تحت سماء عاصمة الأضواء، وبين أروقة قصر المعارض بالصنوبر البحري، تتنفس الجزائر مجددا عبق الحرف والكلمة، مع انطلاق فعاليات الدورة الثامنة والعشرين لمعرض الجزائر الدولي للكتاب، الذي افتتح قبل أيام، ليحول المدينة إلى "منارة ثقافية" عالمية، تستقطب نخبة من الأدباء والمفكرين والناشرين من شتى بقاع الأرض.
تحت شعار "الكتاب ملتقى الثقافات"، ينطلق هذا الموعد الثقافي البارز، الذي أصبح محطة إلزامية في أجندة الناشرين والمثقفين، حاملاً معه رسالة سلام وحوار، في زمن تكثر فيه الضوضاء وتقل فيه المساحات المشتركة بين البشر. إنه تأكيد على أن الكتاب يظل ذلك الجسر المتين الذي تعبر عليه الثقافات لتلتقي، لا لتصطدم، ولتتكامل، لا لتنافس.
مشهد ثقافي استثنائي.. في أرقام
الأرقام وحدها تكفي لتشير إلى ضخامة هذه التظاهرة وتميزها: 1254 دار نشر تمثل 49 دولة من مختلف القارات، تتوزع بين 290 دار نشر جزائرية وطنية، و410 دار نشر من شتى الأقطار العربية، و554 دار نشر أجنبية، إلى جانب حضور لافت لأكثر من 250 كاتباً ومثقفاً من الجزائر وإفريقيا والعالم. هذه الأرقام ليست مجرد كم، بل هي دليل على المكانة التي تتبوؤها الجزائر كرافد أساسي من روافد الثقافة والإبداع، وقدرتها على لعب دور جسر ثقافي بين الضفتين، وبين الشمال والجنوب.
"الكتاب ملتقى الثقافات": أكثر من مجرد شعار
يبدو شعار هذه الدورة وكأنه اختزال لروح المعرض وجوهره. فالمعرض لا يقتصر على كونه سوقاً للكتاب أو مناسبة لتبادل الصفقات التجارية، بل هو فضاء حيوي تتحاور فيه العقول، وتتقاطع فيه الرؤى، وتذوب فيه الحدود المصطنعة. الزائر لأروقة المعرض يسمع همسات اللغات المختلفة، يرى تنوع العناوين من رحاب الصين إلى أدغال إفريقيا، ومن صقيع اسكندنافيا إلى دفء أمريكا اللاتينية. إنه عالم مصغر، تتعانق فيه حضارات الأرض، وتتآلف فيه ثقافات الشعوب، جميعها تجتمع تحت سقف واحد، هو سقف المعرفة والإنسانية.
اختيار هذا الشعار هو إيمان بأن الكتاب هو الوسيلة الأمثل لبناء جسور التفاهم بين الشعوب. في زمن الصراعات والتوترات، تأتي الثقافة لترد الاعتبار للإنسان، ولتذكرنا بأن ما يجمعنا كبشر أكبر بكثير مما يفرقنا. المعرض هذا العام هو احتفاء بهذا التنوع الثقافي الجميل، الذي يثري تجربتنا الإنسانية.
إفريقيا.. ضيف شرف دائم
يأتي المعرض هذا العام بتوجه واضح نحو تعزيز الحضور الإفريقي، ليس فقط من خلال عدد دور النشر الإفريقية المشاركة، والتي شهدت زيادة ملحوظة، ولكن أيضا عبر البرنامج الثقافي المصاحب الذي يسلط الضوء على الإبداع الأدبي والفكري في القارة السمراء. هذا التوجه ليس وليد الصدفة، بل هو تجسيد للدور التاريخي والاستراتيجي للجزائر كقلعة للتحرر ومركز إشعاع لإفريقيا. الجزائر التي كانت دائما منارة للثورات التحررية، تريد اليوم أن تكون منارة للثورة الثقافية والفكرية في القارة.
الحضور الإفريقي في معرض الجزائر للكتاب هو دائما تجربة خاصة. فالجزائر هي بوابة إفريقيا إلى العالم المتوسطي والعربي، وهي تمتلك تاريخا غنيا ومثقفين عظاما، رأوا في ثورة التحرير الجزائرية نبراسا لشعوب آخرين، فخلدت نصوصهم، تضحيات شعب، ورسمت أمل التحرر لدى شعوب أخرى. هذا ما يؤكد أن الجزائر لا تنسى جذورها.. كيف تنسى؟ وهي صوت لإفريقيا بأكملها.
الذكاء الاصطناعي يطرق باب الأدب.. جلسات تناقش مستقبل الإبداع
من أبرز مميزات البرنامج الثقافي لهذه الدورة، والتي تضم أكثر من خمسين فعالية متنوعة، هو تخصيص جلسات حوارية عميقة تناقش موضوعات شائكة وحديثة، لعل أهمها مناقشة سؤال "الإبداع في زمن الذكاء الاصطناعي".
هذه الجلسات تفتح الباب أمام تساؤلات مصيرية حول مستقبل الكتابة والإبداع في ظل تقنيات الذكاء الاصطناعي القادرة على محاكاة الإبداع البشري بل وإنتاجه.
هل سيصبح الكاتب مجرد مشرف على نصوص ينتجها الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن للآلة أن تمتلك روح المبدع وحدسه؟ وأين موقع الأصالة والإحساس الإنساني في ظل هذه الثورة التكنولوجية؟
يجمع النقاد وزوار المعرض، في أيامه الأولى، على أن هذه النقاشات ليست ترفا فكريا، بل هي ضرورة ملحة لفهم التحولات الجذرية التي تشهدها صناعة المحتوى والأدب، وإيجاد مساحة للتوازن بين الاستفادة من إمكانات التكنولوجيا الهائلة والحفاظ على جوهر العملية الإبداعية التي تظل في صميمها إنسانية بحتة.
الذاكرة والتاريخ.. سرديات لا تنسى
إلى جانب المستقبل التكنولوجي، يولي المعرض اهتماما كبيرا بالماضي، من خلال جلسات تبحث في "الذاكرة والتاريخ". في منطقة مثل المنطقة العربية وإفريقيا، حيث تكون الكتابة التاريخية غالبا محكومة بروايات المنتصر أو المستعمر، تأتي هذه الجلسات لتؤكد على أهمية استعادة السردية الخاصة، وكتابة التاريخ من منظور الأمة نفسها، بعيداً عن التزييف والتحيز. إنها محاولة لفهم الحاضر من خلال قراءة نقدية للماضي، واستخلاص الدروس لبناء مستقبل أكثر إشراقا.
أدب الطفل.. استثمار في بناء عقول الناشئة
لا يغفل المعرض عن فئة هم مستقبل الأمة وأملها في المستقبل: الأطفال. العديد من الندوات والمحاضرات متخصصة في "أدب الطفل" تتناول سبل تطوير هذا الأدب، وكيفية تقديم محتوى هادف وجذاب ينمي الخيال، ويبني الشخصية، ويغرس القيم النبيلة في عقول وقلوب الناشئة. في عصر طغت فيه الشبكات الإجتماعية والألعاب الإلكترونية ووسائل الترفيه السريع، يظل الكتاب الورقي ذلك الصديق الذي يقدم متعة مختلفة، متعة الاكتشاف والتأمل وبناء عالم داخلي ثري.
أمسيات شعرية تناصر القضايا الإنسانية
لا يكتمل المشهد الثقافي إلا بوشوشات أبيات الشعر، ذاك النوع الأدبي العريق الذي يلامس أوتار القلوب برقة ولهفة كنسمة دافئة تعانق وجدان الإنسانية. في أحضان المعرض تنبض أمسيات شعرية كأنها نجوم في سماء الليل، تنقل همس الإنسان وهمومه العميقة، من نبض فلسطين الحزين كنبعٍ لا ينضب، إلى صدى معاناة اللاجئين كأصداء الريح بين الجبال، مرورا بأمل الجمال الذي يشرق وسط ظلال الألم، كزهرة تفتّح في صحراء قاحلة. هنا في معرض الكتاب، يتحول الشعر إلى لغة ناعمة تتجاوز كل حدود، تروي قصص الروح وتغزل للعالم ألحان الإنسانية، لتذكرنا بأن الأدب والشعر هما في الأصل حكاية القلب وأرقى تعبير عن حلم العدالة والسلام، وتلاقي الثقافات.
الثقافة مشروع أمة
معرض الجزائر الدولي للكتاب هو أكثر من مجرد حدث ثقافي سنوي. إنه إعلان وجود، وتأكيد على هوية، واستثمار في الإنسان. هو رسالة الجزائر إلى العالم بأنها أرض العلم والمعرفة، وأنها حاضنة لكل ثقافات العالم في تعايش واحترام وتقدير. وهو أيضا تجسيد لسياسة ثقافية تؤمن بأن بناء الإنسان هو أساس بناء الحضارة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه المنطقة العربية العديد من العواصف والتحديات، تأتي مثل هذه التظاهرات الثقافية لتذكرنا بأن قوتنا الحقيقية تكمن في ثقافتنا، وفي علمنا، وفي قدرتنا على الحوار والإبداع.
الثقافة هي روح الأمة وهويتها الثابتة، مشروعٌ لا يكتمل إلا بالوعي الجماعي والتفاعل الحضاري. هي النبع الذي ينبثق منه فكر الشعوب وقيمها، ونسيج التجارب التي تشكل ماضيها وحاضرها ومستقبلها. حين تتحول الثقافة إلى مشروع أمة، تصبح جسرًا يربط بين الأجيال، ويغذي الإبداع ويعزز الوحدة الوطنية، فتُبنى من خلالها مجتمعات تناضل بكل فكرها وقيمها من أجل غدٍ مشرق.
أما الكتاب الذي يحتفل القراء به، فهو السلاح النبيل في هذه المسيرة، يحمل بين دفتيه نور المعرفة، ويهدي القارئ خطوات الحكمة والصواب. هو المرآة التي تعكس آمال الشعوب وتطلعاتها، والملهم الذي يزرع بذور التغيير في عقول الباحثين عن الحقيقة. بالكتاب، تبنى الحضارات وتُصقل العقول، ويصبح المستقبل أكثر وضوحا وإشراقا، لأن الكلمة المكتوبة تنير الدرب وتحرر الفكر، إذ من خلاله تتجذر القيم وتزدهر الأفكار، ويولد الأمل في غد أفضل يليق بأمة تؤمن بقوة ثقافتها وعلمها.

