2025.05.21
حوارات

استشراف الفرص... كيف يمكن للجزائر تحويل فترات الأزمات إلى مكاسب اقتصادية؟


يرى حمزة بوغادي، الخبير الاقتصادي ومدير مؤسسة الدراسات الاقتصادية، في حوار مع "الأيام نيوز"، أن الأزمات الدولية مثل الحرب الروسية الأوكرانية والرسوم الجمركية الأمريكية تتيح فرصًا اقتصادية حقيقية للجزائر، بشرط أن تُواكبها أدوات استشراف فعّالة وإصلاحات هيكلية جريئة. ويؤكد أن الجزائر دخلت ورشة اقتصادية فعلية خلال السنوات الأخيرة، وبدأت تُظهر مؤشرات على تقليص التبعية للمحروقات، لكنها بحاجة إلى تسريع وتيرة الإصلاح، خاصة في الإدارة والمنظومة المالية، لتكسب معركة التحول الاقتصادي وتُقدّم نفسها كشريك موثوق في السوق الدولية.

الأيام نيوز: في ظل الأزمات الدولية والاقتصادية مثل الرسوم الجمركية الأمريكية، هل ترى أن هناك فرصًا اقتصادية يمكن للجزائر استغلالها رغم هذا السياق المتوتر؟

حمزة بوغادي: نعم، في الاقتصاد هناك دائمًا فرص، سواء في أوقات الأزمات أو في أوقات الرفاه. الحروب تخلق فرصًا، كما تفعل الأزمات الاقتصادية، والجزائر مطالبة بأن تكون في حالة ترصّد دائم لهذه الفرص، من خلال أدوات استشراف حقيقية وفعّالة. هذا يتطلب أن يكون لدينا جهاز وطني مخصص لمتابعة التحولات الجيوسياسية والاقتصادية وتحليلها بعمق.

من بين الأمثلة الحية على الفرص التي لم نستغلها كثيرًا، ما حدث خلال الحرب الروسية الأوكرانية. رؤوس أموال روسية ضخمة هربت من أوروبا وأمريكا، بحثًا عن ملاذات آمنة. الجزائر، لما تملكه من استقرار سياسي وأمني وديبلوماسي، وتاريخ طويل من العلاقات مع روسيا، كانت مرشحة بقوة لاحتضان جزء من هذه الأموال. تحدثنا كخبراء حينها عن هذا الملف، وقلنا إننا نملك من المقومات ما يجعلنا مؤهلين لذلك، لكن غابت الاستجابة المؤسساتية.

الأمر لا يتعلق فقط بالمال، بل بالقدرة على تقديم "عرض اقتصادي" جذاب ومتكامل للعالم. الجزائر تملك طاقات بشرية شابة، وموارد طبيعية غنية، وموقعًا استراتيجيًا، وطاقة شمسية هائلة. هي دولة مستقرة، وتتحرك على أكثر من محور في الفلاحة والصناعة والتصدير. كل هذه العناصر، إذا جُمعت في مشروع اقتصادي واضح ومقنع، يمكن أن تُحول الأزمات الدولية إلى فرص حقيقية للنمو.

الأيام نيوز: تحدثتم عن ضرورة وجود رؤية استشرافية، فهل الجزائر اليوم ينقصها أدوات ترصد وتحليل الفرص الاقتصادية في الوقت المناسب؟

حمزة بوغادي: الجزائر اليوم بحاجة ماسة إلى منظومة استشراف قوية ومؤسسات متخصصة في تحليل التحولات الدولية والتقاط الفرص الاقتصادية في وقتها المناسب. كانت لدينا وزارة مخصصة للاستشراف، لكن للأسف تم إلغاؤها، رغم أهميتها البالغة في هذا النوع من السياقات المتغيرة. نأمل أن تعود هذه الهيئة بشكل أقوى، وأن تُدعَّم بكفاءات وخبرات وطنية قادرة على قراءة المؤشرات، ليس فقط لرد الفعل، وإنما أيضًا للتوقع والتحضير المسبق.

