2025.05.21
سياسة

بين قيد الاحتلال وحلم الحرية.. فلسطين أكبر من السجن والسجّان


تحت ظلال الجزائر، التي لطالما كانت داعمة للحقوق الفلسطينية، تعرض "الأيام نيوز" هذا الملف الخاص، حاملةً الهمّ الفلسطيني ومتقاسمةً مع أشقائها معاناة الأسرى. هذا الملف، الذي أعدّه الأسير المحرر والإعلامي خالد عز الدين، بالتنسيق مع هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، هو جزء من مشروع "صوت الأسير" الذي يهدف إلى توثيق معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

الملف يقدّم صورة شاملة عن أوضاع الأسرى، موثّقًا شهاداتهم المباشرة، والأرقام الصادمة التي تعكس حجم الانتهاكات التي يتعرضون لها، من التعذيب والتجويع إلى العزل والإهمال الطبي. كما يتناول الأبعاد القانونية والحقوقية لهذه الجرائم وفقًا للتقارير الصادرة عن المؤسسات الحقوقية الدولية، مما يجعله وثيقةً مهمةً تكشف أحد أكثر فصول الاحتلال "الإسرائيلي" ظلمةً ووحشيةً.

الملف لا يقتصر على توثيق واقع الأسرى، بل يناقش أيضًا قضايا أخرى مؤثرة في السياق الفلسطيني، مثل قضية التطبيع مع الاحتلال، والذاكرة الجمعية التي لا يزال الشعب الفلسطيني متمسكًا بها رغم محاولات الاحتلال طمسها. ومن خلال هذه الصفحات، يتجلى صوت الأسرى الذين يحاول الاحتلال طمس معاناتهم، لكنها تظل شاهدةً على صمودهم ونضالهم من أجل الحرية.

الاحتلال يعتقل الصحفي علي السمودي..  صوت الأسرى في مرمى الاستهداف

اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر الثلاثاء 29 أفريل/نيسان 2025، الصحفي الفلسطيني علي السمودي، أحد أبرز الصحفيين الميدانيين في مدينة جنين، وأحد كتّاب ملحق صوت الأسير في "الأيام نيوز"، وذلك في إطار حملة تصعيد جديدة تستهدف الصحافة الفلسطينية، وتحديدًا الأصوات المدافعة عن قضية الأسرى.

وأفاد شهود عيان بأن قوة عسكرية كبيرة داهمت منزل السمودي في حي الزهراء بمدينة جنين، وعبثت بمحتوياته، قبل أن تقوم باعتقاله مكبّل اليدين، وتنقله إلى جهة مجهولة، دون الإفصاح عن التهم الموجهة إليه.

الصحافة تحت النار.. واستهداف متكرر للسمودي

يُعدّ الزميل علي السمودي من أبرز الصحفيين الفلسطينيين الذين واكبوا بالصوت والصورة اقتحامات الاحتلال المتكررة لمخيم جنين، وغطى لسنوات طويلة انتهاكات الاحتلال بحق الأسرى والمواطنين. وقد نجا بأعجوبة من الموت في أكثر من مناسبة، أبرزها إصابته الخطيرة يوم 11 ماي/أيار 2022 برصاص قناص إسرائيلي، أثناء تغطيته الميدانية إلى جانب الزميلة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي ارتقت آنذاك خلال العدوان على جنين.

السمودي، الذي قضى سنوات في سجون الاحتلال، لم يكن مجرد ناقل خبر، بل صوتًا مدويًا في الدفاع عن الأسرى وقضيتهم، وكان من أوائل من كتبوا في ملحق صوت الأسير التابع لـ"الأيام نيوز"، حيث حرص على إيصال رسائل من الأسرى والتعريف بمعاناتهم في ظل صمت دولي مطبق.

حملة ممنهجة لإسكات الكلمة الحرة

اعتقال السمودي يأتي في سياق حملة قمع متصاعدة تشنها سلطات الاحتلال ضد الصحفيين الفلسطينيين، خاصة الذين يغطون العدوان المستمر على قطاع غزة والاقتحامات اليومية في الضفة الغربية. وبحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فقد استشهد 15 صحفيًا فلسطينيًا بنيران الاحتلال خلال الربع الأول من هذا العام، كما تم تدمير 12 منزلًا تعود لصحفيين، وإصابة 11 آخرين بجروح خطيرة.

وتشير تقارير "لجنة الحريات" التابعة للنقابة إلى أن الاحتلال اعتقل منذ بداية العام 15 صحفيًا، بعضهم لا يزال رهن الاحتجاز، بينما تعرّض أكثر من 117 صحفيًا للاعتداء أو المنع من التغطية، لا سيما في القدس وجنين، في حين تم توثيق 16 حالة صودرت فيها معدات العمل الصحفي أو جرى تحطيمها عمدًا.

صوت لن ينكسر

إن استهداف الزميل علي السمودي، الذي أفنى سنواته في الدفاع عن الحقيقة ونقل معاناة أبناء شعبه، لا يمكن فصله عن الاستهداف الممنهج لكل من يتجرأ على فضح جرائم الاحتلال، أو يحمل على عاتقه همّ الأسرى، الذين يُحاول الاحتلال بكل الوسائل طمس قضيتهم في خضم الحرب الشاملة على الوعي الفلسطيني.

إننا في "الأيام نيوز"، إذ نُعبّر عن قلقنا البالغ على مصير الزميل السمودي، نطالب المؤسسات الصحفية الدولية واتحادات الصحفيين العرب والعالميين بالتدخل العاجل للإفراج عنه، وضمان حمايته، وإدانة الممارسات الإسرائيلية بحق الجسم الصحفي الفلسطيني.

يبقى السمودي، في زنزانته، شاهدًا حيًا على ثمن الكلمة الحرة، وصوتًا يأبى أن يصمت، مهما اشتد القيد.

جريمة صامتة.. أسرى النقب وعوفر بين الجوع والرصاص

نادي الأسير

منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والجرائم التي يرتكبها الاحتلال في حق الشعب الفلسطيني لا تتوقف، لكن واحدة من أكثر الجرائم التي يعاني منها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال هي تلك التي ترتكب بحقهم يوميًا داخل السجون. سجون الاحتلال في النقب وعوفر، التي تأوي الآلاف من الأسرى الفلسطينيين، قد تحولت إلى معسكرات للتعذيب المنظم، حيث يُجبر الأسرى على العيش في ظروف قاسية تتسم بالانتهاك اليومي لحقوقهم الإنسانية.

في تقريره الأخير، يواصل نادي الأسير الفلسطيني رصد الجرائم الممنهجة التي تُمارس بحق الأسرى في سجون الاحتلال، لاسيما في سجنَي النقب وعوفر، حيث يواجه الأسرى الفلسطينيون في تلك السجون يومًا بعد يوم جرائم القمع، التعذيب، تجويعهم، وعدم توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية.

القمع والعنف المتصاعد

إن سياسة القمع التي تنتهجها إدارة سجون الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين وصلت إلى مستويات غير إنسانية، حيث تتواصل الاعتداءات الجسدية على الأسرى بشكل مستمر. ورغم أن هذا الأمر ليس بجديد، إلا أن وتيرته قد تصاعدت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة. وفي سجن النقب، أقدمت قوات القمع على اقتحام قسم 27 باستخدام الرصاص المطاطي مستهدفة أقدام الأسرى، الأمر الذي أسفر عن إصابة عدد منهم بجروح متفاوتة. تلك الحوادث المؤلمة لم تكن الوحيدة، حيث استمرت عمليات الاعتداء على الأسرى بالضرب المبرح، واستخدام الغاز المسيل للدموع، إضافة إلى قيام جنود الاحتلال بإلقاء الرصاص المطاطي على الأسرى في العديد من الأقسام الأخرى.

ويؤكد الأسرى الذين تمت زيارتهم مؤخرًا في سجون النقب وعوفر أن القمع الذي يتعرضون له لم يتوقف، بل تصاعد مع مرور الوقت. الأسير "ر. ة" يروي كيف اقتحمت قوات الاحتلال قسمه، حيث تعرض عدد من الأسرى للإصابات جراء عمليات القمع، وأضاف أن المعاملة القاسية تمتد إلى مختلف جوانب حياتهم في السجن، حيث يعانون من شح في الطعام والملابس، مع انعدام النظافة الشخصية بسبب نقص المواد الأساسية.

جوع وتعذيب يومي

ما يواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال من تجويع متعمد يصل إلى حد الحرمان الكامل من الطعام أو تلقي وجبات ضئيلة وغير كافية من حيث الكمية والنوعية. الأسير "ص. ع" يتحدث عن هذه المأساة حيث أكد أن "كميات الطعام التي يتم تقديمها للأسير قليلة جدًا، ونوعيتها سيئة للغاية"، وأشار إلى أن الأسرى في سجن النقب لا يتوفر لهم سوى غيار واحد للملابس، بالإضافة إلى ملابس السجن التي لا تسهم في الحفاظ على نظافتهم الشخصية، الأمر الذي يزيد من معاناتهم.

ويستعرض الأسير "ف. ي" في شهادته كيف أن سياسة التجويع تترافق مع تهديدات بالاعتداء، حيث تعرض للرصاص المطاطي في قدميه خلال اعتقاله، مما أدى إلى إصابته بجروح خطيرة نقل على إثرها إلى المستشفى. ورغم خضوعه للعديد من العمليات الجراحية، إلا أن آثار الإصابات ما زالت تلاحقه حتى الآن، ومع ذلك، لا يزال يعاني من الظروف القاسية داخل السجون.

انتشار الأمراض وغياب الرعاية الطبية

واحدة من أخطر المشاكل التي يعاني منها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال هي انتشار الأمراض المزمنة والمعدية، بما في ذلك مرض الجرب، الذي انتشر بشكل كبير بين الأسرى بسبب نقص النظافة والمواد الطبية. "ق. ن" أحد الأسرى المصابين بمرض الجرب، أكد أن حالته الصحية تدهورت بشكل ملحوظ رغم مرور عدة أشهر على إصابته، دون أن يتلقى أي علاج فعال. المرض الجلدي قد تفشى في السجون بسبب شح الملابس وغياب وسائل التنظيف، إضافة إلى رفض إدارة السجون توفير العلاج اللازم للأسرى المصابين.

