية. وأضاف أن الجزائر تواجه منذ سنوات ندرة حقيقية في المياه نتيجة الجفاف المزمن في منطقة شمال إفريقيا، وهو ما جعل مسألة تأمين الماء الشروب للمواطنين أولوية وطنية ترتقي إلى مستوى التحديات الأمنية الكبرى، مشيرًا إلى أن القدرة على التحكم في هذا المورد باتت عنصرًا جوهريًا من عناصر السيادة الحديثة. وأشار الدكتور مزاري إلى أن الدولة تبنّت منذ مطلع الألفية الثالثة خيار تحلية مياه البحر كخط دفاع استراتيجي، من خلال إنجاز أكثر من 14 محطة إلى غاية 2019، لتواصل الحكومة الحالية هذا التوجه ببناء محطات جديدة، وهو ما يعكس قناعة راسخة لدى صانع القرار بأن الأمن المائي جزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية. تكريس الاستقلال المائي وشدد الدكتور مزاري على أن استراتيجية تحلية مياه البحر في الجزائر تحمل بعدًا سياديًا واضحًا، إذ جاءت كرد فعل مباشر على التحديات المناخية المتفاقمة، وفي مقدمتها الجفاف، لكنها أيضًا تمثل خطوة نحو استعادة السيطرة الوطنية على مورد حيوي وحاسم مثل الماء، الذي بات أحد مفاتيح السيادة في زمن الأزمات. وأوضح أن الثقافة الاستهلاكية للماء في الجزائر، وغياب الوعي بقيمته الاقتصادية، يطرحان إشكالًا كبيرًا أمام الدولة، لا سيما في ظل هشاشة البنية التحتية الخاصة بجمع وتوزيع المياه، التي تُسبب فاقدًا مائيًا يوميًا هائلًا نتيجة التسربات، ما يُضعف من قدرة البلاد على التحكم الكامل في دورة الماء الوطنية، ويُقلل من فعاليتها في إدارة المورد الحيوي الأهم. وأضاف أن غياب نموذج الإدارة المتكاملة للموارد المائية في الجزائر يمسّ جوهر السيادة على الموارد، إذ لا يمكن الحديث عن سيادة مائية حقيقية دون قدرة الدولة على تسيير هذا المورد بكفاءة وعدالة واستدامة، في مواجهة التغيرات المناخية والتوسع العمراني والطلب المتزايد من القطاعات الحيوية. دلالات الحضور الرئاسي في مشاريع التحلية أكد الدكتور مزاري أن الإشراف الشخصي لرئيس الجمهورية على تدشين محطات تحلية مياه البحر يحمل دلالة سياسية قوية، ويعكس بوضوح أهمية ملف الأمن المائي في الجزائر، باعتباره أحد أهم التحديات الاستراتيجية المرتبطة مباشرة بالاستقرار الاجتماعي والسيادي للدولة. وأوضح أن هذا الحضور الرئاسي لا يقتصر فقط على بعده المؤسساتي، بل يمكن قراءته أيضًا في إطار تعزيز "الشرعية الوظيفية" لرئيس الجمهورية، أي إظهار قوّة الأداء والفعالية في معالجة الملفات الكبرى، وتقديم صورة لرئيس حاضر ميدانيًا في القضايا الحيوية ذات الصلة المباشرة بالمواطن. وأشار الدكتور مزاري إلى أن التحدي الجوهري لا يزال مرتبطًا بمدى توفر التكنولوجيا الخاصة بتحلية المياه داخل الجزائر، معتبرًا أن امتلاك المعرفة التقنية وتوطينها هو ما سيُعزّز فعلًا من رمزية السيادة المائية، ويمنح هذه المشاريع بعدًا استراتيجيًا أكثر عمقًا واستدامة. التحلية وتعزيز النفوذ الإقليمي للجزائر أكد مزاري أن اعتماد الجزائر على استراتيجية تحلية مياه البحر يُعزز من صورتها الإقليمية والدولية كدولة قادرة على تحقيق أمنها المائي في ظرف مناخي صعب، تعاني فيه منطقة شمال إفريقيا والساحل من تزايد حدة الأزمات المائية. وأوضح أن هذا التوجه يُمكن أن يفتح للجزائر آفاقًا جديدة لتقوية موقعها الإقليمي، من خلال إبراز نموذجها في إدارة ندرة المياه، خاصة إذا استطاعت الجمع بين الإنجاز الميداني والسيطرة التقنية على تكنولوجيا التحلية، بما يجعل منها مرجعًا إقليميًا في هذا المجال الحيوي. وبيّن الدكتور مزاري أن امتلاك تكنولوجيا تحلية المياه هو العامل الحاسم في تحويل هذا التقدم إلى أداة نفوذ وتأثير فعّال داخل المجال الحيوي للجزائر، مشيرًا إلى أن التأثير الإقليمي لا يكون فقط بالمنشآت، بل