خاب الاستشراق الاستعماري في الجزائر.. وماذا عن الاستشراق “الرّقمي”؟
آخر التقارير
مضى في صمت إلى جوار ربّه، يوم الخامس فيفري 2022، كأنما لم يكن ذلك المفكر السياسي والباحث المستشرف الذي أثرى المكتبة الجزائرية والعربية بأكثر من خمسين كتابا، ولم يكن ذلك الإعلامي الذي أضاء الزوايا المظلمة بتحليلاته اليومية من خلال الإذاعة الوطنية لسنوات، ينزفُ فكرا وأدبا على صفحات العديد من الجرائد الوطنية والدولية.
في هذه الورقة، تستحضرُ «الأيام نيوز» أحد أعمدة الإعلام الجزائري، المُفكّر السياسي «عبد القادر رزّيق»، من خلال آخر حوار مُطوّل أجراه الفقيد مع وسيلة إعلامية، وقد خصّنا به، ونقدّمه إلى القارئ على الشكل الذي يستَجلي محطات من سيرته ومسيرته.
في قرية المخادمة، وهي بلدية الآن، الواقعة على بعد حوالي 45 كلم غرب ولاية بسكرة، وُلد «عبد القادر رزّيق» في الرابع عشر من شهر ديسمبر 1950، وكان الابن البكر لعائلة شريفة، حيث يقول: “أصلي (حسب الإثباتات) سليل الدوحة النبوية الشريفة، إذ ينتهي نسبي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حسبما تشهد به شجرة سيدي موسى دفين بلدية الصحيرة (ولاية بسكرة)، التي ضبطها العالم الجزائري عبد المجيد بن حبة رحمه الله تعالى.. وقصة حياتي هي قصة طفل جزائري نشأ في ظل الاستعمار الفرنسي، فعشق الحرية كما عشق الجزائر، وأصبح كل هدفه تحريرها أرضا وإنسانا وفكرا وروحا، ولقد نشأتُ منذ بدايتي على عشق الكتابة والصحافة التي حامت بي الدنيا شرقا وغربا”.
يواصل كاتبنا الحديث عن طفولته قائلا: “وعلى عادة أبناء الأسرة أُدخلت جامع القرية، المدرسة الوحيدة آنذاك لحفظ القرآن، وعمري لما يتجاوز خمس سنوات، وقد التحقت بمدرسة المحمدية بمدينة بسكرة في مرحلة التعليم الابتدائي، ثم مرحلة الإعدادي في معهد التعليم الأصلي، وكانت والدتي هي الراعي الأول لتربيتي منذ الصغر، لأنني كنت وحيدها، وكان الوالد مُهاجرا في فرنسا، ولكنه عاد عشية الاستقلال بعد استشهاد أخيه عمي (رزيق) رحمه الله”.
الرّحيل عام النّكبة
أحدثت فيضانات عام 1969 أضرارا كبرى في العديد من المناطق بولاية بسكرة، حتى صار يُقال عام “النكبة” للتأريخ بهذا العام الذي تهدّمت فيه البيوت وأصاب التّلف حقول النخيل والفلاحة، وقد اضطرت هذه الظروف أن تنتقل عائلة الكاتب إلى مدينة بسكرة، مثل عائلات كثيرة، وأقامت عند الجدّ الذي تكفّل بالعائلة، وقد أخذ عنه كاتبنا الكثير من العادات اليومية حيث يقول: “ورثت عادة الإبكار من جدي رحمة الله عليه، الذي كان يوقظني في الصباح الباكر للصلاة، وظلت هذه العادة سمة من سمات حياتي، والتي يعود الفضل فيها في أنني لم أعد أطيق حمل القلم وتحبير أي شيء، إلا في الصباح الباكر وقبل بزوغ الشمس، وقبل أن يصيح الديك فجرا، ومعظم ما كتبت كان في الساعات الأولى من النهار، حيث السكينة والهدوء والصفاء الذهني”.