الفرص لا تنتظر، فهي تحتاج إلى من يترصدها، يحللها، ويقدّم بشأنها اقتراحات عملية. وقد لاحظنا خلال أزمة الحرب الروسية الأوكرانية أن الجزائر لم تتحرك بما يكفي للاستفادة من الرؤوس الأموال الهاربة، رغم توفر الظروف الملائمة لذلك، مثل الاستقرار الداخلي والعلاقات التاريخية مع روسيا.

ببساطة، إذا لم تكن لدينا مراكز تفكير نشطة وفعّالة، وإذا لم نُفعّل مفهوم "think tank" المؤسساتي، فإن الفرص ستضيع مرة تلو الأخرى، وسنظل نتحرك في إطار رد الفعل بدل المبادرة.

الأيام نيوز: كيف يمكن للجزائر أن تقدّم نفسها كشريك اقتصادي موثوق في ظل ما وصفتموه بالاستقرار السياسي والطاقة والديمغرافيا الذي تتمتع به؟

حمزة بوغادي: الجزائر تملك كل المقومات التي تجعلها شريكًا اقتصاديًا موثوقًا على الساحة الدولية، لكن ما ينقص هو تقديم نفسها للعالم من خلال "عرض اقتصادي" متكامل ومدروس. نحن نملك عناصر القوة: استقرار سياسي وأمني، طاقات بشرية شابة، موارد طبيعية متنوعة، وموقع جغرافي استراتيجي، فضلًا عن إمكانيات هائلة في مجالات الطاقة التقليدية والمتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية.

كل هذه العوامل تجعل من الجزائر وجهة جذابة، لكنها بحاجة إلى أن تُترجم ضمن رؤية اقتصادية واضحة تُعرض على العالم والشركاء الدوليين. يجب أن نتحرك كمؤسسات، لا كأفراد فقط، وأن نقدم مشاريع جاهزة، واقتصادًا متنوعًا، وإرادة سياسية جادة.

لدينا بالفعل ورشات اقتصادية كبرى انطلقت منذ خمس سنوات في عدة قطاعات: الفلاحة، الصناعة، المعادن، والصناعات الغذائية. هذه الديناميكية يجب أن تُستثمر في إطار خطة تسويقية ذكية على المستوى الدولي، تُظهر الجزائر كدولة تمتلك الموارد وأيضا رؤية وإرادة وشركاء موثوقين.

الأيام نيوز: كيف تقرأون تفاعل الدولة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، مع العراقيل المرتبطة بالمؤسسات الاقتصادية مثل الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار؟

حمزة بوغادي: ما نلاحظه مؤخرًا هو تفاعل صريح ومباشر من الدولة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، مع المشاكل التي تواجه المؤسسات الاقتصادية، خصوصًا الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار. الرئيس انتقد أداء الوكالة، وأشار إلى وجود تناقضات ومشاكل تعيق عملها. هذه الصراحة مهمة، لأنها تُعد مؤشرًا صحيًا على وجود وعي رسمي بأن بعض الهيئات يجب أن تواكب أكثر الطموح الاقتصادي للجزائر.

صحيح أن الوكالة حديثة النشأة ومن الطبيعي أن تواجه في بدايتها بعض الإشكالات، ولكن هذا لا يبرر تباطؤها. التحدي الآن هو في تجاوز هذه العراقيل بسرعة، لأننا لا نملك ترف الوقت. الجزائر كانت، وللأسف، في كثير من الأحيان، تدخل تجارب اقتصادية أو تؤسس لهياكل تبقى لعشر أو خمس عشرة سنة دون أثر فعلي، دون تقييم، ودون بدائل ناجعة.

اليوم نحن بحاجة إلى تكييف هذه المؤسسات مع الرؤية الاقتصادية الجديدة، وضرورة وجود شباك وحيد فعلي، وإصلاحات هيكلية في التسيير، كي تتحول من عبء إلى أداة دعم حقيقي للاستثمار. الانتقادات الصريحة من رئيس الجمهورية في هذا السياق ليست سلبية، بل بالعكس، هي خطوة مهمة نحو التصحيح.