أما الأسير "م. أ" في سجن عوفر فقد أكد أن الوضع الصحي داخل السجون يزداد سوءًا بشكل يومي، حيث تنتشر الأمراض بين الأسرى بشكل سريع ولا يتم التعامل معها بشكل جدي من قبل إدارة السجون. وأضاف أن الأسرى يعانون من الإهانات المتكررة والعنف اللفظي والجسدي، الذي يضاف إلى معاناتهم من الأمراض المزمنة والظروف الحياتية القاسية.

الاعتداءات على الأطفال والشباب

واحدة من أكثر الجرائم بشاعة التي تواصل إدارة سجون الاحتلال ارتكابها هي استهداف الأطفال والشباب الفلسطينيين، الذين لا يتجاوز بعضهم سن الخامسة عشرة، حيث يُعاملون بنفس القسوة التي يتعرض لها البالغون. في سجن عوفر، تؤكد شهادات الأسرى الشبان أن عملية الاعتداءات على الأطفال في السجون قد تصاعدت بشكل كبير، حيث يتم اقتحام الزنازين بشكل مستمر، ويتم ضرب الأطفال باستخدام الكلاب البوليسية والغاز المسيل للدموع.

الأسير الشاب "ف. ي" من سجن عوفر أكد أن عملية القمع في سجون الاحتلال لم تقتصر على الأسرى البالغين فقط، بل شملت الأطفال أيضًا، حيث يتم اقتحام الأقسام بشكل عنيف واعتقال الأطفال بطريقة مهينة، مما يترك آثارًا نفسية وجسدية عميقة لديهم.

الحاجة إلى تحرك دولي عاجل

في ضوء هذه الجرائم اليومية التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، يواصل نادي الأسير الفلسطيني دعوته للمجتمع الدولي للتحرك بشكل عاجل لوقف الانتهاكات المستمرة بحق الأسرى، والعمل على محاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي على جرائم الحرب التي يرتكبونها. كما يدعو النادي المنظمات الحقوقية الدولية إلى الضغط على دولة الاحتلال من أجل إنهاء سياسة التجويع والتعذيب التي يمارسها بحق الأسرى الفلسطينيين، بالإضافة إلى توفير الرعاية الطبية اللازمة لهم.

في ظل الظروف المأساوية التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تتجسد معاناتهم في كل لحظة داخل جدران تلك السجون التي تحولت إلى معسكرات قمعية. إن ما يتعرض له الأسرى من تجويع، تعذيب، اعتداءات جسدية ونفسية، لا يعكس فقط وحشية الاحتلال، بل يعكس أيضًا الاستهتار التام بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان.

ورغم كل هذه المعاناة، يظل الأسرى الفلسطينيون صامدون في وجه هذا الظلم، ثابتون في إيمانهم بعدالة قضيتهم، ومتمسكين بحقهم في الحرية. إنهم يشكلون عنوانًا جديدًا للمقاومة التي لا تُقهر، ويثبتون للعالم أجمع أن الصمود في وجه الاحتلال ليس مجرد كلمات، بل هو موقف عملي ينبض بالحياة كل يوم.

لكن في المقابل، تظل مسؤولية المجتمع الدولي واضحة في هذا السياق. يجب أن يكون هناك تحرك جاد وفعّال للضغط على دولة الاحتلال من أجل إنهاء هذه الجرائم الوحشية، وإنهاء سياسة القمع والاضطهاد التي تتعرض لها شريحة من الأبرياء. الموقف الدولي لا يمكن أن يظل صامتًا أمام هذه الانتهاكات المتواصلة، ويجب أن يكون هناك تضامن عالمي مع الأسرى الفلسطينيين، خاصة أن العدالة لا تعني سوى حرية الأسرى، وتحقيق حقوقهم الأساسية.

كما أن المسؤولية تقع أيضًا على عاتق الشعب الفلسطيني نفسه في متابعة قضية الأسرى على الصعيدين الوطني والدولي، وإبراز معاناتهم لأوسع نطاق من أجل تحقيق الدعم المطلوب. فمعركة الأسرى لا تتوقف عند حدود السجون، بل هي معركة شعب بأكمله يسعى إلى التحرر من الاحتلال في مختلف المجالات.

إن قضية الأسرى الفلسطينيين هي قضية ضمير إنساني، ويجب أن تظل في قلب الوعي الفلسطيني والعالمي حتى يتحقق النصر. فحتى وإن كانت السجون هي مكان لمعاناة الأسرى، فهي في نفس الوقت تصبح رمزًا للقوة والمقاومة الفلسطينية التي لا تنكسر أبدًا.

الأسرى في سجون الاحتلال هم الأبطال الحقيقيون الذين يضحون من أجل حرية أرضهم وشعبهم، ويستحقون من كل فلسطيني وكل إنسان حر أن يقف بجانبهم في نضالهم من أجل الحرية والعدالة.

حين يصبح الجسد ساحة حرب

تقرير/ إعلام الأسرى

تحولت السجون "الإسرائيلية" بعد السابع من أكتوبر إلى مسالخ بشرية لا تحترم آدمية الإنسان، ولا تحفظ شيئًا من كرامته. في معسكرات الاعتقال وتحديدًا في معسكر "عوفر" تم إعدام ما تبقى من منظومة القيم الإنسانية. هناك لا يُسجن الفلسطيني فقط وإنما يُسحق ويُكسر، ويُغتصب. هناك تتحول أجساد المعتقلين إلى ميادين للانتقام، وأرواحهم إلى أهداف لإذلالٍ ممنهج تتواطأ فيه أدوات الرقابة، والجدران، وأعين الكاميرات، وكل ما يحمله اسم "منظومة أمنية". بحسب إفادات موثقة لمعتقلين محررين من قطاع غزة، فإن عمليات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية أصبحت سياسة ثابتة تُنفذ تحت إشراف مباشر من جنود الاحتلال، وبتعمد واضح لكسر الإنسان الفلسطيني جسديًا ونفسيًا. في معسكر "عوفر"، لا يكتفي السجان بالضرب أو التجويع أو الإذلال اللفظي بل يذهب إلى أقصى درجات السادية عبر تثبيت أطراف المعتقل وارتكاب أفعال شنيعة تتضمن إدخال عصي في فتحة الشرج مرارًا وتكرارًا حتى يشعر المعتقل بالاختناق من شدة الألم. ولا يتوقف الجرم عند الفعل ذاته، ويمتد إلى تصويره بالكاميرات، وتنفيذه أمام معتقلين آخرين بهدف كسر الضحية أمام رفاقه، وبثّ الخوف والرعب في قلوب الجميع. هذا السلوك الوحشي لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة ضد الإنسانية، تمارس تحت حماية الصمت الدولي، وتواطؤ الأنظمة، وعجز المؤسسات. وأي معتقل يُظهر مقاومة حتى لو بابتسامة يُعتبر متمردًا، وتُنفّذ بحقه أشد العقوبات: الضرب المبرّح، التنكيل الجماعي، التفتيش المهين، وساعات من الاعتداء في الساحات، تحت مسمى "الفحص الأمني". في هذه الميادين الانتقامية ومعسكرات الموت يُجبر المعتقلون على النوم على بطونهم فينهال عليهم الضرب دون رحمة أو أدنى احترام لكرامتهم. إن ما يجري في سجون الاحتلال سياسة ممنهجة ترقى إلى مستوى الجرائم الكبرى، والصمت الدولي تجاه هذه الانتهاكات لا يُعدّ حيادًا، هو شراكة في الجريمة. إن كل مؤسسة معنية وكل إعلام وكل صوت يختار الصمت يضع توقيعه على شهادة ألم جديدة تضاف إلى سجلات الضحايا. آن الأوان للعالم أن ينزع الأقنعة، وأن يقول كلمته الواضحة: هذه الجرائم يجب أن تتوقف. لذلك لا بد من لجنة تحقيق دولية مستقلة ومن محاسبة المجرمين، وكسر جدار الصمت الذي يمنح الجلاد حصانته، لأن الإنسان الفلسطيني لا يستحق سوى الكرامة.

تقرير : نديم علاوي- رام الله

الأسير المحرر عطا عبد الغني: لأول مرة أرى السماء دون شباك منذ 23 عامًا

بعد 23 عامًا من الاعتقال في سجون الاحتلال، خرج الأسير المحرر عطا عبد الغني (55 عامًا) من حافلة الصليب الأحمر متوشحًا بالعلم الفلسطيني، واحتضن ابنيه التوأمين زيد وزين، اللذين أنجبهما عبر تهريب نطف من داخل سجون الاحتلال. يقول عبد الغني في أولى خطواته لمراسل "وفا": "للمرة الأولى نرى السماء دون شباك وأسلاك شائكة، اليوم نشاهدها بأم عين الحرية، بعد سنوات طويلة من الاعتقال". الأسير عطا محمد عطا عبد الغني من مدينة طولكرم، أمضى ما مجموعه 28 عامًا، وكان آخر اعتقال له بتاريخ 30/10/2002، وهو محكوم بالسجن المؤبد، أفرج عنه مع 31 أسيرًا من الدفعة الرابعة ضمن اتفاق وقف إطلاق النار. في ساحة متحف محمود درويش بمدينة رام الله، تجمع مئات المواطنين وذوو المعتقلين منذ ساعات الصباح الباكر لاستقبال المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم من سجن "عوفر" العسكري. ويتابع: "مثلما بزغ عليّ فجر جديد، أدعو ببزوغه وأن يشرق أيضًا على بقية الأسرى، وشعبنا في غزة والضفة وكل مكان". يضيف: "في هذه اللحظة تعجز الكلمات عن التعبير عن معنى الحرية، وبأن الحرية قادمة لشعبنا لا محالة." وتحدث عبد الغني عن عذابات الأسرى اليومية بين الأسلاك الشائكة والزنزانات الضيقة، وظروف العزل والتنكيل خاصة قبيل الإفراج عنهم. وأنجبت زوجة الأسير المحرر التوأمين عام 2014، بعد نجاحه بتهريب نطف من داخل السجن، لكن والدهما لم يتمكن من احتضانهما إلا بعد تحرره اليوم السبت، وقبل اعتقاله، كانت لديه ابنتان هما إيلانا وسميرة، وانضم إليهما لاحقًا التوأمان زيد وزين. "كانت الأيام تتشابه، لا نرى السماء إلا من خلال فتحات صغيرة جدًا محاطة بالشِباك والأسلاك" يقول عبد الغني. وسط دموع امتزجت بالفرح، خرج الأسير المحرر شادي فؤاد عطية قرعان (42 عامًا) فرحًا بحريته وهو بين عائلته، بعد 17 عامًا ونصف العام من الأسر في معتقلات الاحتلال. ويقول قرعان، الذي كان محكومًا بالسجن 25 عامًا، إن "وضع الأسرى صعب جدًا، ويجب التحرك لإنقاذهم". ويتابع: "قضيت في الأسر متنقلًا بين السجون والزنازين الملغمة بالأسلاك الشائكة والأقفال الحديدية، وواجهنا شتى أنواع الاعتداء في الأيام الأخيرة، آلاف الأسرى يذوقون الأمرّين نتيجة التنكيل بهم". بدوره، يقول رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدورة فارس خلال استقباله للأسرى المحررين، لـ"وفا"، إننا نستقبل الأسرى اليوم، مؤكدين أننا شعب لا يساوم على ثوابته، شعب متمسك بأهدافه الوطنية التي لا تقل عن حرية منجزة وكاملة ودولة مستقلة، دولة تليق بتضحيات الأبطال والشهداء، الذين قدموا أغلى ما لديهم من أجل هذا الوطن.