قصّة المُخادمي
وقّع كاتبنا كثيرا من مؤلّفاته بإضافة «المُخادمي» إلى اسمه، هو «عبد القادر رزّيق المخادمي»، ولهذا الأمر قصّةٌ يُحدّثنا عنها الكاتب قائلا: “أمّا ارتباط (المخادمي) باسمي فيعود بالأساس إلى دار الفكر بدمشق، أثناء طباعتهم باكورة إنتاجي وهو كتاب: الأمن المائي العربي بين الحاجات والطموحات، عندما طلبوا مني اسم الشهرة، لأنه جرت العادة (في المشرق) أن يكون الاسم ثلاثيا، فاقترحت عليهم (المخادمي) نسبة إلى قريتي المخادمة (وتُكتب امخادمة) وبقي هذا الاسم يرافقني طيلة حياتي”.
البداية من تحت الصّفر
واجه كاتبنا المصاعب في مسيرته الحياتية، قبل أن يتخرّج بشهادة جامعية من كلية الحقوق والعلوم الإدارية في الجزائر العاصمة سمة 1979، وحول هذه المرحلة يقول «المخادمي»: “الأحلام عادة ما تصنعها العواصم، وأنا مَدين للجزائر العاصمة موطن آمالي وطموحاتي التي كانت تعانق السماء، فيها عرفت قساوة الحياة وضغطها عليّ.
ورغم ذلك لم أتراجع أو استسلم، كان حلمي هو النجاح بالشهادة الجامعية والعودة بها إلى والدي، حتى يفرح بها، لأنني كنت له بمثابة حبل النجاة في هذه الدنيا، فالحياة كانت صعبة وقاسية، واعتماد الأب على المحصول السنوي للتمور، كان لا يكفي لسد حاجات العائلة، فكنت ألاحظ والدي يتحسّر في صمت، فأزداد اجتهادا ومثابرة وإخلاصا في الدراسة، وكنت إلى جانب الدراسة الجامعية أعمل مدرسا في العليم، حتى أعيل الأسرة، التي تتكون من أربعة أفراد، وقتها كنت وحيدا في العاصمة ليس معي إلا الله، الذي كنت أشعر بمظلته التي كانت تظللني وترشدني كبوصلة في الحياة.. لم يكن لديّ شيء من المال، ولا كان لدي شيء من التجربة في الحياة، وهكذا كان عليّ أن أشق طريقي بنفسي، وأن أبدأ من تحت الصّفر.
درسُ الحرمان
يُوجز لنا «المخادمي» خلاصة تجربته في مسيرة “الحرمان” قائلا: “فلسفتي في الحياة ألاّ أدخر المال وفي نفسي، أو نفس أحد أبنائي، رغبة أو حاجة يمكنني تحقيقها بالمال، حتى لو لم يكن لتلك الرغبة أو الحاجة ضرورة ماسة، إن الحرمان الذي عرفته طفلاً ويافعًا كان أقسى من أن يسمح لي بأن أجعل أحدا من أبنائي يعرف مثله، مهما كلفني ذلك.. ذلك كان الدرس الذي علمني إياه الحرمان”.
حول آماله وآفاقه المستقبلية يقول: “ليس لي آمال كثيرة في هذه الحياة العابرة، ولا طموحات مادية أو معنوية في خريف هذا العمر! لكنني متفائل بالمستقبل، وأتعاطف مع الحركات الثورية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. لأنها تمثل الجيل الشاب، الذي ينبض بالحيوية والمستقبل، ويومياتي بين البحث والكتابة والمطالعة، أسهر دائما ويوميا، أٌقابل الأصدقاء والناس المسكونين بالشعر والثورة والجنون”.
