تُعرف الشاعرة الفلسطينية "نهى شحادة عودة" في المجتمع الأدبي العربي باسم "ياسمينة عكَّا"، أبصرت النور في مُخيّمات اللاجئين في لبنان ذات يوم مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصولها إلى قرية شعب في قضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينية وضمان توريثها لأجيال اللاجئين.. نشرت رواية واحدة وعددا من الدواوين الشعرية، وخصّت جريدة "الأيام نيوز" بمجموعة من القصاصات التي أودع فيها الأسرى المُحرّرون الفلسطينيون بعض ذكرياتهم في رحلة العذاب..
في ظل المجزرة المستمرة داخل سجون الاحتلال، كان هناك حديث متواصل يدور حول "صفقة التبادل". الأسرى لا تصلهم الأخبار إلا خلال فترات متباعدة، ويعتمدون بشكل أساسي على ما قد يصلهم من زيارات المحامين، أو خلال حضورهم إلى المحاكم، خاصة إذا كان بينهم أسرى جدد ما زالت لهم جلسات. عندها قد يُبلغهم المحامي ببعض الأخبار، ولكن غالبًا ما تكون أخبارًا بسيطة جدًا، خالية من التفاصيل. لم تكن لدينا معلومات سوى إشارات مقتضبة عن وجود مفاوضات، وأن هناك احتمالًا لحدوث تبادل.
لم تُبلّغنا إدارة سجون الاحتلال بأيّ شيء. بل على العكس، كان ضبّاط الاستخبارات في كل السجون يتعمّدون يوميًّا استدعاء الأسرى إلى مقابلات طويلة تمتد لساعات في مكاتبهم، وكانت تلك المقابلات مليئة بالأفكار المسمومة: تحريض ضد شعبنا، وضد المقاومة، وتشويه لما جرى في السابع من أكتوبر، وكلها بهدف كسر إرادة الأسير، وتحطيمه نفسيًا، وطنيًا، وإنسانيًا.
كانوا يرددون باستمرار أخبارًا مفبركة، مثل: "لا يوجد صفقة"، "أنت لست ضمن الصفقة"، "الصفقة تشمل عددًا محدودًا فقط".
تُبث هذه الإشاعات بشكل يومي، مُستغلّين حالة الانقطاع التام التي يعيشها الأسرى عن العالم، فهم في غربة حقيقية ولا يعرفون شيئًا. لذلك، أيّ خبر مهما كان صغيرًا يُصبح حدثًا، يُتداول بين الغرف، ويُناقش لساعات طويلة على مستوى الأقسام.
هذه الحالة من اللايقين وعدم الاستقرار مرهقة جدًّا لنفسية الأسير، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
نحن، حين جرى الحديث الجاد عن الصفقة، لم يتم إبلاغنا رسميًّا بها. بل حضر فجأة عناصر من وحدات خاصة إلى القسم الذي كنا فيه، وطلبوا من عدد من الأسرى أن يجهّزوا أنفسهم. كان واضحًا من المشهد أن هناك تبادلًا سيجري. فقد جاءوا في ساعات الفجر، قبيل الأذان، وطلبوا من مجموعة أن تتهيأ.
لاحظنا أن القيود كانت بلاستيكية وليست حديدية، ما يعني أنهم في طريقهم إلى خارج السجن، لا إلى سجن آخر. وكان من بين السجانين أحد العرب البدو، وقد سرّب كلمة معناها أن هناك صفقة. ومن هنا بدأنا ندرك أن الصفقة أصبحت واقعًا.
ثم توالت الدفعات: واحدة تلو الأخرى. حتى جاء دور دفعتنا، وكانت الدفعة السادسة.
أُفرج عنا يوم 15/2/2024. كنتُ قد صليت الفجر ثم عدت إلى فراشي، وفجأة حضر السجّان إلى باب الزنزانة، ونادى:
- "أسامة أشقر".
- سألته: "إلى أين؟" (لم يُجب).
- قلت له: "أحضر أغراضي؟" (لم يُجب).
كل ما قاله: "جهز نفسك".
فعلت ذلك بسرعة. قيّدوني، واقتادوني إلى الباب الخارجي للقسم...
وجدتُ أربعة من الأسرى، أعرفهم، كانوا معصوبي الأعين وجالسين على الأرض والقيود في أقدامهم، رُكبهم تلامس الأرض، ورؤوسهم منحنية نحو الأسفل، وقواهم خائرة من جرّاء تعرّضهم للضرب الشديد. بدأنا نتهامس فيما بيننا:
- "من أنت؟"
- "أنا منصور"
- "أنا أبو ربيعة"...
فعرفنا أننا أبناء المجموعة نفسه، من البلدة نفسه. حينها تأكدنا أن أسماءنا واردة في "الترويحة" (قائمة الإفراج).
نقلونا إلى مكان يُعرف بـ "غرفة الانتظار"، تقع عند باب السجن. جلسنا هناك فترة طويلة، تعانقنا، بكينا، سلّمنا على بعضنا البعض. كنّا نعرف في قرارة أنفسنا أننا في طريقنا نحو الحرية. بعد ذلك، بدأوا بمناداة الأسرى واحدًا تلو الآخر، كل شخص على حدة.
حين جاء دوري، خرجت من غرفة الانتظار إلى غرفة أخرى: غرفة التفتيش. في غرفة التفتيش كان المشهد مرعبًا. حينما استحضرُه الآن، أشعر بالاختناق. طلبوا مني خلع ملابسي. أظهرتُ أنني أخلع البلوزة أو الجزء العلوي فقط، لكنهم أصرّوا على أن أخلع كل شيء.
تردّدتُ قليلًا، حاولت أن أشرح، لكن دون فائدة. وفجأة، انهالوا عليّ بالضرب، وأنا مُقيّد اليدين والرجلين للخلف. سقطتُ على الأرض، وبدأوا يضربونني بأيديهم، وأقدامهم، وبكل ما يحملون من أدوات. استمرّ الضرب لعدّة دقائق، كانوا يُفرغون سمومهم بي، وأنا عارٍ تمامًا، لا أرتدي شيئًا، ومكبل من كل جهة. كان الموقف قاسيًا جدًا جدًا جدًا.
بعد ذلك، ألقوا عليّ ملابس قديمة جدًا، ذات رائحة كريهة للغاية، كانت مجرد قميص وبنطال فقط، دون أي لباس داخلي. ثم رميت ملابسي كلها في القمامة.
بدأوا بعد ذلك بالتّهديد والوعيد، وقالوا لي: "لا تفكر أنك خلصت منّا، راح نلاحقك، راح نوصلك وين ما رحت". كل ذلك وسط الصراخ، الشتائم، والسباب.
حتى إحدى الشرطيات استغربت ردّ فعلهم، واستهجنت تصرفاتهم. ثم أخرجوني من غرفة التفتيش إلى مكان التفتيش الخارجي، حيث جهاز كشف المعادن. وهناك، يوجد مقعد مخصص للجلوس. أجلسوني عليه، وأحضروا آلة حلاقة.
بدأوا بحلاقة شعري بأسلوب استهزائي: يحلقون من جهة، ويتركون جهة، يحلقون من الأمام، ويتركون الخلف، والعكس. الشيء نفسه فعلوه في لحيتي، حلقوا جهة وتركوا الأخرى. كذلك شاربي، فعلوا الأمر ذاته.
كانت محاولة واضحة لتشويه منظري وإهانتي كإنسان. ثم نقلوني مباشرة إلى غرفة الانتظار الخارجية. وهناك، وجدتُ الأسرى الأصغر الذين كانوا معي، وكانوا في الحال نفسه: معظمهم تعرّض للضرب المُبرح، منهكون، بعضهم يتألم من ظهره أو جسده نتيجة الضرب، ومقيدون للخلف، ومعصوبو الأعين.
كنا نجلس على الأرض طوال الوقت، لا نجد شيئًا نرتاح عليه، ولا يُسمح لنا بالحركة. استمر هذا الوضع لعدّة ساعات، حتى وصلت سيارات نقل الأسرى التابعة لوحدة "النحشون"، حيث أُخرجنا بطريقة مذلة ومهينة، ورؤوسنا مخفية عن الأنظار...