الأسير أيمن الحاج يحيى: نحن نموت في السجون

وجّه الأسرى في سجن النقب الصحراوي مناشدة عاجلة إلى كافة الجهات الحقوقية والإنسانية، لإنقاذ حياة الأسير أيمن الحاج يحيى من سكان مدينة الطيبة في الداخل الفلسطيني، من موت محقق. وأوضح الأسرى أن الأسير أيمن الحاج يحيى يقبع في سجن النقب، القسم 25، الغرفة 10، وهو محكوم بالسجن لمدة ست سنوات، وقد أمضى منها قرابة عامين حتى الآن. يعاني الأسير أيمن من وضع صحي بالغ الخطورة، إذ أُصيب بجلطة دماغية داخل السجن أدّت إلى فقدانه التام للحركة، وعدم الشعور بأطرافه العلوية والسفلية، فضلًا عن ضعف شديد في النظر، وقد تغيّرت ملامح وجهه، وتحولت إحدى عينيه إلى اللون الأبيض. طالب الأسرى القابعون معه في نفس الغرفة إدارة السجن بنقله لتلقي العلاج، إلا أن الإدارة رفضت الاستجابة، ما دفعهم إلى الانتظار حتى موعد "الفورة" لإخراجه من الغرفة ووضعه عند بابها، ورفضوا إرجاعه إلى الداخل، في محاولة للضغط على الإدارة لنقله إلى العيادة أو توفير العلاج اللازم له.

وبعد محاولات متكررة من الأسرى والتواصل مع الضابط المسؤول، حضر صيدلاني إلى الغرفة، وقام بقياس المؤشرات الحيوية للأسير من ضغط وحرارة وأوكسجين، وأخبرهم أنه لا يعاني من شيء، رغم أن الأسير في تلك اللحظة كان فاقدًا للذاكرة والحركة، وغير مدرك لما يدور حوله. تم أخذ الأسير أيمن بطريقة مهينة، حيث جرى تقييد يديه ورجليه، ورفعه من الأصفاد بشكل مؤلم، ووُضع على سرير حديدي لا يصلح للاستخدام البشري، ثم نُقل إلى العيادة. وأُبلغ رفاقه في الغرفة بأنه نُقل للعلاج، ولن تتم إعادته إلى القسم، لكن بعد ساعات قليلة أُعيد إلى زنزانته على كرسي متحرك، ثم أُخذ الكرسي معهم، ما ترك الأسرى في حالة ذهول وقلق بالغ من وضعه الصحي، وعجزهم عن تقديم أي مساعدة له. رفض الأسرى إدخاله إلى الغرفة مجددًا لسوء حالته، ما اضطر إدارة السجن إلى اقتياده مرة أخرى، لكن في هذه المرة لا يعلم الأسرى إن كان قد نُقل للعلاج، أم إلى قسم آخر، أم إلى جهة مجهولة. الأسير أيمن، وبكلمات صادقة، يعدّ أيامه الأخيرة، وقد يُعلن عن استشهاده في أي لحظة، في ظل الإهمال الطبي المتعمّد. ويناشد الأسير أيمن وزملاؤه الأسرى: مؤسسات الأسرى، ومنظمات حقوق الإنسان، والفصائل الفلسطينية، وكل أصحاب الضمائر الحية، وأخوته وأصدقاؤه الأسرى المحررين، أن يبذلوا كل جهد ممكن لإخراجه من غياهب السجن وظلمته. ويخاطب أيمن أخوته المحررين قائلًا: "لا تنسوا أسراكم، من تركتموهم خلفكم، ارفعوا صوتهم عاليًا، فنحن نموت في السجون."

الأسيرات حرائر فلسطين.. شموخ وعزيمة لا تلين

بقلم: حسن العاصي، كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك

رفعت المرأة الفلسطينية اسم فلسطين عالياً، وتواجدت بفعالية في كافة الثورات والانتفاضات والتحركات الجماهيرية وفي كل مفاصل الحركة الوطنية الفلسطينية تاريخياً، وكانت في مقدمة الصفوف، واجهت رصاص وسياط الجلادين الصهاينة أعداء الحياة والإنسانية. فمنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في ستينيات القرن العشرين، ساهمت المرأة الفلسطينية في مختلف المراحل النضالية، وشاركت الرجل الفلسطيني جنباً إلى جنب وعلى قدم المساواة في الدفاع عن الأرض التي احتلها المغتصب الصهيوني. شاركت في العمليات الفدائية، وساعدت في نقل الأسلحة وتخزينها، واندفعت المرأة الفلسطينية وحملت السلاح وناضلت بجانب المقاتلين في الذود عن وطنها وكرامتها ومقدساتها. تقاسمت مع الرجل كل شيء، وشاركته حب فلسطين وعشقها الذي نمى وترعرع مع شذى التراب الطاهر. حملت الحجر وشاركت في كل الانتفاضات الوطنية ضد الاحتلال. زرعت الأرض مع الرجل وحصدتها وحدها حين يغيب شهيداً أو أسيراً. لم تتواني المرأة الفلسطينية في بذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق أهداف شعبها في الحرية والانعتاق من الاحتلال الصهيوني البغيض. قدمت حليها لشراء الأسلحة الذي حملته لتواجه المحتل. أسهمت بفعالية في تنظيم المظاهرات والمسيرات ضد سياسات الاحتلال الغاشمة. وانغمست المرأة والفتاة الفلسطينية في الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987 وكان لها دور محوري في تهيئة مناخات الانتفاضة ونجاحها، حيث أسهمن في تكوين الأطر النسائية في مختلف القطاعات. ودعمت المرأة الفلسطينية الانتفاضة الثانية العام 2000 فكان منهن الشهيدة والجريحة والأسيرة. ولم تتوانى حرائر فلسطين عن حماية المقدسات، فكن الحراس الأشداء المنتشرين في ساحات المسجد الأقصى، ورابطن على أبوابه لصونها ومنع جنود الاحتلال الصهيوني من تهويد وتقسيم الأقصى. وشاركن بقوة في انتفاضة القدس العام 2015 حيث تميزت هذه الانتفاضة بالعمليات الفردية التي قامت بها فتيات وشبان بمقتبل العمر، وسقط منهن العديدات شهيدات برصاص قوات الاحتلال، وجرح وأسر منهن العشرات، وهو ما يدلل على أن دور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني لا حدود له في سبيل تحرير الوطن.

حرائر فلسطين

تقبع العشرات من حرائر فلسطين في سجون العدو الصهيوني، يتكدسن في زنازين قاتمة لا يدخلها ضوء ولا شعاع شمس، ضمن معتقلات كالقبور، صامدات خلف القضبان الحديدية، يقضين فترات اعتقالهن التي تستمر سنين طويلة وصلت خمسة عشر عاماً أمضتها عميدة الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الأسيرة المحررة "لينا الجربوني" بتهمة المقاومة. تذوب أعمار هؤلاء الأسيرات في الانتظار خلف زجاج الزيارة الغليظ الذي يحول دون لمس أيادي الأهل والأحبة والأبناء. يعانين في معتقلات وسجون النازيين الجدد أقسى أساليب التعذيب الجسدي والنفسي والاجتماعي التي يبتكرها السجانون الصهاينة. لكن رغم الظروف الكارثية التي تعيش بظلها الأسيرات الفلسطينيات، إلا إنهن صامدات بإرادة وعزيمة قوية صلبة لم يستطع السجان النيل منها ببشاعة تصرفاته. ولم تتمكن الأوضاع الصحية والمعيشية بالغة السوء التي تعاني منها حرائر فلسطين، ولا الإجراءات الاستفزازية والممارسات التعسفية بحقهن من كسر إرادتهن، مما أربك إدارة السجون الإسرائيلية وجعلها عاجزة أمام هذا الصمود الأسطوري للأسيرات الفلسطينيات.

معاناة متواصلة

تتعرض الأسيرات الفلسطينيات في سجون ومعتقلات الاحتلال الصهيوني إلى أسوأ وأقبح وأقذر أساليب التعذيب السادية الوحشية المخطط لها من قبل إدارة السجون الإسرائيلية وأكثرها دموية. ولا يميز السجان الصهيوني في التعذيب بين الأسرى رجلاً كان أم امرأة، لا من الناحية الجسدية ولا النفسية، فهو يتبع ذات أساليب التعذيب المهينة والشائنة مع الأسيرات والأسرى. إضافة إلى التعذيب الجسدي الذي تتعرض له الأسيرات بصفة متواصلة مثل الضرب والركل واستعمال العنف في أثناء التحقيق، وعدم السماح لهن بالنوم وحرمانهن من الرعاية الطبية وسوء نوعية الطعام المقدم لهن، فإنهن يعانين من التعذيب النفسي بمنع الزيارات عنهن وتحريم التواصل مع ذويهن عبر الرسائل للأسيرات التي يمنع السجان عنهن الزيارة. كما تقوم إدارة السجون الإسرائيلية بحرمان الأسيرات والأسرى من الاحتفال بالمناسبات الدينية أو الوطنية، ويمنعهم حتى من مجرد إظهار مشاعر الفرحة بالعيد. كما يقوم الجنود بمهاجمة السجون بشكل مفاجئ وهم مدججين بأسلحتهم ويرتدون ثياب القتال، وذلك بهدف إرهاب الأسيرات وتعنيفهن وتفتيش زنازينهن بصورة يتم خلالها إتلاف الأشياء الشخصية للأسيرات ومصادرة الكثير منها. وتقوم إدارة السجون الصهيونية بحظر تواصل الأسرى والأسيرات مع عالمهم خارج السجون، بمنع الزيارات عنهن بذريعة أسباب أمنية، أو بعزل الأسيرات داخل الزنازين الانفرادية لشهور طويلة، الأمر الذي يترك أثراً مؤلماً لدي السجينات نتيجة بتر علاقتهن مع محيطهن الداخلي والخارجي. وكانت تتيح إدارة السجون الزيارة لبعض الأسيرات مرة واحدة شهرياً في بعض الأحيان، وفي معظم الأحيان مرة واحدة كل ستة أشهر للأخريات، وغالباً ما يمنعون الزيارات منعاً باتاً. تزداد المعاناة وتكون أشد ألماً وأقسى توجعاً عند الأسيرة الأم التي تُحرم من لمس الأبناء والأهل، وإن سُمح لها بتلقي زيارة فعادة ما تكون خلف جدار زجاجي سميك لا ترى أحداً من عائلتها عبره بوضوح، تتحدث معهم عبر سماعات يقوم السجّان بالتشويش عليها ومراقبتها، فترى الأسيرة الأم الأبناء فلذات أكبادها يكبرون بعيداً عن حضنها وحنانها الذي يفتقدونه، ولا تستطيع حتى تقبيلهم.، وهذا قبل السابع من أكتوبر 2023، اما بعد هذا التاريخ فلا زيارات ولا أخبار ولا معلومات حول أوضاعهن،

الدعم والمساندة

تحتاج الأسيرات الفتيات والأمهات إلى من يساعدهن على مواجهة القلق والخشية من المستقبل، كونهن يعانين الأمرين، عذابات السجن ووجعه الجسدي والنفسي، والتصدي للضغوط المرعبة التي تحاول إدارة السجون الصهيونية فرضها على الأسيرات للنيل من إرادة المقاومة لديهن، وتعاني الأسيرات مرة أخرى بعد إطلاق السراح من صعوبة الاندماج والعودة للحياة الطبيعية والزواج وإنشاء أسرة، فهن يحتجن مننا جميعاً إلى اليد التي تساعدهن لتخطي فترة ما بعد الإفراج عنهن، وإلى من يعيد إحياء الأمل في نفوسهن، ويحمل لهن بشارة تحرير الوطن من رجس الاحتلال، وهذا أقل القليل الذي يمكن تقديمه للأسيرات الفلسطينيات بعد التحرر من قضبان السجن، فهن يحتجن الحاضنة الاجتماعية والإنسانية التي تساعدهن على استعادة كرامتهن وتشعرهن أنهن محل احترام وتقدير المجتمع الذي يكن لهن كل تعظيم وتبجيل وتوقير لتضحياتهن في سبيل عزة الوطن وكرامته. كما تحتاج الأسيرات المحررات جميع أشكال الدعم المعنوي والاجتماعي والاقتصادي لإعادة انخراطهن المجتمعي ومعالجة الآثار السيئة المتولدة عن سنوات الاعتقال.

توثيق قضايا الأسيرات

يتفنن السجانون الصهاينة في أساليب القمع والقهر والتعذيب والتنكيل بالأسيرات الفلسطينيات وتفتيشهن دون احترام لأي خصوصية للمرأة، ويقوم الجنود بمداهمة الزنازين ليلاً أثناء النوم. ويطبقون سياسة الإهمال الطبي المتعمد بحق الأسيرات اللواتي يعانين أوضاعاً صحية بالغة السوء وخطيرة، داخل معتقلات لا تراعي الحد الأدنى من متطلبات الحياة البشرية، وضمن ظروف معيشية غير إنسانية ومأساوية. فإسرائيل تقوم باعتقال الآلاف من الأسرى والأسيرات الفلسطينيون في زنازين تشبه تماماً القبور تحت الأرض، لا تدخلها الشمس، ورائحة العفونة والرطوبة في هذه السجون تصل إلى عشرات الأمتار وتزكم الأنوف، بخلاف ما تدعيه السلطات الإسرائيلية أنها تحترم القوانين الدولية والشرائع الإنسانية في السجون التي تعتقل فيها الأسرى الفلسطينيون. والطعام الذي يقدم للأسيرات ممتلئ بالحشرات، وظروف الاعتقال تصيب الأسيرات بالعديد من الأمراض الجلدية والباطنية، والرعاية الطبية منعدمة، ولا تقدم إدارة السجون سوى "الأسبرين" دواءًا لمختلف الأمراض، كما وتتسلل الحشرات والجرذان ليلاً إلى زنازين الأسيرات، مما يفاقم الوضع الصحي والبيئي للاعتقال. من الأهمية أن تقوم بعض الجهات والمنظمات والهيئات الفلسطينية والدولية بتوثيق قضايا الأسيرات ومعاناتهن وما يتعرضن له من عسف وظلم وتعذيب من قبل قوات الاحتلال الصهيوني وإدارة السجون، وتوثيق الانتهاكات الحقوقية والإنسانية التي تتعرض لها الأسيرات الفلسطينيات التي بلغت منحى خطيراً خلال الأعوام الأخيرة، وكذلك رصد وتسجيل شهادات الأسيرات المحررات حول أوضاع السجون والاعتقال، وحال الأسيرات وأوضاعهن، بهدف فضح سياسات الاحتلال البغيض وكشف ممارسات إدارة السجون البشعة بحق الأسيرات، وتقديم ملفات قضايا الأسيرات والانتهاكات إلى المحاكم الدولية.

المرأة الجبارة

كانت ولا زالت المرأة الفلسطينية تشكل نموذجاً نضالياً لكافة نساء العالم، تقدمت الصفوف في كافة المراحل وفي جميع المعارك الوطنية التي خاضها الشعب الفلسطيني لنيل حريته. لهذا استشهد وجرح منهن الآلاف، ولا زالت العشرات من حرائر فلسطين في السجون الإسرائيلية، تنزف جراحهن قهراً وألماً في المعتقلات الإسرائيلية. لقد قامت قوات الاحتلال الصهيونية باعتقال عشرات الآلاف من النساء والفتيات الفلسطينيات خلال مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة. ولا يزال مايقارب 29 أسيرة منهن يقبعن داخل الزنازين، بينهن أسيرات قاصرات تقل أعمارهن عن 18 عاماً، وبينهن معتقلات جريحات أصيبن أثناء اعتقالهن برصاص قوات الاحتلال، وفيهن أسيرات متزوجات ولديهن أطفال وكذلك أسيرات أمهات، يتعرضن جميعهن بشكل يومي للضرب والإهانة والتنكيل والسب والشتم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. إن حفلة التضييق والضرب للأسيرات تبدأ منذ لحظة وصولهن إلى مراكز التحقيق، حيث يتعرضن للضرب والشبح لساعات طويلة، يتواصل التعذيب والإرهاب بعد انتهاء فترة التحقيق وانتقالهن إلى أقبية التوقيف حيث تسعى سلطات السجون إلى ابتداع كافة الطرق لإذلال الأسيرات ومحاولة المس بكرامتهن، ويتعرضن لسياسة "دق الشبابيك" صباحاً ومساء حيث يتم تفتيش زنازينهن ذات الأرضية الاسمنتية الباردة جداً في الشتاء وسيئة التهوية، ولكن حرائر فلسطين يواجهن بطش السجان الصهيوني بكل عزيمة وإيمان، ويقاومن جبروته وعنجهيته بمزيد من التصميم على الصمود والنضال لانتزاع حريتهن وحرية وطنهن وشعبهن.

درب الأحرار

تتعرض الأسيرات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية للتعذيب والإهانة والاضطهاد، والتهجم عليهن بالشتائم والألفاظ البذيئة ويحرمن من كافة حقوقهن، ويجري تهديدهن بالاغتصاب، وتصدر المحاكم العسكرية الإسرائيلية بحقهن أحكاماً مرتفعة، ويقوم السجانون بحرمانهن من الطعام والشراب والنوم وتكتيف الأيادي للخلف على الكرسي لساعات طويلة، والتعليق من اليدين أو القدمين، ومنعهن من استخدام المراحيض والاستحمام لفترات طويلة. حتى إن تم نقل الأسيرة إلى مركز طبي لمعالجتها- وهذا نادراً ما يحصل- بعد أن يشتد المرض عليها، تقوم الطواقم الطبية الصهيونية بالاعتداء على الأسيرات بالضرب والشتائم والبصاق وتوجيه الإهانات لهن من قبل الأطباء والممرضين الإسرائيليين ومحاولة إذلالهن وتحقيرهن، مما يتعارض مع أخلاقيات المهنة، إن خلف تلك القضبان الحديدية الكريهة حكايات وقصص وآهات وآلام ودموع ووجع عميق، وخلف كل قصة تفاصيل مؤلمة وهموم واسعة، موت بطيء تتقاسمه الأسيرات الفلسطينيات في معتقلات الصهاينة النازيين الذين يساومون الأسيرات حتى على تبديل ملابسهن كعقاب قوي رادع في مقابل التوقيع على اعترافات. ويعانين يومياً عذابات فوق طاقة احتمال أقوى الرجال، هناك الأسيرات الأمهات اللواتي يتحرقن شوقاً لمعانقة الأبناء والأهل دون قضبان ولا زجاج ولا جدران. في تلك الزنازين المعتمة الضيقة والباردة تقبع الأسيرات الفلسطينيات بكل شموخ وإباء يتحدين يومياً سياسات إدارة السجون وممارسات الجنود الصهاينة التي تحاول كسر أرادة المقاومة والصمود فيهن والنيل من كرامتهن. هؤلاء الأسيرات ومعهن الأسرى الفلسطينيون هم أسرى حرية وليسوا سجناء جنائيين، ويجب أن تنطبق عليهم اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بمعاملة الأسرى والجرحى، ومنها عدم محاكمتهم أمام محاكم عسكرية. هن نجمات فلسطين، منابع العطاء لذلك يحظين باحترام وتقدير وتبجيل أبناء مجتمعهن الذين ينظرون لهن نظرة الإجلال والإكبار. هؤلاء هن حرائر فلسطين، شقائق الرجال، الأسيرات الصامدات الحالمات بمستقبل يتمكن فيه من العيش بحرية وكرامة مع عائلاتهن في وطن حر دون وجود سجون ولا احتلال.

الأسير المحرر عمار الزبن أول فلسطيني يهرب "نطفة" خارج سجون الاحتلال

عمار الزبن روائي وأسير فلسطيني، وُلد عام 1975 في مدينة نابلس لعائلة قاومت الاحتلال الإسرائيلي سنين طويلة. وانضم إلى كتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)– ونفذ عمليات عسكرية عدة. اعتقل 3 مرات، الأولى عام 1992، والثانية عام 1994، والثالثة عام 1998 بعد عودته من الأردن إلى فلسطين، ووجهت له تهمة المشاركة في عمليات استشهادية أدت إلى مقتل 27 "إسرائيليًا"، وحُكم عليه بالسجن 27 مؤبدا، إضافة إلى 25 سنة أخرى.

المولد والنشأة

وُلد عمار عبد الرحمن حماد الزبن يوم 15 يناير/كانون الثاني 1975 في مدينة نابلس، وينتمي إلى عائلة تعود أصولها إلى بلدة ميثلون في جنين، تضم 5 أبناء قاوموا الاحتلال الإسرائيلي سنين طوالًا. واستشهد أخوه الأكبر "بشار" عام 1993 بعد مواجهته قوات الاحتلال "الإسرائيلي" في مدينة جنين، وهو أسير محرر أمضى 5 أعوام في السجون قبل استشهاده. وقد اعتقل الزبن مرتين في طفولته، الأولى عام 1992، حينما كان عمره 16 عامًا، وحُكم عليه بالسجن عامين ونصف العام. أما المرة الثانية، فكانت عام 1994، بعد استشهاد أخيه بشار، وأمضى في سجون الاحتلال 6 أشهر.

الدراسة والتكوين العلمي

درس الزبن المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدارس مدينة نابلس، وحصل على شهادة الثانوية العامة وهو داخل سجون الاحتلال "الإسرائيلي". وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية داخل سجون الاحتلال، ثم الماجستير عام 2022 في التخصص نفسه من جامعة القدس، ثم التحق ببرنامج الدكتوراه.

تجربة المقاومة

عمل الزبن شرطيا في سجن نابلس، ثم انتمى إلى حركة حماس، والتحق بكتائب القسام، وأصبح عضوا هاما في خلية "شهداء من أجل الأسرى" التي جاءت ردا على جرائم الاحتلال "الإسرائيلي" عام 1997. وقد نفذت الخلية التي قادها الزبن وآخرون 5 عمليات استشهادية عام 1997، حدثت ثلاث منها في سوق "محانيه يهودا" في سبتمبر/أيلول، وأدت إلى مقتل 27 "إسرائيليًا" وإصابة 300 آخرين. ولم تُعلن كتائب القسام مسؤوليتها عن تنفيذ العمليات بادئ الأمر حتى اكتشفت أجهزة الأمن "الإسرائيلية" أمر الخلية وأعضائها.

وقد توجه بعد ذلك الزبن إلى العاصمة الأردنية في مهمة عسكرية خاصة عام 1998.

اعتقاله

بعد عودته إلى فلسطين، اعتقل الزبن في يناير/كانون الثاني 1998 في معبر الكرامة إثر اكتشاف الاحتلال أمر الخلية. ومكث في سجون الاحتلال شهورًا عدة، وتعرض للتعذيب الشديد مما أدى لخسارته 20 كيلوغرامًا من وزنه. وحُكم عليه بالسجن 27 مؤبدا، إضافة إلى 25 سنة أخرى بتهمة المشاركة في العمليات الاستشهادية التي أدت لمقتل 27 "إسرائيليًا". وتعد محكومية الزبن من أعلى الأحكام بالمؤبد التي أصدرها الاحتلال "الإسرائيلي"، والتي يتصدرها الأسير عبد الله البرغوثي بـ67 مؤبدا، وقد رفض الاحتلال إطلاق سراحه في كل صفقات التبادل والاتفاقات السياسية التي تلت اعتقاله. وقد توفيت والدته جراء جلطة دماغية أثناء مشاركتها في إضراب عن الطعام تضامنا مع أسرى مضربين في أغسطس/آب 2005، قبل أن يلحق بها والده في العام نفسه. وقد مُنعت زوجة الزبن "دلال" وابنتاه "بشائر النصر" و"بيسان" من زيارته في السجن منذ الحكم عليه حتى صيف عام 2005. الطفل مهند الزبن وامه دلال بعد أن نجح والده الأسير عمار الزبن في إخراج نطفة له وإنجابه، وخاض الزوجان تجربة للإنجاب تُعد هي الأولى من نوعها بعد أعوام من الانقطاع بسبب إقامته الطويلة في سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، إذ هرب الزبن نطفة إلى زوجته دلال مرتين غير أن عملية التلقيح لم تنجح. وتكللت العملية بالنجاح عام 2012، إذ أنجبا ابنهما "مهند" وسماه على اسم صديقه "مهند الطاهر" الذي اغتيل عام 2002. وأُطلق على الطفل لقب "سفير الحرية". ولاحقًا، خاضت عائلات أسرى فلسطينيين التجربة نفسها، ونجح العديد منها، إذ قدر عدد الأطفال المولودين بذات الطريقة أكثر من 100 طفل. وأعاد الزوجان العملية مرة أخرى عام 2014، وتكللت بالنجاح، إذ رزقا بمولود أسمياه "صلاح الدين".

الإفراج

وأفرج عن الزبن في 27 فبراير/شباط 2025 ضمن الدفعة السابعة من صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس و"إسرائيل"، ضمن الدفعة السابعة من صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس و"إسرائيل"، وذلك في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الطرفان يوم 15 يناير/كانون الثاني 2025. (المصدر: الجزيرة)

مؤلفاته

ألف الأسير الزبن العديد من الروايات أثناء فترة اعتقاله في سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، جسد فيها تجربته في المقاومة ضمن صفوف كتائب عز الدين القسام، ومن أبرز مؤلفاته:

"عندما يزهر البرتقال" صدرت عام 2011.

"من خلف الخطوط" صدرت عام 2015، وتروي قصة أسر الجندي "الإسرائيلي" "نحشون فاكسمان" عام 1944.

"ثورة عيبال".

"أنجليكا" التي يروي فيها قصة فتاة يهودية ساعدت أحد أبطال المقاومة الفلسطينية أثناء انتفاضة الأقصى عام 2000.

"الزمرة" صدرت عام 2017.

"الطريق إلى شارع يافا" صدرت عام 2020.

بين الجدران والحرية.. كيف تدمّر السجون الصحة النفسية للأسرى المحررين؟

في ليلةٍ حالكة الظلام، خرج الأسير المقدسي أحمد مناصرة من السجن، ولكن لم يكن الظلام الذي جثم على عينيه هو الوحيد الذي خلفه وراءه. لم يكن قيد الحديد هو الذي أثقل قلبه، بل كان الجرح النفسي الذي لا يُرى. في العاشر من أبريل/نيسان، أُطلق سراحه، لكنه عاد إلى بيته محملاً بأثقالٍ ثقيلة أكثر من أي وقت مضى، أرقه كالعصفور المذبوح في قلبه. الفصام الذي يعاني منه ليس مجرد مرض، بل هو ناتج عن سنوات من السجون، سنوات من العذاب الذي يعجز حتى الأطباء عن تفسيره، ما تركه في دائرةٍ لا تنتهي من الانفصال عن الواقع.

لكن أحمد ليس الوحيد، فالكثير من الأسرى الذين أُطلق سراحهم عانوا من مصير مشابه، وأحيانًا أكثر مرارة. إنه صراعٌ مرير بين الجسد الذي تحرر والعقل الذي ما زال رهينًا لزنازين الاحتلال، حيث لا تُرى الجروح على الجلود، لكنها تظل تنزف في داخلهم.

الأطباء الذين تعاملوا مع المحررين لا يفصلون بين الأعراض النفسية التي يعانون منها، بل يرون كيف يخرجون من السجون كأشباحٍ متسربة من ماضيهم. هؤلاء المحررون يتوزعون بين أربعة مستويات نفسية، وكل مستوى يمثل دربًا من الألم والمعاناة. في المستوى الأول، هناك أولئك الذين يحملون معهم الهذيان، والهلوسة التي تقطعهم عن واقعهم. منهم من يشعر وكأنهم في حلمٍ مستمر، لا يستطيعون الخروج منه. هؤلاء، مثل أحمد مناصرة، يواجهون صراعًا داخليًا لا يُحتمل. خرجوا من السجون جسديًا، لكنهم ماتوا داخليًا.

أما في المستوى الثاني، فهناك الذين يعانون من الاكتئاب. اللامبالاة تسيطر عليهم، وفقدان الدافعية يُدمر كل رغبة في الحياة. في أعماقهم، يعلمون أن الحياة لا تعني لهم شيئًا بعد كل تلك السنوات من العذاب. لكنهم لا يذهبون للعلاج، يظنون أن ذلك يعني الضعف، رغم أن ما يحتاجونه هو أن يعترفوا بأنهم محطمون، وأنهم بحاجة للشفاء.

وفي المستوى الثالث، نجد أولئك الذين يرفضون الاعتراف بالألم. يتنكرون لواقعهم وكأنهم لا يتأثرون، لكن القهر النفسي يخرج على هيئة توتر مستمر وعزلة تامة. هم يظنون أن الشكوى تُظهِرهم ضعفاء، لكن الحقيقة أن رفضهم للعلاج هو أكبر ضعف.

وفي المستوى الرابع، يخرج البعض حاملين في أرواحهم إيمانًا لا ينكسر، مقاومة قاهرة تُبقيهم واقفين على أقدامهم. هؤلاء المحررون الذين وجدوا في إيمانهم سندًا يجعلهم يخرجون سالمين من السجون.

لكن، بغض النظر عن المستوى، فإن تأثير السجون على الدماغ لا يمكن تجاهله. فخلايا الدماغ تتغير، والتفاعلات الكيميائية تنقلب رأسًا على عقب، ما يترك آثارًا فظيعة على الجهاز العصبي. يبدأ الأسير المحرر في معركة داخلية مستمرة ضد اضطرابات النوم، القلق، ونوبات الذعر التي تلاحقه في كل لحظة. ليس من السهل عليه أن يواجه العالم مرة أخرى، لأن السجون قد جعلته يشعر أن الجميع يطارده.

أما في عالم الأسرى المحررين، فيحتاج كل واحد منهم إلى شيء واحد أساسي: التفريغ العاطفي. لا يمكن أن يُترك جرحٌ في القلب بلا علاج. وفي تلك اللحظات التي يقف فيها المحرر في الظلام، يحاول أن يواجه ذاته، يجب أن نكون حاضرين، لأننا إذا تأخرنا في تقديم الدعم، سنشاهد تدهورهم في صمت.

أمام هذه المعاناة، تظل الحاجة إلى العلاج النفسي أولوية، لأنه ليس فقط العلاج الذي يعيد المحرر إلى الحياة، بل هو الطريقة الوحيدة لإعادة بناء ما دمرته السجون. الجرح النفسي قد لا يُرى، لكنه يبقى أسيرًا في أعماقهم، وفي صمتهم، ينتظر من ينجح في فهمه ومساعدته على الشفاء.

بقلم: بن معمر الحاد عيسى

الإعلام الجزائري.. درع الأسرى الفلسطينيين في زمن التعتيم

في زنازين الاحتلال الإسرائيلي، حيث يُحاصَر الضوء ويُسرَق الزمن، تتحوَّل الكلمات التي تنشرها الصحف الجزائرية إلى شمعةٍ تُضيء عتمة اليأس. ليس هذا انطباعًا عابرًا، بل هو واقعٌ يعيشه الأسرى الفلسطينيون وأهاليهم، الذين يرون في الإعلام الجزائري حليفًا استثنائيًّا، لم يكتفِ بنقل المعاناة، بل حوَّلها إلى قضية عالمية تُهزُّ ضمير الإنسانية. منذ عام 2011، حوَّلت الصحف الجزائرية قضية الأسرى إلى جزءٍ يومي من خطابها الإعلامي عبر ملاحق متخصصة، التي تنقل تفاصيل الاعتقال التعسفي والتعذيب الممنهج، معتمدَةً على تحقيقات استقصائية تُرجمت إلى لغات أجنبية لفضح الانتهاكات أمام العالم. لم تكن هذه الملاحق مجرد صفحات ورقية، بل تحولت إلى أرشيف حي يُوثِّق حكايات مثل الأسير ناصر أبو حميد الذي قضى عقودًا في السجن، أو الأسيرة إسراء الجعبري التي حوَّل الاحتلال حياتها إلى جحيم. أضافت صحف مثل "الأيام نيوز" بُعدًا نوعيًّا عبر ملحق "صوت الأسير" الورقي، الذي يصدر كل يوم اثنين وأربعاء، ويُعدّ منبرًا أسبوعيًّا يواكب تطورات قضية الأسرى. هذا الملحق لا يكتفي بسرد الأخبار، بل يُدرج تقارير وتحقيقات تُوثّق شهادات حية من داخل الزنازين، ليصل صوت الأسرى إلى القارئ العربي بصيغته الأكثر صدقًا. ورغم غياب المنصة الرقمية والفيديوهات المسرَّبة، فإن قوة المادة المطبوعة مكّنت الصحيفة من اختراق الحصار الإعلامي، حيث تُوزّع أعدادها في عدة بلدان، وتُشكّل مصدرًا معتمدًا لدى عائلات الأسرى ومؤسسات الدفاع عنهم.

الأسرى أنفسهم يشهدون أن الإعلام الجزائري كان خيط النور الوحيد في زنازينهم. محمد النجار، الأسير المحرر، يروي كيف كان السجانون يضربونهم إذا ضبطوهم يهمسون بأخبار "ملحق صوت الأسير"، وكيف كانوا يدفنون قصاصات الجرائد تحت البلاط كي لا تُكتشف: "كنا نقرأ عن حملات التضامن الجزائرية كأنها قرآنٌ جديد.. كلماتهم كانت تُعيد لنا الأرواح التي سرقها التعذيب". أما الكاتب والأسير ثامر سباعنة، فيؤكد أن التغطية الإعلامية الجزائرية كسرت حاجز العزلة: "عندما نسمع أن صحيفة جزائرية تنشر تفاصيل إضرابنا عن الطعام، نشعر أن العالم لم يخننا بعد". من خارج السجون، يعبِّر المثقفون الفلسطينيون عن تقديرهم العميق. رياض الأشقر، الباحث في مركز أسرى فلسطين للدراسات، يصف الإعلام الجزائري بأنه "سلاحٌ لا يقل عن الرصاص"، مشيرًا إلى أن تغطية قضية الأسرى حوَّلتها من قضية محلية إلى شأن دولي. هشام ساق الله، الكاتب الفلسطيني، يرى أن الجزائر فتحت أبوابًا كانت موصدة: "لأول مرة في التاريخ العربي، تُخصَّص ملاحق أسبوعية لقضية الأسرى.. كأن الجزائر ترفع الراية وتصرخ: هلموا خلفنا!".

لم يكن هذا الدعم ليكتمل دون جهود الأخ خالد عز الدين، المناضل الفلسطيني المكلف بملف الأسرى في السفارة الفلسطينية بالجزائر، الذي وُصف بـ"الجندي المجهول" في توفير الوثائق والمواد الإعلامية للصحف الجزائرية. يقول السفير الفلسطيني فايز أبو عيطة: "الإعلام الجزائري ينقل معاناتنا بصدق، وهو صوتنا الذي يصل إلى العالم رغم التعتيم الغربي". هذه الشراكة أثمرت عن إصدار ملايين النسخ من الملاحق المطبوعة، والتي تُوزَّع في دول عربية وأوروبية، مما ساهم في تحريك الرأي العام الدولي. الفلسطينيون لا ينفصلون عن السياق التاريخي للعلاقة مع الجزائر، التي عانت بدورها من الاستعمار الفرنسي. الدكتور أحمد جميل عزم، أستاذ الدراسات الدولية، يوضح: "تعلمنا من الثورة الجزائرية أشكال المقاومة الشعبية.. الجزائر لم تدعمنا ماليًّا فحسب، بل زرعت فينا روح الثورة". هذا الإرث جعل الجزائريين يرون في كل أسير فلسطيني صورةً لجَدِّهم الذي قاوم الفرنسيين. كما يقول المحلل السياسي ساري عرابي: "الشعار الجزائري 'نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة' ليس مجرد كلمات، بل هو عهد دم".

لم تكن جهود الإعلام الجزائري صرخة في الفراغ. فبعد سنوات من الحملات، بدأت صحف عربية مثل "البوابة" المصرية تحذو حذوها، بينما تزايدت تقارير المنظمات الدولية التي تدين انتهاكات السجون الإسرائيلية. حتى أن الأسير المحرر حسام زهدي شاهين كتب من زنزانته: "إنتاجنا الأدبي ينتصر على السجان حين يصل إلى أيدي القراء.. شكرًا للجزائر التي جعلت حروفنا تحلق خارج القضبان". اليوم، بينما تُنشر صور الأسرى في الجزائر كأنهم أبناء البلد، وتُرفع لافتات التضامن في شوارعها، يدرك الفلسطينيون أن الإعلام الجزائري لم يكتفِ بنقل الأخبار، بل أعاد تعريف "المقاومة" في عصر التضليل. كما كتبت "جريدة الشعب" في افتتاحيتها: "الأسرى أحياءٌ في ضميرنا.. ولن ننطفئ حتى يعودوا". هذه القصة ليست مجرد سردٍ لإنجازات إعلامية، بل هي شهادة على أن الكلمة قد تُحرِّر أرواحًا، وأن الشعوب حين تتحد بذاكرة الدم، تصنع المستحيل.

وفي ختام هذه الجهود الإعلامية، تظل الجزائر ثابتة في مواقفها الثابتة التي لم تتزعزع تجاه قضية فلسطين، على الرغم من التحديات المتزايدة التي يواجهها الإعلام العربي في هذا العصر المعاصر. لقد أثبتت الجزائر من خلال إعلامها الثابت والمستقل أنها ليست مجرد شاهد على الأحداث، بل هي لاعب رئيسي في الساحة الإعلامية العربية والعالمية، حيث كان لها دور ريادي في رفع الصوت عالياً من أجل الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين وكشف حقيقة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي. في وقت تَنكسر فيه كل محاولات التعتيم على واقع الأسرى، يظل الإعلام الجزائري بوصلتهم الحقيقية، التي تضيء الطريق للحرية والعدالة. الإعلام في الجزائر لم يكن مجرد صوت ينقل الأخبار، بل كان قلبًا ينبض بالحياة والأمل لفلسطين، وعينًا تراقب كل محاولة لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام.

هذا الالتزام الثابت تجاه فلسطين وقضية الأسرى يعكس رؤية الجزائر الواضحة في دعم الحق الفلسطيني، وهي رؤية لا تتأثر بالمتغيرات الدولية ولا بموازين القوى الإقليمية. لقد استطاعت الجزائر أن تحافظ على هذا الخط التحرري عبر وسائل إعلامها المتعددة التي جعلت قضية الأسرى في صدارة اهتماماتها، وسعت لإبراز معاناتهم والتعريف بأسمائهم وقصصهم الإنسانية، رغم محاولات التعتيم والضغط.

وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها الإعلام العربي في زمن التضليل، تواصل الجزائر بقيادة إعلامها النضال بكل الوسائل المتاحة، مؤكدةً أن لا شيء يستطيع أن يطفئ شعلة الحقيقة أو يحجبها. لقد فرض الإعلام الجزائري نفسه كمنارة تضيء الطريق للمقاومة والتصدي لكافة محاولات التزوير والتعتيم التي تسعى دول الاحتلال إلى نشرها. فالإعلام الجزائري لا يكتفي بالحديث عن الواقع، بل يواصل تسليط الضوء على التفوق الأخلاقي لقضية فلسطين، ويؤكد يومًا بعد يوم أن ما يحدث في السجون الإسرائيلية ليس مجرد اعتقال سياسي، بل هو جريمة حرب يجب أن يعاقب عليها المجتمع الدولي.

إن قضية الأسرى الفلسطينيين ستظل في صدارة اهتمامات الصحف الجزائرية، التي تواصل رفع راية المقاومة، وتضع قضية الأسرى في محور كل نشاطاتها الإعلامية، ضاربةً مثلًا في الصحافة الحرة والمستقلة. عبر هذه الجهود المستمرة، تُعطي الجزائر دروسًا للعالم في التضامن مع قضايا الشعوب المظلومة، وهي تبين أن الإعلام يمكن أن يكون أداة فعالة للحرية والتحرر، لا سيما عندما يكون مرتبطًا بالقيم الإنسانية العليا.