الأمُّ سرُّ النجاح
من الحرمان إلى تحقيق الأمجاد الفكرية، مسيرةٌ يرى “المخادمي” بأن سرّها هو توفيق الله، ثم “والدتي مُعلمي الأول في هذه البسيطة، التي تستحق وسام الصابرين، بامتياز”، ويضيف بالقول: “إن سر خروجي من جهادي الطويل بأكثر من 56 كتابا، قدّمتها إلى الخزانة الجزائرية والمكتبة العربية، يعود بالأساس إلى أنني لم أضيّع وقتي في غير طائل، وكان شعاري الدائم أن لا عقد لي مع الله، وبالتالي عليّ استغلال كل ثانية من حياتي لأن الزمن كحبّات السّبحة، يمضي في سيره المجد، والعاقل من استثمره، في كل نافع وصالح ومفيد”.
ويردف قائلا: “إن متعتي هي القراءة الموصولة، التي تؤدي بطبيعة الحال إلى الكتابة الموصولة، وروافد الثقافة المتعددة، وينابيع المعرفة الكثيرة، كنتيجة حتمية لذلك، فانا أرافق منذ عهد بعيد أمثال: المعري، وشكسبير، وفولتير، وابن باديس وناسك القبة محمد الصالح الصديق، وشاعر الهند طاغور، وتولستوي، ومكسيم غوركي، وغيرهم من الأدباء والمفكرين والشعراء من كل العالم”.
رسائل إلى ولدي
تمحورت مُؤلّفات «المخادمي» حول الفكر السياسي والشؤون الأمنية في مختلف المجالات (المائية والغذائية والبيئية وغيرها)، ولكنه أيضا قدّم سلسلة من الكتب حملت عنوان “إلى ولدي” تندرج في أدب الرسائل، توجّه بها إلى ولده المغترب في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلاله إلى كل أبناء الوطن في المهجر، يحثّهم على التشبّث بأصالتهم وتاريخهم وقيمهم، ليكونوا خير سفراء لبلادهم، ويحذّرهم من الغرق في أنماط الحياة الغربية التي قد تسلخهم عن انتمائهم الوطني والديني واللغوي.
وفي هذا السياق يقول: “الرسائل إلى ولدي المغترب في المهجر، مُنطلقُها دافعٌ شخصي، ولكن في مراميها البعيدة، هي تحذير من هجرة الكفاءات المهاجرة للأقطار العربية، التي تكابد هذا النزيف، وأيضا نصائح وعضات لابني ومن خلاله جميعَ المهاجرين، وبالتالي الأخذ بيدهم، وتحذيرهم من مزالق الحياة، التي قد تعترض طريقهم، في بحر الحياة المتلاطم الأمواج، وأيضا، الرسائل في حقيقتها عبارة عن نوع من اعترافات أب لابنه كرَشَحات قلم، ونصائح يواجه بها وهادَ الحياة الوعرة، التي كابدتُها في شريط حياتي الأسود، وأيضا لكل طالب في المهجر، ينشد العلم والمعرفة”.
التفاؤل قيمة نبيلة
حَمَل لقاؤنا مع المفكّر الجزائري «عبد القادر رزيق المخادمي» كثيرا من رؤاه حول ما يحدث في العالم، وما تموج به الساحة الدولية من قضايا ناقش بعضًا منها في كُتُبه، وكان ختام اللقاء كلمات توجّه بها إلى أبناء الجزائر خاصة، والأمة العربية عامة، حيث قال: “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل والتفاؤل، التفاؤل هو المسافة التي تفصل بين العقل والإرادة، التفاؤل قيمة نبيلة، تخلق للكفيف عينين وللكسيح رجلين، هناك ما يدعو للتفاؤل، وعلينا أن نكون منصفين، فقبل النظر إلى نصف الكأس الفارغة، علينا التأمل مليًا في نصف الكأس المملوءة، فالأمر السهل اليوم (في كل شيء) ما كان أصعبَه بالأمس”.
عناوين من الأعمال المطبوعة
من مؤلّفات الكاتب والمُفكّر «عبد القادر رزّيق» نذكر هذه العناوين: