تشهد مالي، منذ أسابيع، حالة من التوتر السياسي والأمني العميق، بعد تصاعد التحذيرات الغربية لمواطنيها بمغادرة البلاد، وسط مؤشرات على انزلاق الوضع الداخلي نحو مرحلة غامضة.
فقد سارعت الولايات المتحدة وأستراليا وإيطاليا إلى مطالبة رعاياها بمغادرة الأراضي المالية فورا، بينما اكتفت بريطانيا بإصدار تحذير من السفر إلا في حالات الضرورة القصوى. في المقابل، نفت السفارة الروسية وجود أي دعوات مشابهة، ووصفت ما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي حول مغادرة جماعية للمواطنين الروس بأنه "أخبار مزيفة"، مؤكدة أن توجيهاتها تقتصر على الإجراءات الوقائية العادية.
هذه المفارقة في المواقف الدولية تكشف، بحسب تحليل البروفيسور محمد آق أحمدو، أستاذ العلوم السياسية من دولة مالي ، اختلاف التقديرات حول حقيقة ما يجري في البلاد، لكنها في الوقت ذاته تعكس هشاشة الوضع الداخلي الذي تعيشه مالي منذ تولي المجلس العسكري السلطة. ويعتبر آق أحمدو أن المشهد الراهن يعبر عن فشل الحكومة الانتقالية في تحقيق الوعود التي قطعتها منذ انقلاب عام 2021، سواء بإعادة الأمن أو بفتح الطريق نحو انتخابات شاملة تعيد الشرعية إلى المؤسسات.

وفي تصريح لـ"الأيام نيوز"، يرى البروفيسور آق أحمدو أن التحذيرات الأخيرة ليست سوى انعكاس لحالة انسداد الأفق السياسي داخل البلاد، موضحا أن الحكومة الانتقالية محاصرة اليوم بين عجز داخلي وتراجع في علاقاتها الخارجية. ويشير إلى أن السلطة العسكرية "اختارت الهروب إلى الأمام بشعارات السيادة ومواجهة الغرب، لكنها في الواقع رهنت سيادة البلاد لتحالفات ظرفية لا تملك عمقا اقتصاديا ولا شرعية شعبية".
ويعتبر الخبير المالي أن ما يجري في باماكو "ليس مؤامرة خارجية كما يروّج الخطاب الرسمي، بل نتيجة مباشرة لتآكل المؤسسات وغياب الرؤية الوطنية". ويوضح أن القرارات الانفعالية التي اتخذتها السلطة الحاكمة خلال الأشهر الماضية زادت من عزلة البلاد، فتراجعت الثقة الدولية في مؤسساتها، وابتعد المستثمرون والمنظمات الإقليمية عنها. ويرى أن انتقال مالي من الشراكة مع القوى الغربية إلى الارتهان للنفوذ الروسي لم يحقق أي تحول إيجابي ملموس، بل أفرز فراغا أمنيا جديدا وعمّق الفجوة بين السلطة والمجتمع.
وتعيش مالي اليوم مرحلة متقدمة من الانكماش السياسي والدبلوماسي، تشكل امتدادا طبيعيا لحالة الارتباك المستمرة منذ ثلاث سنوات. فسياسات الانغلاق والقطيعة مع الجوار الإقليمي أدت إلى إضعاف البنية المؤسسية وخلق أزمة ثقة متبادلة بين الدولة والمجتمع، ما عمّق الاضطراب الأمني وزاد من مخاوف السكان المحليين والشركاء الدوليين على حد سواء.