بالتحكم الكامل في المعرفة والابتكار المتعلقين بها. وأضاف أن خصوصية المنطقة تفرض على الجزائر تنويع أدواتها المائية، خصوصًا وأن بعض الدول مثل موريتانيا تتمتع بأمن مائي نسبي بفضل عبور نهر السنغال، فيما دول أخرى في الساحل الإفريقي تفتقر حتى إلى منفذ بحري، مما يضع أمام الجزائر فرصة لاقتراح نقل تكنولوجيا تحلية المياه المستعملة إلى هذه الدول، ضمن رؤية تعاون جنوب–جنوب تعزّز الدور الجزائري. وختم الدكتور مزاري تصريحه بالتأكيد على أن استراتيجية التحلية في بعدها الإقليمي تظل مشروطة بالقدرة على التمكين التكنولوجي المحلي، وتطوير الحلول التي تتناسب مع طبيعة المنطقة، حتى تتحول الجزائر من نموذج محلي في إدارة المياه إلى فاعل إقليمي في تأمين هذا المورد الحيوي. عويمر نورالدين - محلل سياسي

كيف انتقلت الجزائر من إدارة أزمة المياه إلى التخطيط الاستراتيجي؟

اعتبر المحلل السياسي عويمر نورالدين، في تصريح لـ"الأيام نيوز"، أن توجه الدولة الجزائرية نحو تعميم مشاريع تحلية مياه البحر يُعدّ تجسيدًا فعليًا لإرادة سياسية عليا تسعى لإعادة رسم معالم السيادة المائية للبلاد، مشددًا على أن ما يميز هذه المرحلة هو الانتقال من منطق الاستجابة الظرفية إلى منطق التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، بفضل التزام مباشر من أعلى هرم في السلطة، وقرارات جريئة تهدف إلى إعادة هيكلة السياسة المائية الوطنية على أسس حديثة ومستقلة. وأكد عويمر أن الإرادة السياسية في الجزائر أضحت عنصرًا حاسمًا في التعامل مع التحديات المائية المعقدة التي تواجهها البلاد، خاصة في ظل تأثيرات التغير المناخي والنمو السكاني المتزايد. وأوضح أن الدولة تبنّت استراتيجية شاملة ومتكاملة لتأمين الأمن المائي، وهو ما يُعد دليلاً واضحًا على وجود إرادة سياسية واعية بمخاطر المرحلة. وأشار إلى أن هذه الاستراتيجية تعتمد على تطوير الموارد غير التقليدية، وفي مقدمتها تحلية مياه البحر، إلى جانب تعزيز البنية التحتية المائية وترشيد الاستهلاك وتحسين إدارة القطاع، بما يترجم توجهًا فعليًا نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي المائي بعيدًا عن منطق الارتجال ورد الفعل. وشدد عويمر على أن الإرادة السياسية تنعكس في القدرة على تنفيذ السياسات العامة المعلنة على أرض الواقع، من خلال تعبئة الموارد وتحديد الأولويات وتوجيه السياسات، وهو ما بدأ يتحقق في قطاع المياه بفضل تدخل مباشر وواضح من أعلى هرم السلطة. وأوضح أن الإرادة السياسية تمثّل الوسيلة الأقوى لمجابهة التحديات البنيوية، ومحاربة الفساد داخل القطاعات الحيوية، وهي الركيزة الأساس لأي تحول حقيقي في إدارة المرافق العمومية، مشيرًا إلى أن غيابها يحوّل أي سياسة عمومية إلى مجرد حبر على ورق. وأضاف أن هذه الإرادة تُجسّد اليوم بوضوح من خلال الاهتمام المباشر لرئيس الجمهورية بملف المياه، واعتباره من أولويات الدولة، في ظل وعي متزايد بأن ضمان الحق في الماء هو جزء من السيادة الوطنية. حين تتحوّل الإرادة إلى أفعال وأوضح عويمر نورالدين أن أحد أبرز تجليات الإرادة السياسية في ملف تحلية مياه البحر هو الالتزام الرئاسي المباشر بتتبع وتدشين المشاريع الاستراتيجية بنفسه، ما يعكس عمق الوعي السياسي بأهمية المياه كأولوية سيادية وحق اجتماعي في آنٍ واحد. وأشار إلى أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لا يكتفي بإعطاء التعليمات العامة، بل يتابع شخصيًا مراحل الإنجاز، وهو ما يعطي دفعة معنوية ومؤسساتية قوية للمشاريع، ويختصر الطريق نحو تجاوز العراقيل الإدارية التي طالما أعاقت تنفيذ السياسات العمومية. وأكد أن تسريع وتيرة الإنجاز لمصانع تحلية المياه لم يكن ممكنًا دون توجيهات رئاسية