شهدت حرب الإبادة الجماعية على غزة استخدامًا غير مسبوق لتقنيات الذكاء الاصطناعي كعنصر أساسي في إدارة الحرب بالمجال العسكري، حيث اعتمد الجيش "الإسرائيلي" على أنظمة ذكية لتحليل البيانات وتحديد الأهداف مثل نظام "Lavender" الذي قيل إنه يستخدم لتصنيف آلاف الأشخاص كمشتبهين بالانتماء إلى فصائل فلسطينية، بناءً على خوارزميات تجمع بين بيانات الاتصالات والمراقبة.
تكنولوجيا التضليل
منذ الأيام الأولى للحرب، سعت "إسرائيل" إلى إدارة رواية إعلامية تُبرر عدوانها وتُخفي جرائمها تحت عناوين "الدفاع عن النفس"، مستخدمةً منصات التواصل الاجتماعي وشبكات إعلامية عالمية لبث رسائل موجهة بدقة.
في المقابل، استخدم الإعلام الفلسطيني الرسمي والمستقل - إضافة إلى آلاف الناشطين الرقميين - المنصات ذاتها لتوثيق الجرائم والانتهاكات وبثّ صور ومقاطع من قلب الدمار، لتتحوّل غزة إلى مسرح مفتوح للعالم يرى فيه الجميع الحقيقة مباشرةً، وتحوّل الفضاء الإلكتروني إلى ميدان مواجهة رقمية تُخاض فيه معارك بالصورة والمعلومة بين من يسعى إلى طمس الحقيقة ومن يناضل من أجل إيصالها إلى العالم.
الحرب الإعلامية والمعلوماتية
لم تعد الحرب على غزة تقتصر على الصواريخ والطائرات بل امتدت إلى ميدان جديد لا يقلّ خطورة، "الحرب الإعلامية والمعلوماتية"، ففي زمن الذكاء الاصطناعي وثورة الاتصالات، أصبحت المعلومة سلاحًا حاسمًا يُستخدم لتوجيه الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي تمامًا كما تُستخدم الأسلحة في الميدان، فلم تعد القوة تُقاس بعدد الطائرات والدبابات بل بقدرة الأطراف السيطرة على السردية الإعلامية وتوجيه الصورة والرواية بما يخدم مصالحها.
انتصار الكذب واندثار العدالة
شهدت الحرب محاولات واضحة لتوجيه وتضليل الجمهور على المنصات الرقمية مع حذف المحتوى الفلسطيني وتقييده بزعم "مخالفة المعايير"، في حين تُسمح بتضخيم المعلومات الموالية الرواية "الإسرائيلية". نتيجة هذا التضليل، يشعر الرأي العام العالمي أحياناً أن ما يُعرض أمامه هو الحقيقة الكاملة، بينما الواقع الميداني يعكس صورة مختلفة تماما.
وبالتالي، يمكن القول إن الكذب يحقق انتصارًا مؤقّتا في قلب العالم الرقمي، وأن العدالة قد تتراجع تحت ضغط التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لكن الحقيقة تظل دائما سلاحًا فعّالاً إذا ما امتلك الإعلام والأدوات القدرة على نقلها.
إن أخطر ما في هذه الحرب أنها لا تستهدف فقط الإنسان على الأرض بل الوعي الإنساني في العقول، ومن هنا يبقى واجب الإعلام الحر هو حماية الحقيقة لأن خسارتها تعني انتصار الكذب واندثار العدالة.
الإعلام المقاوم أمام آلة الحرب
في ظل انهيار البنية التحتية والانقطاع المتكرر للاتصالات والقصف الهمجي المستمر والتعتيم الإعلامي، لعب الإعلام الفلسطيني المقاوم دورًا محوريًّا في مواجهة هذه الحرب الرقمية، مستندًا إلى الشجاعة الميدانية من خلال الصحفيين الفلسطينيين في نقل الحقيقة ليُعيد للإنسان صوته في معركة تحاول الآلة احتكاره، فقد تحوّلت الكاميرا إلى رمز للمقاومة، والصورة إلى وثيقة تاريخية تحفظ الذاكرة الفلسطينية للأجيال القادمة.
لقد أدرك العالم أن الحرب في غزة ليست فقط صراعًا عسكريًّا بل هي أيضا معركة على الحقيقة يخوضها الإعلام الإنساني القائم على المصداقية والأخلاق لا على الحسابات الرقمية.
سيف ذو حدّين
تجربة غزة تكشف بوضوح أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية مستقبلية، بل أصبح أداة حرب حقيقية تُستخدم لتوجيه الصواريخ كما تُستخدم لتشكيل الروايات الإعلامية، وإن غياب الرقابة والمساءلة يجعل من هذه التقنية سيفًا ذا حدين: فإما أن تُوظف لخدمة الإنسان، أو تتحوّل إلى آلة عمياء تحصد أرواح الأبرياء باسم "الدقة الذكية".
إن دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميادين الحرب، مثل ما يُشهد في غزة، يفرض على المجتمع الدولي تحديات وضوابط قانونية واخلاقية صارمة لضمان بقاء القرار الإنساني فوق القرار الآلي، وموازنة التطور التقني مع قيم الإنسانية والعدالة، لمنع تحوّل التكنولوجيا من أداة حماية إلى آلة للظلم والتدمير والتضليل.