ولم تقتصر آثار الانعزال على العلاقات الخارجية، بل امتدت إلى إدارة الأزمات الداخلية. فمؤسسات الدولة تعاني شللا إداريا واضحا وغيابا شبه تام للقدرة على المبادرة، في وقت تستعيد فيه الجماعات المسلحة نشاطها في مناطق الشمال والوسط، مستغلة الفراغ السياسي والأمني. أما العاصمة باماكو، فتعيش عزلة داخلية تحاصرها الهواجس بشأن مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وفي هذا السياق، يوضح البروفيسور آق أحمدو، أن الأزمة الحالية "ليست وليدة ظرف طارئ، بل نتيجة مباشرة لخيارات سياسية انعزالية انتهجتها الحكومة العسكرية منذ وصولها إلى السلطة". ويشرح أن السلطة الانتقالية قطعت جسور التواصل مع جوارها الإفريقي، ما أضعف شبكة العلاقات التي كانت تمنح مالي قدرة على التوازن أمام الضغوط الدولية والمخاطر الداخلية. ويرى أن هذه القطيعة مع المحيط الإفريقي كانت أحد أبرز أسباب الانحدار الأمني والسياسي، إذ أدت إلى عزل الدولة عن محيطها الطبيعي وفقدانها عناصر الدعم الاقتصادي والسياسي الحيوية.
ويبيّن أستاذ جامعة باماكو أن سياسة الانغلاق لم تقتصر على المجال الخارجي، بل انعكست داخل البلاد على علاقة المواطنين بمؤسسات الدولة. فقد تراجعت الثقة العامة في الأداء الحكومي، وازدادت الهوة بين السلطة والمناطق المهمشة، ما ساهم في ارتفاع منسوب التوتر الاجتماعي. ويعتبر أن الخطاب الرسمي الذي يلقي بالمسؤولية على الغرب عن تفاقم الأزمة الداخلية أصبح عاجزا أمام الوقائع الميدانية، حيث تتراجع الخدمات الأساسية وتتفاقم الأزمات الأمنية والاقتصادية، في مشهد يعكس ضعف الرؤية الاستراتيجية وغياب القدرة على إدارة شؤون الدولة بفعالية.
ويشير آق أحمدو إلى أن الجماعات المسلحة أعادت تنظيم صفوفها واستغلت الفراغ الأمني في الشمال والوسط لتوسيع مناطق نفوذها، بينما انشغلت الحكومة العسكرية في باماكو بترديد شعارات السيادة الوطنية التي تحولت، حسب قوله، إلى "ستار لتبرير العجز الميداني والإداري". ويرى أن الانعزال السياسي والمقاطعة الإقليمية وفّرا بيئة خصبة لعودة النشاط المسلح وزيادة المخاطر الأمنية على المدنيين في عدة مناطق من البلاد.
وفي قراءة أكثر عمقا للمشهد، يحذّر الخبير المالي من أن استمرار هذا النهج الانعزالي سيقود مالي إلى مزيد من الانكماش الداخلي والعزلة الدولية، معتبرا أن لغة السيادة التي ترفعها الحكومة "فقدت مضمونها حين تحولت إلى غطاء للفشل الإداري وانعدام الرؤية". ويضيف أن العودة إلى المسار الطبيعي للعلاقات مع الجوار الإفريقي وإعادة بناء شبكة الثقة الداخلية يمثلان الخطوة الأولى نحو معالجة الأزمة واستعادة التوازن السياسي. ويختم البروفيسور آق أحمدو تحليله بدعوة إلى قراءة التحذيرات الدولية الأخيرة "كإنذار مبكر وليس مؤامرة"، لافتا إلى أن "العالم لا يهرب من الدول القوية بمؤسساتها، بل من الدول التي تفقد بوصلتها بين الشعارات والواقع".
تدلّ هذه المعطيات مجتمعة على أن الأزمة المالية لم تعد مجرّد نتيجة لتحديات أمنية أو ضغوط خارجية، بل تعبير عن اختلال عميق في إدارة الدولة وتوجّهها السياسي. فسياسات الانعزال والقطيعة مع الجوار الإقليمي قادت البلاد إلى مأزق متعدّد الأبعاد، جعلها تواجه وحدها أعباء الانهيار الأمني والاقتصادي والاجتماعي. ويبدو أن مالي، التي كانت يوما محور توازن في غرب إفريقيا، تسير اليوم في طريق محفوف بالمخاطر، لا يمكن تجاوزه إلا من خلال مراجعة شاملة للخيارات السياسية والأمنية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.