واضحة للحكومة بضرورة تقليص الإجراءات البيروقراطية وتكثيف التنسيق بين القطاعات الوزارية، وهي خطوة أعطت للمشاريع ديناميكية غير مسبوقة في التنفيذ. وأضاف أن الاعتماد على ميزانيات ضخمة وتوفيرها دون تأخير يُعد مؤشرًا صريحًا على أن الإرادة السياسية انتقلت من مستوى النية إلى مستوى الفعل، وهو ما يميز التحول في التعامل مع ملف المياه مقارنة بالفترات السابقة. تحوّل استراتيجي في فلسفة الدولة المائية كما أكد المحلل السياسي أن توجه الدولة نحو تحلية مياه البحر هو تحوّل حقيقي في فلسفة إدارة الموارد المائية في الجزائر، مدفوع بإرادة سياسية واضحة تسعى إلى بناء أمن مائي طويل الأمد خارج منطق التبعية للمصادر التقليدية. وأوضح أن الإرادة السياسية في هذا السياق تجلّت في تحويل تحلية المياه من حل ثانوي إلى خيار استراتيجي وطني، وهو ما يدل على أن الدولة تعيد هيكلة سياساتها المائية بطريقة تدمج التكنولوجيا الحديثة في قلب منظومتها، بعيدًا عن التركيز السابق على السدود والآبار فقط. وأشار إلى أن هذا التحول لم يكن ليتحقق لولا وجود رؤية سياسية استباقية، جعلت من التخطيط بعيد المدى في هذا المجال أولوية وطنية، وهو ما يظهر من خلال إطلاق "الاستراتيجية الوطنية للمياه 2021–2030"، التي تهدف إلى تلبية 60% من حاجة السكان للماء الشروب عبر التحلية. وأضاف عويمر أن الدولة بدأت في دمج مشاريع التحلية مع مشاريع الطاقات المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر، وهو ما يكشف عن إرادة سياسية لتقليل التكاليف وتعزيز البعد البيئي للاستراتيجية المائية، في انسجام مع أهداف التنمية المستدامة. وبيّن أن هذا التوجه نحو تحلية المياه بالاعتماد على الطاقات النظيفة هو تعبير عن رغبة سياسية في الاستقلال عن الضغوط المناخية والمالية، بما يضمن سيادة وطنية أكبر على مستوى إدارة الموارد الحيوية. بناء الثقة والعدالة المائية في المجتمع وصرّح عويمر نورالدين أن الإرادة السياسية في ملف تحلية مياه البحر تمتد إلى بعدها الاجتماعي والرمزي، لكونها تساهم في تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، خاصة في ما يتعلق بحقوقه الأساسية وفي مقدمتها الحق في الماء. وأوضح أن حرص رئيس الجمهورية على الإشراف الشخصي على تدشين مشاريع التحلية يحمل بُعدًا سياسيًا ورسالة قوية للمواطن، مفادها أن الدولة مسؤولة وموجودة ميدانيًا، وهو ما يخلق شعورًا بالعدالة في توزيع الموارد الحيوية ويعزز الانتماء الوطني. وأشار إلى أن هذه الخطوات، إذا ترافقت مع شفافية في التسيير وكفاءة في التنفيذ، خاصة في المناطق الداخلية والهضاب العليا، فإنها ستشكل نقطة تحول في علاقة المواطن بالمؤسسات، وتفتح الباب أمام إعادة بناء الثقة في السياسات العمومية. وأضاف عويمر أن الخطابات الرئاسية المتكررة التي تؤكد على مبدأ التوزيع العادل للماء، ومراجعة خطط التوزيع، تؤكد وجود إرادة سياسية حقيقية في جعل المورد المائي وسيلة لتحقيق الإنصاف الجغرافي والاجتماعي، وليس مجرد مورد اقتصادي. كما شدّد على أن تفعيل "شرطة المياه" وتجريم التبذير، هو إجراء يعكس قناعة الدولة بضرورة حماية هذا المورد كحق جماعي لا يجوز المساس به، وهو ما يرسّخ البُعد السيادي في إدارة الماء كقيمة قانونية ومجتمعية. وبيّن أن استحداث تخصصات جامعية في تحلية المياه، وتطوير التكوين في هذا المجال، يعكس إرادة سياسية في بناء كفاءات محلية مستدامة، قادرة على تسيير المنشآت المائية مستقبلاً، دون تبعية خارجية، وبما يضمن استمرارية السياسات مهما تغيّرت الحكومات. وختم عويمر بالتأكيد على أن الإرادة السياسية حين تُوجّه نحو ترسيخ العدالة المجالية والتمكين المجتمعي من الموارد الحيوية، تصبح أكثر من مجرد قرار... إنها أداة سيادية لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع. أمال ينون، أستاذة التعليم العالي بجامعة جيجل والمتخصصة في الاقتصاد الدولي والتنمية المستدامة