الأيام نيوز: ما تقييمكم للمشاريع الاقتصادية التي أطلقتها الجزائر في السنوات الخمس الأخيرة؟ وهل تم استثمارها بشكل كافٍ لتعزيز الاقتصاد؟

حمزة بوغادي: الجزائر دخلت منذ خمس سنوات في ورشة اقتصادية حقيقية تمس أغلب القطاعات، وهذا تطور مهم يجب الاعتراف به. هناك مجهود واضح في تنويع القاعدة الإنتاجية، سواء في الفلاحة، الصناعة، المعادن، أو الصناعات الغذائية. تحركات الدولة في هذه المجالات تُظهر وجود نية حقيقية لإصلاح النموذج الاقتصادي. لكن السؤال المطروح هو: هل تم استثمار هذه الورشات بالشكل الأمثل؟ في رأيي، ما زال هناك تأخر على مستوى الأداء المؤسساتي، وغياب في التقييم المستمر لهذه المشاريع، إضافة إلى بطء في المرافقة الإدارية والمالية، ما يقلل من الأثر المتوقع لهذه الديناميكية.

الفرص متوفرة، والمشاريع قائمة، لكن الاستفادة منها تتطلب آليات أكثر فعالية، وسرعة في التفاعل، وإصلاحات أعمق في البيروقراطية المالية والإدارية. يجب ألا ننتظر عشر أو خمس عشرة سنة لتقييم تجربة اقتصادية ما، بل نحتاج إلى آليات تقييم مستمر وتعديل سريع للمسار، حتى لا نخسر المزيد من الوقت والفرص.

الأيام نيوز: ما هي أبرز المؤشرات التي تدل، في رأيكم، على أن الجزائر بدأت بالفعل في تجاوز عقدة التبعية للمحروقات؟

حمزة بوغادي: أعتقد أن الجزائر فعليًا بدأت تتجاوز عقدة التبعية للمحروقات، وهناك مؤشرات واضحة تدعم هذا الطرح. أولها، أننا لأول مرة نتجاوز حاجز مليار دولار في الصادرات خارج المحروقات، ووصلنا وفقًا لتصريحات رئيس الجمهورية إلى أكثر من 7 مليارات دولار. هذا لم يكن ممكنًا قبل سنوات، ويؤكد أن هناك إنتاجًا جزائريًا حقيقيًا بدأ يتشكل.

ثانيًا، هناك قطاعات بدأت تعوض تدريجيًا النقص في المنتجات المستوردة، خصوصًا بعد تقليص الاستيراد منذ 2015. على سبيل المثال، الصناعات الغذائية عرفت تطورًا ملحوظًا، حيث ظهرت علامات وطنية في البسكويت، الشوكولاتة، المعلبات، وأصبحت اليوم منتجات جزائرية مئة بالمئة. في المساحات التجارية الكبرى، ما يقارب 90% من المنتجات المعروضة أصبحت محلية.

هذه مؤشرات تدل على حدوث تحول فعلي في العقيدة الاقتصادية، وتحرّكًا نحو دعم الإنتاج الوطني. لكن هذا لا يعني أن الطريق قد اكتمل بعد، بل هو بداية واعدة يجب دعمها بتسريع الإصلاحات، وتجاوز العراقيل التي لا تزال تحد من الفعالية، سواء على مستوى الإدارة أو الاستثمار أو تمويل المشاريع.

الأيام نيوز: حسب تصورك، ما الذي ينبغي تغييره اليوم على مستوى السياسات العمومية لتسريع وتيرة التحول الاقتصادي وتفادي تكرار صدمات الماضي؟

حمزة بوغادي: أول ما يجب تغييره هو طريقة التعاطي مع الزمن الاقتصادي. نحن نملك الكثير من المؤشرات الإيجابية والمشاريع الواعدة، لكننا نضيّع الكثير من الوقت بسبب البيروقراطية وبطء الإصلاحات. المطلوب هو تسريع وتيرة التغيير، وتقصير الفترات بين المبادرة والتطبيق، لأن تأخير التنفيذ يضيع فرصًا ثمينة.

كما يجب أن نبتعد عن النماذج التي تظل لعشر أو خمس عشرة سنة دون أثر ملموس، ودون تقييم دوري. هناك قوانين وهياكل اقتصادية أُنشئت وظلت قائمة رغم عدم فعاليتها. نحن بحاجة إلى ثقافة التقييم المستمر، وعدم الخوف من التعديل أو الإلغاء عندما لا تحقق التجارب أهدافها.

أيضًا، ينبغي التركيز على الانفتاح أكثر على السوق المالية العالمية، وإعطاء مكانة أكبر للدبلوماسية الاقتصادية، عبر تمثيليات الجزائر في الخارج، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية النوعية. لا يمكن أن نحقق تحولاً اقتصاديًا عميقًا دون تكييف سياساتنا العمومية مع معطيات الاقتصاد العالمي المتغير، ودون إصلاحات سريعة وفعالة تتماشى مع هذا الطموح.

الأيام نيوز: تحدثتم عن ضرورة تعميق الإصلاحات في الإدارة والمنظومة المالية، ما هي أبرز أولويات الإصلاح في هذه الجوانب؟

حمزة بوغادي: من أبرز أولويات الإصلاح اليوم هي معالجة الإشكالات المرتبطة بالبُعد البيروقراطي في الإدارة. هذا العنصر يُبطئ كثيرًا من وتيرة المشاريع الاقتصادية، ويشكل حاجزًا أمام فعالية الاستثمار. نحتاج إلى إصلاح إداري عميق، يقوم على تسهيل الإجراءات، وتحديث آليات العمل، وتفعيل الإدارة الرقمية، بما يواكب التحول الاقتصادي الجاري.

المنظومة المالية أيضًا تتطلب مراجعة شاملة. النظام المصرفي ما زال بحاجة إلى الانفتاح أكثر على المنتجات المالية الحديثة، وعلى السوق المالية الدولية. كما يجب العمل على تحرير بعض الأدوات، وتقديم منتجات مصرفية متنوعة، وفتح المجال أمام المبادرات الاستثمارية، سواء كانت محلية أو أجنبية.

الوقت أصبح عنصرًا حاسمًا. الكثير من الإشارات إيجابية، لكن إذا استمر البطء في مواكبة هذه الديناميكية، فسنفقد الزخم، ونفقد ثقة المستثمرين. يجب أن نسابق الزمن، ونعتمد إصلاحات جريئة ومدروسة في نفس الوقت، لأن الإصلاح بات شرطًا لبقاء وتطور الاقتصاد الوطني في بيئة دولية متقلبة.

الأيام نيوز: في ظل كل هذه التحديات والفرص، ما هو الإطار الاستراتيجي الذي يجب أن تتبناه الجزائر لتكسب معركة التحول الاقتصادي في وقت أقل وبكفاءة أعلى؟

حمزة بوغادي: الإطار الاستراتيجي الذي تحتاجه الجزائر اليوم يجب أن يكون قائمًا على السرعة والفعالية، دون أن يفرّط في العمق. نحن نعيش لحظة اقتصادية خاصة، فيها الكثير من التحولات الدولية، والفرص، لكن أيضًا التحديات. وبالتالي، لا يكفي أن نضع رؤية عامة، بل يجب أن نربطها بإجراءات عملية، بأجندات تنفيذ، وآليات متابعة دقيقة.

المطلوب هو التوجه أكثر نحو اقتصاد منفتح، منتج، متنوع، ومرتبط بالسوق الدولية، مع الحفاظ على السيادة الاقتصادية. وهذا لن يتحقق إلا بتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية، واستغلال شبكات التمثيل الجزائري في الخارج، وتحسين صورة الجزائر كموقع استثماري آمن ومربح.

الجزائر تمتلك الطاقة، الشباب، والموقع، ولكن الفوز في معركة التحول الاقتصادي يتطلب توظيف هذه المقومات ضمن عرض اقتصادي جذاب ومتكامل. الوقت عامل حاسم، والتحدي اليوم هو في تقليص فترة الانتقال من النية إلى الفعل، من الإصلاح إلى الأثر. إذا نجحنا في ذلك، سنكون أمام تجربة اقتصادية جزائرية ناجحة وواعدة على الصعيدين الوطني والدولي.