يبرز خماري سيد علي، رئيس المرصد الجزائري للوقاية من الفساد ودعم هياكل الدولة، في حوار مع "الأيام نيوز"، أهمية الشفافية ومكافحة الفساد كخيار استراتيجي لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تمر بها الجزائر في ظل تراجع أسعار النفط والاضطرابات في الأسواق العالمية. ويؤكد أن محاربة الفساد أصبحت ضرورة اقتصادية حتمية، بإمكانها أن تعوّض جزءًا من المداخيل المهدورة، وتدعم جهود الدولة في ترشيد النفقات، وتعزيز الثقة في المؤسسات، وبناء نموذج تنموي أكثر تماسكًا واستدامة.
الأيام نيوز: في ظل تراجع أسعار النفط والاضطرابات الاقتصادية العالمية، كيف تنظرون إلى دور الشفافية ومكافحة الفساد في دعم الاقتصاد الوطني؟
خماري سيد علي: تواجه الجزائر تحديات اقتصادية متزايدة، زادت حدّتها بفعل الاضطرابات التي تعرفها الأسواق العالمية، وتراجع أسعار النفط الناتج عن السياسات التجارية الدولية. في ظل هذا السياق المعقّد، تبرز بوضوح أهمية مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة الرشيدة كأدوات مركزية، بإمكانها أن تساهم في التخفيف من حدة هذه التحديات، وأن تدعم قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود. نحن لا نتحدث هنا عن جانب أخلاقي أو قانوني فقط، نحن نتحدث عن ضرورة حيوية تمسّ صميم استقرار الاقتصاد، وتُعدّ جزءًا لا يتجزأ من أدوات التكيف في مواجهة الصدمات الخارجية.
الأيام نيوز: إذن، أنتم ترون أن مكافحة الفساد في الجزائر باتت ضرورة اقتصادية ملحة وليست قضية قانونية فقط؟
خماري سيد علي: بالطبع، مكافحة الفساد في الجزائر لم تعد محصورة في إطارها الأخلاقي أو القانوني فحسب، لقد تحولت إلى مطلب اقتصادي ملحّ تفرضه المعطيات الراهنة. فالفساد يؤدي إلى اختلال في القيم وتجاوز في القانون، ويتسبب أيضًا في هدر كبير للموارد العامة، ويُفقد الاقتصاد الوطني مرونته وقدرته على التكيّف. وبالتالي، فإن محاربته تندرج في إطار تدعيم أسس الاقتصاد، من خلال التحكم في النفقات، وتحسين كفاءة التسيير، وتقوية الاستقلال المالي للدولة في ظل تراجع مداخيلها الطاقوية.
الأيام نيوز: ما هي أبرز الآثار الاقتصادية التي يمكن أن تنتج عن الحد من التهرب الضريبي وإساءة استخدام المال العام؟
خماري سيد علي: عندما نتمكن من الحد من التهرب الضريبي، وتقليص ظاهرة التهريب، ومعالجة سوء استخدام المال العام، فإن الدولة تستطيع أن تحقق مكاسب معتبرة على مستوى الإيرادات غير النفطية. وهذا بدوره يُمكنها من ترشيد نفقاتها بطريقة فعالة. بهذا الشكل، تصبح محاربة الفساد وسيلة لتعويض الخسائر التي تتكبدها الخزينة العمومية جراء تراجع عائدات المحروقات، كما تُساهم في تقليص الحاجة إلى الاستدانة أو فرض إجراءات تقشفية تمسّ المواطن.
الأيام نيوز: كيف يمكن لبيئة أعمال شفافة ونزيهة أن تسهم في استقطاب الاستثمارات وتنويع مصادر الدخل؟
خماري سيد علي: خلق بيئة أعمال شفافة ونزيهة يشكّل عاملاً رئيسيًا في استقطاب الاستثمارات وتنويع مصادر الدخل. فعندما تسود الشفافية وتُحترم قواعد المنافسة النزيهة، فإن ذلك يعزّز الثقة في المؤسسات، ويجعل مناخ الأعمال أكثر جاذبية سواء للمستثمرين المحليين أو الأجانب. هذه الثقة تُسهم بدورها في توسيع القاعدة الاقتصادية، وفي التخفيف من التبعية لعائدات النفط، ما يُمهّد لبناء اقتصاد متنوع ومتين.