نحو تحديث التشريعات لتعزيز الحوكمة المائية في الجزائر

تعتبر الأستاذة أمال ينون، أستاذة التعليم العالي بجامعة جيجل والمتخصصة في الاقتصاد الدولي والتنمية المستدامة، في تصريحها لـ"الأيام نيوز"، أن توجه الجزائر نحو تعميم مشاريع تحلية مياه البحر يمثل خيارًا استراتيجيًا يعكس إرادة واضحة لتحقيق الأمن المائي، لكنه بحاجة إلى رؤية متكاملة تراعي الاستدامة، وتُرافقه إصلاحات هيكلية تشمل البنية التحتية، والتشريعات، وثقافة الاستهلاك. وشددت على أن النجاح في هذا المسار يتطلب التوفيق بين الجوانب التقنية والمؤسساتية، مع تعزيز التفكير الاستشرافي لمواجهة المخاطر المحتملة، وضمان استمرارية الخدمة بعدالة وكفاءة. بين القرار السياسي والجدوى الاقتصادية أكدت الأستاذة أمال ينون أن مشروع تحلية مياه البحر في الجزائر انطلق بدافع سياسي بالدرجة الأولى، وقالت: "تحلية مياه البحر بداياتها الأولى لم تكن قرارًا اقتصاديًا بقدر ما كانت قرارًا سياسيًا"، في إشارة إلى أن الدولة تعاملت مع المشروع كخيار استراتيجي لمواجهة التحديات المائية المتراكمة. وأوضحت أن هذا التوجه يعكس رغبة السلطات العمومية في توفير حلول سريعة لتأمين المياه الشروب، خاصة في ظل ظروف مناخية صعبة وارتفاع متزايد في الطلب، وهو ما يجعل القرار السياسي في مثل هذه الحالات عنصرًا حاسمًا في استباق الأزمات. وأضافت أن التحلية أصبحت لاحقًا جزءًا من الاستراتيجية الوطنية للمياه، إلا أن الحاجة لا تزال قائمة لمواصلة تحسين أسس التخطيط، مشيرة إلى أن "التركيز لا يزال منصبًا على الكم بدل الكيف"، في إشارة إلى أهمية مراعاة معايير الجودة والاستدامة إلى جانب التوسع الكمي. البنية التحتية المائية وتحديات الصيانة والتوزيع اعتبرت الأستاذة ينون أن توفر البنية التحتية مثل السدود يمثل رصيدًا يجب الاستفادة منه، وقالت: "السدود الموجودة قد تغطي جزءًا كبيرًا من مياه الشرب"، لكنها في الوقت ذاته أشارت إلى تحديات مرتبطة بالطمي، ما يؤدي إلى فقدان كميات معتبرة من المياه سنويًا. وأبرزت في هذا السياق أهمية تطوير مقاربة متكاملة تجمع بين التحلية وتحسين أداء الموارد التقليدية، مؤكدة أن "ملايين الأمتار المكعبة تُهدر سنويًا"، ما يتطلب توسيع جهود الصيانة والتسيير الوقائي للسدود والمنشآت الحالية. كما لفتت إلى أن التنويع في الخيارات التقنية، سواء عبر التحلية أو استخدام السدود، ينبغي أن يكون مبنيًا على تقييم علمي وعملي يأخذ في الحسبان الموارد المتوفرة والظروف المناخية والإمكانيات المحلية. الاستثمار في مشاريع التحلية بين التوسع والفعالية كما أشارت ينون إلى أهمية التوازن بين الاستثمار في المشاريع الكبرى كتحلية مياه البحر، والحفاظ على كفاءة الشبكات المائية القائمة، مشددة على أن فعالية أي مشروع مائي مرهونة بجاهزية البنية التحتية التي تُوصله إلى المواطن. وتساءلت في هذا السياق: "أيعقل أن تبني محطة للتحلية بملايين الدولارات، وتعجز عن إصلاح خط مياه الشرب بمليون دينار؟"