 بقلم د. جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل

 من يجرؤ على مقارنة صيدنايا بجحيم الزنازين الصهيونية؟

بعد سقوط النظام السوري شاهدنا شيئًا غريبًا عجيبًا!؛ وهو تركيز بعض وسائل الإعلام العربية، والغربية بشكل كبير جدًا على وحشية السجون القمعية للنظام السوري السابق، مثل سجن صيدنايا سيئ السُّمعة، الذي كان يستخدمه النظام السوري. ولكن اللافت للاِنتباه من كل قارئٍ مُستنير، ومُستمع، ومشاهد بصير، صاحب فكر وعقل مُنير، وللناقد الفاحص لما بين السطور، مما يدور في الصدور، والباحث عن حقيقة الأهداف المَخفيّة، وما هي الدوافع من تركيز بعض مواقع التواصل، ووسائل الإعلام العربي بصورة كبيرة على إجرام النظام السوري، وبشاعة التعذيب، والقمع في السجون السورية فقط!؛ إن تسليط الضوء الإعلامي على كل ما سبق هو مثل كلمة حقٍّ يُرادُ بها باطل!؛ وكأن بعض وسائل الإعلام العربية، والإسلامية، والغربية من الصحافة الصفراء، تريد إعطاء صك براءة لجرائم الكيان الصهيوني، ولبشاعة حرب الإبادة الجماعية في غزة، وللتغطية على قسوة سجون المحتلين الصهاينة، وكأنها تقول للعالم بأن المجرم الفاجر بشار أكثر جرمًا من مجرم الحرب النازي القاتل زعيم عصابة الكيان الصهيوني نتنياهو وعصابته؛ وذلك من خلال التركيز إعلاميًا بشكل كبير على سجون المجرم السوري، وإهمال ما يجري من مجازر، ومذابح صهيونية رهيبة يوميًا تحدث في غزة، وفي كل مدينة في فلسطين المحتلة.

ونحن لا نقلل من بشاعة سجون النظام البائد وقُبحها، وظلمها، وإجرامها؛ ولكن بالمقابل لماذا يتم التغافل، والتجاهل للجرائم الوحشية التي تقوم بها عصابات الجيش الصهيوني النازي في فلسطين المحتلة، وخاصة في السجون الصهيونية الإرهابية الوحشية؟! ولماذا لا يتم التركيز من الإعلام العربي على الممارسات القمعية الإجرامية الوحشية المتواصلة من السجّان الصهيوني؟!؛ مع العلم أنه يوجد في المعتقلات الصهيونية الوحشية مئات من معتقلي الحرية الفلسطينيين، ومنهم من قد أمضى زهاء 45 عامًا في سجون عصابة الكيان الصهيوني؛ والذي قام بإنشاء ما يُعرف "بمقابر الأرقام"، والتي يُحتجز فيها جثامين الشهداء الفلسطينيين!

وفي كل يوم يتعرض الأسرى، والأسيرات في سجون العدو الصهيوني للقتل، والاغتصاب، والتعذيب بعيدًا عن وسائل الإعلام، كما يتم دفن بعضهم في مقابر أرقام سرية، ويقوم العدو الصهيوني المجرم كذلك بِسرقة بعض الأعضاء من جثامين الشهداء؛ ويجري العجب العُجاب من أصناف العذاب للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني المجرم؛ وسجون الصهاينة المحتلين الوحوش تُعتبر أكثر بشاعة من غيرها من السجون، بل إن السجون الصهيونية أسوأ من كل السجون في العالم، من أمثال سجن أبو غريب سابقًا التابع لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق، وسجن غوانتانامو سيئ السمعة، والذي بدأت السلطات الأمريكية باستعماله في سنة 2002م؛ ولذلك فإن سجون العدو الصهيوني تُعتبر أسوأ السجون العالمية، وأكثرها عنفًا ودموية في العالم، وأكثر قمعًا، وقهرًا، وعذابًا؛ حتى أسوأ من سجن هويريونج الواقع في كوريا الشمالية، وسجون العدو الصهيوني أكثر وحشية كذلك من سجن تدمر، ومن سجن صيدنايا العسكري في سوريا، ومن سجن لاسابانيتا في فنزويلا، ومن سجن كارانديرو في البرازيل!؛

كذلك يُعد سجن "كامب" الصهيوني الواقع في شمال فلسطين المحتلة من أسوأ السجون في العالم، حيث إنه لا توجد أية معلومات واضحة أو بيانات خاصة بالسجن نفسه، أو الإدارة القائمة عليه، أو حتى السجناء فيه!؛ وكان يُعتبر سجنًا سريًا، وهو أسوأ من سجن فلاديمير المركزي في روسيا، ومن سجن ستانلي في هونغ كونغ، وأسوأ من سجن فولسوم في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن سجن ميندوزا في الأرجنتين، ومن سجن سان بيدرو في بوليفيا!

كما وتُعد السجون الصهيونية رمزًا حقيقيًا للعذاب، والجحيم؛ حيث يتعرض المعتقلون لأنواع غير محدودة من التنكيل، والتعذيب، الذي لا يمكن تصوره، وذلك منذ اللحظة التي يدخل فيها المعتقل الفلسطيني إلى السجن الصهيوني القمعي، فيبدأ الكابوس، وتُسلب من الأسير الفلسطيني حريته، ويُلقى به في زنزانة سوداء مظلمة، ضيقة، لا ترى فيها الشمس، بعد أن يصل السجن نصف حي نتيجة التعذيب منذ أول لحظة للاعتقال. وتوجد عند العدو الصهيوني سجون تحت الأرض؛ حيث تُنتهك حقوق الأسير الإنسانية بشكل متعمد من السجّان الصهيوني المجرم؛ ويتعرض المعتقلون لتعذيب جسدي ونفسي هائل، يصل لحد القتل؛

ولقد كنت معتقلاً في سجون الاحتلال الصهيوني الوحشي؛ حيثُ كان كثير منا يُجبرون على الوقوف لساعات طويلة، معصوبي العينين، وفي رؤوسنا كيس رائحتهُ مُنتنة، وفي أوضاع غير مريحة لفترات طويلة، وكنا نتعرض للتعذيب الوحشي، ومن ذلك التنكيل "المس الكهربائي"، وأساليب عذاب كثيرة، وتنكيل بشعة، مختلفة، ومتعددة!؛

ولذلك فعلينا فلسطينيًا، وعربيًا، العمل لتحرير الأسرى الأماجد من سجون العدو المجرم؛ وعلينا جميعًا العمل على مساندة الأسرى الأبطال في سجون العدو المجرم، من خلال الدعوة إلى أوسع مشاركة وحركة تضامن مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الفاشي النازي؛ وللعلم فإن أوضاع الأسرى في السجون "الإسرائيلية" بعد السابع من أكتوبر صارت صعبة للغاية، ويتعرضون للقتل، وللتعذيب الوحشي!؛ فأين دور الإعلام العربي من توضيح معاناة الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية القمعية الوحشية؟!؛ والذين يتعرضون في سجون العدو الصهيوني للقتل، والتنكيل، والإعدام بدم بارد، وبعيدًا عن وسائل الإعلام!؛

ولذلك علينا العمل بكل جهد على فضح ممارسات الكيان الصهيوني النازي المجرم، وفضح الجرائم التي يرتكبها ليلاً ونهارًا بحق أبناء الشعب الفلسطيني البطل الصامد، وخاصة الأسرى الأماجد؛ كما يجب على جميع العرب، والمسلمين، وكل الأحرار في العالم، نُصرة القضية الفلسطينية، والعمل على تحرير الأسرى الميامين من سجون القتلة المحتلين المجرمين؛ ولذلك نحن بحاجة لتفعيل الخطاب الإعلامي نصرةً للأسرى، ومخاطبة كل الجهات، والمؤسسات الدولية، والحقوقية، والعالم، والمؤسسات الحقوقية للضغط على سلطات الاحتلال من أجل الاستجابة لمطالب الأسرى العادلة في الحرية، والكرامة؛

ويجب أن لا نكل، ولا نَمِلَّ من الاستمرار في تعرية المحتل الفاشي، وكشف جرائمه، وممارساته، وجرائمه الوحشية بحق أسرانا الأبطال؛ ونقول لهم إن فجر الحرية قادم لا محالة، وإن الاحتلال المجرم إلى زوال قريب، إن شاء الله، وأن النصر مع الصبر، وأن النصر صبرُ ساعة، وأن نهاية المحتلين الظالمين الكفرة الفجرة المجرمين قد أزفت، وما هذا العلو الكبير لهم إلا نذير لقرب نهايتهم، وزوالهم.

وفي الختام، نُجدد العهد مع أسرانا البواسل بأنهم في قلب معركة الكرامة، وأن قضيتهم ستظل حيّة في وجدان كل فلسطيني حر، وكل عربي ومسلم وأحرار العالم. فليكن صوتنا عاليًا، وقلوبنا موحدة، وأقلامنا مُسخّرة لكشف جرائم الاحتلال، حتى تشرق شمس الحرية على كل أسير، وتنتصر فلسطين برجالها ونسائها خلف القضبان الذين سطّروا بصمودهم ملاحم العزة والإباء.

بقلم: عيسى قراقع

"سديه تيمان".. غوانتنامو الصهيوني الجديد

أنت في السجن السري الدموي الذي يُسمّى "سديه تيمان"، الواقع بين بئر السبع والنقب، أنت لا تعرف أين أنت، معسكر للجيش الصهيوني أُقيم فيه سجن لأسرى وأسيرات قطاع غزة، أقفاص مغلقة ومنتشرة في العراء، جرافات وسلاح وأسلاك مسيّجة، أنت في مكان خارج الكرة الأرضية، لا قانون ولا عدالة ولا زيارات ولا رحمة، مختفٍ من الواقع تمامًا، تتعرّض للتعذيب والدّعس والإهانات والضرب ببساطير الجنود وهراواتهم والنهش من كلابهم المسعورة، أنت "مقاتل غير شرعي" وفق هذا القانون الصهيوني المختلق والذي لا مثيل له في منظومة العدالة الدولية، لا تمثيل قضائي لك، لا تهمة ولا محاكمة، ولا مدة محددة لاعتقالك، أنت الحيّ الميت، الحاضر الغائب، المجرّد من كل شيء، حتى من اسمك، إن متَّ سيلقون بجثتك في أي مكان في غزة، وإن بقيت حيًّا لن تعود إنسانًا كما كنت، ستخرج معاقًا أو مصابًا بالصرع، ومنذ السابع من أكتوبر 2023، أنت معتقل في هذا السجن المجهول، سجن البشاعة والقبح، غوانتنامو الصهيوني الجديد في المنطقة.