الأيام نيوز: حسب اعتقادك، هل كشفت الأزمة الحالية عن نقاط يجب تداركها في منظومة التسيير العمومي في الجزائر؟
خماري سيد علي: نعم، الأزمة الحالية كشفت عن بعض النقائص في بعض آليات التسيير العمومي، خصوصًا ما تعلق بالاعتماد المفرط على قطاع الطاقة كمصدر رئيسي للإيرادات رغم المحاولات الجادة للمضي في تنويع الصادرات خارج المحروقات. هذا الاعتماد جعل الاقتصاد الوطني عرضة مباشرة لتقلبات السوق الدولية، وأظهر ضرورة الإسراع في مراجعة نمط التسيير، من خلال تعزيز فعالية الأداء العمومي، وتحقيق الانضباط المالي، وبناء مؤسسات قادرة على التكيّف مع الواقع المتغير.
الأيام نيوز: ما العلاقة بين فعالية مكافحة الفساد وقدرة الدولة على امتصاص الصدمات الخارجية الاقتصادية؟
خماري سيد علي: الربط بين فعالية مكافحة الفساد وقدرة الدولة على امتصاص الصدمات الاقتصادية هو ربط مباشر وواضح. فحينما يكون الفساد مستشريًا، تُستنزف الموارد، وتضعف المؤسسات، وتتعطل أدوات التدخل السريع. أما في المقابل، فإن محاربة الفساد تتيح للدولة هامشًا أوسع في استخدام مواردها بكفاءة، وتمكنها من مواجهة الصدمات بتكلفة أقل، ومن دون الاعتماد المفرط على الخارج. إنها أداة حماية اقتصادية وليست فقط مسألة قانونية.
الأيام نيوز: في فترات الأزمات، ما هي القطاعات الأكثر عرضة لبؤر الفساد، وكيف يمكن التعامل معها بشكل استباقي؟
خماري سيد علي: في فترات الأزمات، تزداد قابلية بعض القطاعات لأن تكون عرضة لبؤر الفساد، على غرار المشتريات العمومية، وتوزيع المساعدات، القطاع المالي، الطاقة، والتجارة الخارجية. التعامل مع هذه البؤر ينبغي أن يتم من خلال اعتماد مقاربة استباقية تعتمد على تحليل المخاطر، وتعزيز أدوات الرقابة الوقائية، وتفعيل آليات التبليغ، مع إشراك المجتمع المدني، وتكثيف الوعي المؤسسي.
الأيام نيوز: ما هي الأدوات التي يجب أن يعتمدها المرصد لمواجهة الفساد في السياق الاقتصادي الحالي؟
خماري سيد علي: المرصد مطالب بتبنّي أدوات تحليل المخاطر كوسيلة أساسية لفهم طبيعة التهديدات المرتبطة بالفساد في السياق الاقتصادي الحالي. كما يجب عليه تعزيز الرقابة الوقائية، وتفعيل قنوات الإبلاغ، إلى جانب استخدام التكنولوجيا الحديثة لتتبع المعاملات ومراقبتها. كذلك من المهم تطوير آليات للتعاون مع المجتمع المدني، باعتباره شريكًا في الرقابة المجتمعية على المال العام، وتوسيع نطاق التوعية والتحسيس.
الأيام نيوز: هل تمثل هذه الأزمة فرصة لإعادة هيكلة آليات الرقابة على المال العام؟ وكيف يمكن ربط الشفافية بالنجاعة المالية؟
خماري سيد علي: هذه المرحلة تمثل فرصة حقيقية لإعادة صياغة آليات الرقابة على المال العام بصورة جذرية. يجب أن تكون الشفافية مرتبطة مباشرة بجهود ترشيد النفقات، وضمان استدامة الموارد المالية. ويتم ذلك من خلال اعتماد موازنة شفافة، وتفعيل دور الهيئات الرقابية، وربط الإنفاق بالأداء، وتشجيع المشاركة المجتمعية، واستخدام التكنولوجيا في الرقابة، مع تطوير نظام لحماية المبلغين عن الفساد، بما يعزز فعالية الرقابة المالية.
الأيام نيوز: كسؤال أخير، برأيكم، هل يمكن فعلاً اعتبار محاربة الفساد خيارًا استراتيجيًا لتعويض تراجع مداخيل النفط وتحقيق تنمية مستدامة؟
خماري سيد علي: نعم، مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة الرشيدة ليستا خيارًا هامشيًا، وإنما ضرورة استراتيجية في هذه المرحلة الحساسة. فبفضل إصلاحات هيكلية شاملة في هذا المجال، يمكن للجزائر أن تعزز قدرتها على الصمود في وجه الأزمات، وأن تؤسس لنموذج تنموي قائم على الاستدامة والشفافية. كما أن ذلك يُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، ويُمهّد الطريق نحو تنمية اقتصادية قوية تستفيد منها الأجيال القادمة.