، معتبرة أن صيانة شبكات التوزيع يجب أن تسير بالتوازي مع توسع مشاريع التحلية، لأن هذه الشبكات هي التي ستنقل المياه المنتجة إلى المستهلك. وأوضحت أن جزءًا من التحدي يكمن في تقادم الشبكة الوطنية للمياه، وغياب الصيانة المنتظمة، ما يؤدي إلى تسربات وخسائر مائية يومية، قد تُضعف من أثر أي مشروع مهما كانت طاقته الإنتاجية. التشريعات والتنظيم في قطاع المياه وسلّطت الأستاذة أمال ينون الضوء على أهمية البُعد القانوني والتنظيمي في نجاح أي سياسة مائية، مشيرة إلى أن بعض الثغرات التشريعية لا تزال تؤثر على مردودية القطاع. وقالت: "قانون المياه في الجزائر غائب"، في تعبير رمزي عن غياب تفعيل أدوات الضبط والرقابة. وأوضحت أن من بين المؤشرات التي تعكس هذا الخلل، هو "أن آلاف الآبار تُحفر سنويًا بلا ترخيص"، وهي ممارسات، بحسب تعبيرها، تابعتها ميدانيًا ووقفت على تفاصيلها من واقع المعاينة اليومية. وأضافت أن هذا الاستخدام غير المنظم للموارد الجوفية يتم في كثير من الأحيان "دون أن يدفع أصحابها دينارًا واحدًا"، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى نجاعة آليات المراقبة الحالية، وفعالية التحصيل في قطاع يرتبط مباشرة بالأمن المائي الوطني. وأشارت ينون إلى أن تساهل بعض الفاعلين في هذا المجال قد يؤدي إلى اختلال في توزيع المياه، خاصة إذا استمر غياب آليات ضبط صارمة تضمن العدالة بين مختلف الفئات والمناطق في الانتفاع من المورد. كما دعت إلى تحديث القانون بما يواكب التحولات الجديدة في السياسة المائية، خاصة في ظل التوجه نحو تحلية مياه البحر كمصدر بديل وأساسي، معتبرة أن التشريع يجب أن يكون مواكبًا للرهانات البيئية والاقتصادية. تحلية المياه والاستدامة البيئية وأعربت الأستاذة أمال عن قناعتها بأن تحلية مياه البحر تمثل خيارًا استراتيجيًا مهمًا، لكنها شددت على ضرورة تقييم هذا الخيار ضمن منظور الاستدامة والقدرة على مواجهة الطوارئ. وقالت: "صناعة تحلية مياه البحر في الجزائر، تبدو مثل مغامرة إما أن تحقق نتائج إيجابية أو تؤدي إلى كوارث قد لا تظهر ملامحها في المنظور القريب". وأشارت إلى أن الجزائر تحتاج إلى مقاربة أكثر استشرافًا في التعامل مع المخاطر البيئية المحتملة، موضحة أنه "لو حدثت كارثة بيئية، تسرب بترول، أو معادن سامة في البحر المتوسط، أو قامت حروب... هل ستسلم محطات التحلية؟". وأضافت أنه رغم الجهود المبذولة، إلا أن السؤال حول مدى جاهزية الجزائر للتعامل مع مثل هذه السيناريوهات يظل مطروحًا. وفي هذا الإطار، شددت على ضرورة تطوير رؤية وطنية متكاملة تجمع بين التكنولوجيا، والمرونة، والحماية البيئية، خاصة أن البحر مصدر أساسي للمشروع، وأي اضطراب فيه قد يؤثر على الأمن المائي. كما أوضحت الأستاذة أمال ينون أن مفهوم الأمن المائي لا يجب أن يُختزل في وفرة المياه على مدار الساعة، بل في كيفية إدارتها وتوزيعها بشكل عقلاني ومنظم. وقالت: "ليس بالضرورة أن يكون مفهوم الأمن المائي مرتبطًا بتوفر المياه في الحنفيات يوميًا بمعدل 24 ساعة كاملة". واقترحت المتحدثة تجربة بعض الدول مثل الأردن التي تتمتع بنظام منظم وفعال لتوزيع المياه، حيث "المباني مزودة بخزانات وتُخزَّن المياه لتأمنهم مرة واحدة بالأسبوع"، ما يُثبت – حسبها – أن الأمن المائي لا يعني بالضرورة التدفق المستمر، بل الإدارة الحكيمة والتوزيع العادل. وختمت بتأكيدها على ضرورة "تصحيح المسار"، معتبرة أن معالجة الاختلالات الحالية في التسيير والرؤية سيجعل من مشروع التحلية عنصرًا داعمًا بقوة للاستقرار المائي في المستقبل. الدكتورة خشمان الخنساء - أستاذة متخصصة في التحليل الاقتصادي والاستشراف

ندرة المياه وتحديات تحليتها.. نحو أنموذج جزائري مستدام يعتمد الطاقة النظيفة