آلاف المعتقلين الغزيين، رجالًا ونساءً وأطفالًا وشبابًا، اعتُقلوا في هذا السجن السري، وهناك ضاعوا واختفوا، ولم تستطع أي مؤسسة حقوقية الحصول على أعدادهم وأسمائهم أو التمكن من زيارتهم ومعرفة ما يجري هناك، شهادات قليلة من بعض الأسرى الذين أُفرج عنهم، أو من تقارير عبرية، كشفت عن حجم الدمار الإنساني الذي يتعرض له المعتقلون، قتلًا وتعذيبًا وجنونًا لا يتصوره العقل البشري.

أنت في غوانتنامو الصهيوني الجديد، أنت في جهنم الصهيونية، كل أشكال النذالة والانحطاط الأخلاقي والبربري هناك، أنت جثة، لا حياة لك في هذا المكان، كل شيء يموت ويذوي، يمتصونك من الوريد إلى الوريد، ينبشون جسدك قطعة قطعة، أنت غير موجود، محاصر بين جنود ومحققين مذعورين، غرائزهم العدوانية مستيقظة ومستمتعة بتعذيبك، الجلادون يحملون نشوات الانتقام والسياط والوحشية إلى جسدك، يشنّون الغارات على جسمك، يشحذون أسلحتهم لينتصروا عليك، كي ينتصروا على غزة أو جنين أو القدس، وعلى الجسد أن يتحطّم كي تتحطم الإرادة، وعلى جسدك أن يتهدّم كي تتهدّم الذاكرة.

شاحنات عسكرية تقتاد المئات من الأسرى من قطاع غزة، عراة، مكبّلين ومهانيـن ومضروبين ومعصوبي الأعين، يُرسلون إلى غوانتنامو الجديد، وفي هذا المعسكر يظل المعتقلون مقيّدين بأصفاد الحديد على مدار الساعة، تُسلّط عليهم الإنارة من أجل إرهاقهم ومنعهم من النوم، ينامون على الأرض، لا حمّامات ولا مياه ولا وسائل نظافة، التجويع والطعام الرديء، لا ملابس ولا أغطية ولا علاج، وهناك تحتدم حرب التعذيب والضرب والتكسير والإهانات، حرب على الكرامة والإنسانية، حرب انتقامية سادية همجية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر، هناك ارتُكبت الجرائم والمذابح والإعدامات، من لم يمت في هذا السجن، سيموت تحت قصف الصواريخ والقنابل، الموت في غزة يحاصر الجميع من الشمال إلى الجنوب، ومن جنين حتى رفح، روح ذئبية شيطانية ترتكب كل أنواع القتل والتعذيب والتشريد والإبادة.

أنت في غوانتنامو الصهيوني الجديد، تتغذّى بمصّاصة وتتغوّط في حفاظة، وتحبو على أربع، وعليك أن تنبح وتعوي وتزحف، وعليك أن تشتم نفسك والقادة والرموز الوطنية، وعليك أن تردّد وبأعلى الصوت: شعب "إسرائيل" حيّ، أن تجثو وتنحني وتقبّل العلم الإسرائيلي، وهناك ينهالون عليك ضربًا وتجريحًا وتقطيعًا، الأصفاد البلاستيكية نحرت يديك فتم بترها، وهناك اغتصبوك وشوّهوا جسدك، وهناك مُورس التعذيب الجنسي والاعتداءات الفاحشة بحق الأسيرات، العنف الصهيوني، الإرهاب والتطرّف والفاشية والنازية الجديدة، كلها تنهال فوق جسدك، يمزّقون روحك وجسدك، تستهويهم لذّة التدمير، شاذّون متهيّجون منحطّون، وأنت بحاجة إلى صرخة، وأنت بحاجة أن تسأل: أين الضمير الإنساني؟ وإن إخفاء الكاميرا من مسرح الجريمة لا ينفي أن الجريمة لا تُرتكب، يا ليت أحدًا يأتي ليكتب عن أحلام "إسرائيل" الكبرى المتغوّلة في جسد ومعسكر وبركة دم.

السجّان الصهيوني المتطرّف ابن غفير، حارس بوابات السجون، يقول: لن أُحاسب السجّانين الذين قتلوا الأسير ثائر أبو عصب، ووفقًا لتعليماتي يتلقّى الأسرى الفلسطينيون أشدّ الشروط صرامة، ثمانية أسرى مكبّلي الأيدي في زنزانة مظلمة وأَسرّة حديدية، ومراحيض في حفرة في الأرض، نشيد "هتكفا" يُعزف باستمرار في الخلفية، آمل أن يتم الردّ على طلبي لإجراء مناقشة في مجلس الوزراء الإسرائيلي لإقرار قانون إعدام الأسرى، الشيء الوحيد الذي يجب إدخاله إلى غزة: مئات الأطنان من متفجّرات سلاح الجو، لا غرام واحد من المساعدات.

السجان الصهيوني ابن غفير، حارس غوانتنامو، مستاء من العدد الكبير الذي تم اعتقاله من السكان المدنيين من داخل مستشفى الشفاء في قطاع غزة، فيسأل رئيس الأركان: لماذا لم يتم قتل بعضهم؟ وبعد حين جرى قتل الطبيب عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، والذي اعتُقل وتعرض لتعذيب مميت، وشاهدنا الشاحنات العسكرية تحمل عشرات الشهداء من معتقل غوانتنامو الجديد وتُلقي بجثثهم في قطاع غزة.

في غوانتنامو الصهيوني الجديد، يشن حلف الأطلسي حربًا على أجساد المعتقلين، لا يكفي تدمير غزة وارتكاب الفظائع والمجازر المهولة، يجب قتل الأفكار والمشاعر من الأجساد، لهذا كل أركان دولة الاحتلال وحلفائها يعملون في هذا المعسكر، يتجادلون حول أنجع الوسائل التي تجعل غزة تختفي من العقول، كيف تموت الهوية والمقاومة والأحلام المشروعة للشعوب المضطهدة؟ أن يموت الماضي والحاضر والمستقبل، قتل القوة الروحية في معركة الفلسطيني في الدفاع عن إنسانيته، قتل الجمال والقصيدة، اغتيال الرواية التي فازت بجائزة البوكر للرواية العربية للأسير باسم خندقجي، تحصين الأسوار أكثر، طحن الوعي الفلسطيني، محو التاريخ من الحدود والوجود.

هستيريا الاعتقالات ما زالت مستمرة، الهوس والخوف الصهيوني دفعهم إلى اعتقال الآلاف من كل فئات الشعب الفلسطيني، وتراهم يعربدون في السجون، التعذيب والإذلال والعزل وتجريد الأسرى من كل مقومات الحياة الإنسانية، القمع الوحشي وقتل الأسرى، كأنهم يدركون أن هذا الاحتلال لن يبقى إلى الأبد، سيغادرون هذه الأرض وخلفهم أكوام من الرماد البشري، ولهذا ينبشون في المقابر والعظام، يبحثون عن أسطورة أخرى مخادعة بعد أن سقطوا من النظام العالمي والأخلاقي والإنساني، وتهاوت الأكاذيب والأقنعة، تشريعات ومحاكم وصواريخ وفيديوهات وصور واقتحامات ومداهمات وفتاوى دينية وخطابات تحريضية وعنصرية، وما زالوا في المعسكر، سجّانين متنمرين، لم تُنتج عبقريتهم سوى الشر المطلق والغيتو، هوية يهودية متماهية مع الهوية النازية.

أنت في غوانتنامو الصهيوني الجديد، يجرونك على الأرض، يضربونك على رأسك، يرقصون على إيقاع جسدك المعذّب، يظنون أنهم يتماسكون داخليًا ويتغلبون على فزعهم بانهيار جسدك، يزداد الرفس والتنكيل ويتصاعد، لا طمأنينة ولا أمان ما دمت تتنفس، كل العالم يتجنّد ويحتشد الآن ضد الجرائم الإسرائيلية، فيصبّون وحشيتهم فوق جسدك، هم بحاجة إلى كسر فولاذ الروح الفلسطينية ليتغلبوا على هشاشة تكوينهم وعجزهم عن شطب الحقيقة الفلسطينية.

أنت في سجن غوانتنامو الصهيوني الجديد، يتبولون في فمك إذا طلبت ماء، يستخدمونك درعًا بشرية أو لعبة للتعذيب والتسلية، يُجردونك من ملابسك، يغتصبونك بعصا أو قنينة، بصاق وشتائم قذرة، يقفزون فوق ظهرك وينتشون، إن خرجت من هذا السجن تخرج هرمًا، ملامحك تغيّرت، عيونك غائرة وعظامك بارزة، كدمات وجروح تملأ جسدك، نزيف نفسي لا يتوقف، في غوانتنامو الصهيوني تتجلّى فلسفة العصور البدائية، افتراس البشر وتقويض أرواحهم وأجسادهم والعبث بها، تقويض كل النظريات الحديثة عن تطوّر ورقي البشرية والعلوم والحضارات والديمقراطيات واحترام كرامة الإنسان، غابات مظلمة ووجوه ليست بشرية، وأحسب أن فنون الغرب المتوحش وأنظمته وإبداعاته وقذارته وضعت كل خبرتها في هذا السجن، بلباس صهيوني وخوذة أمريكية.

سيدي الصدى: أرجوك حدّثني عن الخلاص من السجن قبل أن تحدثني عن السلام الموعود، الوطن كله يختفي قسرًا في هذا السجن، أعمار مهدورة وبلد تتحطم أضلعه في كينونة الإنسان، حدّثني عن الحرية أولًا ولا تحدثني عن القانون الدولي والشرعية الدولية، جميعها صناعة الأنظمة الإمبريالية، من صاغ القانون الدولي هم أنفسهم الذين بنوا هذا السجن وجدرانه وقوانينه وزنازينه وقبوره العميقة.

سيدي الصدى: أرجوك حدّثني عن الحرية أولًا وفكّ قيد المؤبدات والموت من حولي، أزل شبح المستوطنة المنغرزة في لحمي وأرضي وألف حاجز حول مدينتي، أعطني الحياة فكرًا ولغة وثقافة ومقاومة، أرضًا وسماء، أنقذني وعيًا وروحًا، فهناك فرق بين الحرية والدولة.

سيدي الصدى: غوانتنامو الصهيوني الجديد يحتجز المجتمع الفلسطيني برمّته وحق تقرير المصير، هكذا يرتسم البلد ويُخطّط له، سجونًا وأسيجة وعبيدًا يديرون شؤون العبيد، آخ يا سيدي الصدى لو تدري قيمة الشرف عندما يُداس ويُمتهن، لخرجت من صداك وأسندت نفسك إلى نفسك كما قال محمود درويش "ولا يذهب صوت الضحايا سدى".