قدمت الدكتورة خشمان الخنساء، أستاذة التحليل الاقتصادي والاستشراف، في تصريح لـ "الأيام نيوز"، رؤية استشرافية معمقة حول مشاريع تحلية مياه البحر في الجزائر، مؤكدة أن هذا الخيار، رغم ضرورته في ظل ندرة الموارد المائية وتفاقم الجفاف، يحتاج إلى مراجعة دورية تضمن انسجامه مع أهداف التنمية المستدامة. وشددت على أن النجاح الحقيقي لهذه المشاريع يقاس بمدى توافقها مع المعايير البيئية الحديثة، داعية إلى تبني تكنولوجيا نظيفة واستخدام مصادر طاقة متجددة، بما يحقق توازنًا بين الأمن المائي والاقتصاد الأخضر، ويعزز الاستدامة طويلة المدى. التحلية بين الحاجة الملحة والاستدامة البيئية أكدت الدكتورة خشمان أن تحلية مياه البحر في الجزائر خيار استراتيجي فرضته الظروف المناخية وشح الموارد المائية، لافتة إلى أن "الاستدامة في الموارد المائية أكثر من ضرورية لاستمرار النشاط الاقتصادي، وضمان استقرار التنمية على المدى الطويل". وأوضحت أن هذا التوجه ليس مقتصرًا على الجزائر، بل هو مسار عالمي تبنته العديد من دول البحر المتوسط لمواجهة الجفاف والاحتباس الحراري، وتأمين إمدادات مستقرة من المياه العذبة. وأشارت إلى أن الجزائر استثمرت في مشاريع التحلية منذ الستينيات، إلا أن "الرواج الحقيقي لهذه السياسة بدأ مطلع الألفية، تزامنًا مع تفاقم أزمة المياه المتصاعدة"، ما جعل خيار التحلية ضرورة لمواكبة التطور الاقتصادي، ودعم القطاع الزراعي، والتوسع العمراني المتزايد. ورغم ذلك، طرحت تساؤلات حول مدى توافق هذه المشاريع مع أهداف التنمية المستدامة، محذرة من أن "الطرق التقليدية لتحلية مياه البحر تُهدد النظم الإيكولوجية البحرية، وتزيد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وهو ما قد يؤثر سلبًا على البيئة البحرية والتوازن البيئي". وترى الدكتورة خشمان أن المخاطر البيئية المرتبطة بالتحلية تستوجب البحث عن بدائل تكنولوجية أكثر توافقًا مع معايير الحماية البيئية، معتبرة أن "التحول نحو تحلية صديقة للبيئة باستخدام الطاقة الشمسية أو تقنيات منخفضة الانبعاثات هو الخيار الأكثر استدامة"، لا سيما وأن الساحل الجزائري يملك إمكانات طبيعية تدعم هذا المسار، ما يمكن أن يشكل نقطة قوة في تعزيز الاستراتيجية الوطنية للمياه. أمن مائي مستدام... ضرورة اقتصادية أوضحت الخنساء أن "الجغرافيا الاقتصادية للموارد الطبيعية تلعب دورًا محوريًا في تحديد الموقع الاقتصادي للدول"، مؤكدة أن المياه تشكّل ركيزة أساسية لكافة الأنشطة الاقتصادية، من الزراعة إلى الصناعة والخدمات. واستدلت بتقارير اليونسكو التي تفيد بأن "26% من سكان العالم لا يمكنهم الوصول إلى مياه شرب نظيفة"، ما يعكس حجم التحدي الكبير الذي يواجهه العالم في هذا المجال. كما لفتت إلى أن "الزراعة تستهلك نحو 70% من المياه العذبة عالميًا"، وهو ما يستدعي تبني استراتيجيات دقيقة لتحقيق توازن بين الأمن الغذائي والأمن المائي، وتجنب أزمات مستقبلية قد تؤثر على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وأشارت إلى تقديرات البنك الدولي التي تحذر من أن "شح المياه قد يؤدي إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 6%"، ما يعكس العلاقة الوثيقة بين الموارد المائية والنمو الاقتصادي، ويؤكد أهمية إدراج المياه ضمن أولويات السياسات الاقتصادية. وأكدت أن نجاح الجزائر في التحديات المقبلة يتطلب "استراتيجية وطنية متكاملة تستند إلى الإمكانات الجغرافية، وتراعي الأبعاد البيئية والاجتماعية"، بهدف تكوين مخزون استراتيجي يُجنب البلاد أزمات المياه المتوقعة بحلول عام 2050، ويدعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. التكنولوجيا النظيفة... مفتاح نجاح مشاريع التحلية أبرزت الدكتورة خشمان أن نجاح مشاريع تحلية مياه البحر في الجزائر يعتمد على الإنتاجية، وقدرتها على تغطية الطلب المتزايد، ومدى مراعاتها للبعد البيئي، مؤكدة أن "التحول نحو تقنيات نظيفة وصديقة للبيئة يمثل الركيزة الأساسية لاستمرار هذه المشاريع دون الإضرار بالنظم الإيكولوجية أو المناخ". وشددت على ضرورة تكييف تقنيات التحلية مع السياق البيئي المحلي، محذرة من أن "التجارب العالمية أثبتت الآثار السلبية لبعض مشاريع التحلية على الحياة البحرية، ما يستوجب حلولًا مستدامة تقلل من هذه المخاطر". وأكدت أن اعتماد التحلية التقليدية دون ضوابط بيئية صارمة قد يؤدي إلى آثار سلبية مستدامة تتناقض مع مبادئ التنمية المستدامة التي تتبناها الجزائر، وقد تفرض تحديات إضافية في المستقبل. وأضافت أن حماية النظم البيئية لا تنفصل عن حماية الأمن المائي نفسه، إذ أن أي اختلال بيئي يؤثر بشكل مباشر على استدامة موارد المياه، داعية إلى إدماج الاعتبارات المناخية والبيئية في كل مراحل التخطيط والتنفيذ، مع تطوير سياسات متقدمة تقلل من تأثير مشاريع التحلية على المحيط البيئي. نحو رؤية استشرافية مرنة لإدارة الموارد المائية شددت الدكتورة خشمان على ضرورة تبني نهج استشرافي مرن في إدارة ملف المياه في الجزائر، معتبرة أن "التحول نحو مصادر بديلة لتحلية المياه، واستخدام الطاقة النظيفة، يمثل الخيار الأكثر استدامة على المدى الطويل". وأكدت أن سياسة التحلية الحالية، رغم أهميتها، تحتاج إلى مراجعة دورية لضمان توافقها مع التحديات المستقبلية ومعايير الاستدامة، مشيرة إلى ضرورة البحث عن حلول موازية، مثل إعادة استخدام المياه المعالجة، تطوير تقنيات حصاد مياه الأمطار، وترشيد الاستهلاك المائي، ما يساهم في تقليل الاعتماد الكلي على تحلية المياه كمصدر رئيسي. كما دعت إلى إنشاء مؤسسات بحثية متخصصة في إدارة المياه، وربطها بصنّاع القرار، لضمان الانتقال من السياسات الآنية إلى استراتيجيات قائمة على البيانات والاستشراف، بما يعزز من فعالية القرارات المستقبلية ويضمن استدامة الموارد المائية. وأكدت أن نجاح أي مشروع تحلية مرتبط بتنمية الوعي المجتمعي، مشددة على أن "المواطن جزء أساسي من معادلة الاستدامة، ويجب أن يُدرك قيمة المياه وضرورة الحفاظ عليها من خلال ترشيد الاستهلاك". واختتمت حديثها بالتأكيد على أن "تحلية مياه البحر مشروع استراتيجي، لكن النجاح الحقيقي يكمن في تحويله إلى عنصر دائم من عناصر التنمية المستدامة، وليس مجرد حل ظرفي لأزمة مؤقتة، ما يتطلب رؤية شاملة توازن بين احتياجات اليوم وتحديات المستقبل". عبد القادر بريش، خبير اقتصادي

تحلية المياه.. من كسر التبعية إلى تصدير الخبرة

أشاد الخبير الاقتصادي عبد القادر بريش، في حديثه مع "الأيام نيوز"، بإشراك اليد العاملة الجزائرية في مشاريع تحلية مياه البحر، معتبرًا أن ما تحقق في هذا المجال يعكس الإرادة الوطنية في كسر التبعية التقنية وتكريس السيادة الاقتصادية في قطاع حيوي كالمياه. واعتبر أن نجاح الكفاءات الوطنية في إنجاز وتشغيل هذه المحطات يمثل بداية مسار واعد نحو توطين التكنولوجيا وبناء قاعدة صناعية مستدامة، مشددًا على أهمية تطوير الأطر الاقتصادية والمؤسساتية، وتحفيز المورد البشري لضمان استمرارية هذا الإنجاز وتحويله إلى رافعة للخبرة الوطنية القابلة للتصدير مستقبلًا. وأكد بريش أن إنجاز محطات تحلية مياه البحر بأيادٍ جزائرية يمثل مكسبًا استراتيجيًا للجزائر على مستوى تأمين الأمن المائي، وأيضًا في إطار التمكين من التكنولوجيا والتحكم في الصناعة المعقدة لتحلية المياه. واعتبر أن إشراك الكفاءات الوطنية في هذه المشاريع الكبرى دليل على قدرة الجزائر على قيادة تحول تنموي قائم على الاعتماد على الذات. وأوضح أن ما أنجزه أبناء الجزائر، من مهندسين وفنيين، في محطات التحلية التي دُشنت مؤخرًا، يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الموارد البشرية المحلية قادرة على رفع التحدي ومواجهة أصعب المهام. ولفت إلى أن هذه المحطات، التي أشرف رئيس الجمهورية على تدشينها، أُنجزت في آجال قياسية، ما يجعلها نموذجًا يحتذى في التنظيم والتنسيق الهندسي والتنفيذي. وأشار إلى أن هذه المشاريع شكّلت اختبارًا حقيقيًا لمدى جاهزية الشباب الجزائري وقدرتهم على المساهمة الفعلية في بناء "الجزائر الجديدة"، التي ترفع شعار السيادة والاعتماد على الكفاءات الوطنية. وأضاف أن ما تحقق يُعد مصدر فخر، ويعزز من ثقة الدولة في إمكانياتها الذاتية. وأضاف الخبير أن الجزائر، بعد هذه التجربة، أصبحت مؤهلة لأن تتحول إلى منصة إقليمية للخبرة في مجال تحلية مياه البحر، وهو ما سيفتح أمامها فرصًا جديدة للتعاون الدولي والتصدير المعرفي والتقني. وتوقع أن تلجأ العديد من الدول، لا سيما في إفريقيا، إلى الاستفادة من الخبرات الجزائرية في السنوات القادمة. تشغيل وصيانة بوسائل وطنية خالصة.. التحدي الجديد أوضح بريش أن النجاح في إنجاز محطات تحلية المياه بأيادٍ وتقنيات جزائرية يُعد خطوة أولى ومهمة نحو بناء السيادة الاقتصادية في قطاع استراتيجي كالمياه، لكنه شدّد على أن التحدي الحقيقي لا يزال قائمًا، ويتمثل في القدرة على تشغيل وصيانة هذه المحطات بوسائل وطنية خالصة. وأكد أن المرحلة المقبلة تستوجب انتقالًا فعليًا من مجرد تنفيذ المشاريع إلى التحكم الكامل في التكنولوجيا، وهو ما يتطلب انخراطًا منسقًا بين عدة قطاعات، خصوصًا التعليم العالي والبحث العلمي، الذي تقع عليه مسؤولية تكوين كفاءات متخصصة في تقنيات التحلية والصيانة وتشغيل الأنظمة المتطورة. وأضاف أن إشراك القطاعين العام والخاص في سلاسل القيمة الصناعية الخاصة بمحطات التحلية سيكون عاملًا حاسمًا في بناء منظومة متكاملة، تسمح بإنتاج التجهيزات محليًا، بما في ذلك قطع الغيار، وهو ما سيساعد في تقليص التبعية للأسواق الخارجية ويمنح الجزائر قدرة أكبر على التحكم في مصيرها المائي. وأشار إلى أن هذا التوجه سيؤسس لقاعدة صناعية وطنية قوية يمكن أن تنعكس على قطاعات أخرى، وتفتح المجال أمام اقتصاد قائم على التكنولوجيا والمعرفة، ما يعزز من قدرة البلاد على التفاوض والشراكة دوليًا في هذا المجال الحساس. وأكد أن "هذا هو مبدأ السيادة الحقيقي الذي نراهن عليه"، مستشهدًا بتوجيهات رئيس الجمهورية حول ضرورة استكمال هذه الديناميكية الصناعية والتقنية، وعدم الاكتفاء بمرحلة الإنجاز. خبرة وطنية قابلة للتصدير شدد بريش على أن ضمان استدامة التحكم في تكنولوجيا تحلية مياه البحر وتحويلها إلى خبرة وطنية قابلة للتطوير والتصدير، يمر عبر استيفاء شروط اقتصادية ومؤسساتية دقيقة. وأبرز في هذا السياق أهمية تنسيق الجهود بين القطاعين العام والخاص للانخراط في سلسلة القيمة الصناعية لهذه التكنولوجيا. وأوضح أن بناء صناعة وطنية حقيقية في مجال التحلية يتطلب تكاملًا قبليًا وبعديًا بين مراحل الدراسة والتخطيط والهندسة، وصولًا إلى الإنجاز ثم التشغيل والصيانة. وأكد ضرورة إشراك مؤسسات الدولة والمقاولات الوطنية في كل حلقات هذه السلسلة لضمان استدامة هذه التجربة وتحقيق مردودية اقتصادية فعلية منها. وأشار إلى أن العنصر البشري هو حجر الزاوية في هذا المسار، داعيًا إلى اعتماد برامج تكوين مستمر ومتطور، تواكب الجيل الجديد من محطات التحلية التي أصبحت تعتمد على الطاقات المتجددة وتقنيات أكثر كفاءة لتقليل تكلفة إنتاج المتر المكعب الواحد من المياه المحلاة. وأضاف أن تثمين المورد البشري يجب ألا يتوقف عند التكوين، بل لا بد أن يشمل توفير مناخ عمل محفز، وعلى رأسه سياسة أجور مجزية تحفّز الكفاءات على البقاء داخل الوطن، وتضمن ولاءها واستمرارها في تطوير هذا القطاع الحيوي والحساس. وختم بريش تصريحه بالتأكيد على أن تحقيق الأمن المائي لن يكون ممكنًا دون استدامة المهارات والقدرات الوطنية، مشددًا على أن هذا المسار يحتاج إلى رؤية بعيدة المدى، تدمج ما بين البُعد الاقتصادي والتقني والبشري، لضمان تحول الجزائر إلى مركز إقليمي في تكنولوجيا تحلية المياه.