2025.11.11
\ مقالات رأي

"أمل" وفسحة الأمل..


في السادس والعشرين من حزيران/ جوان، سنة ألفين وستة، همس والدي لي ولإخوتي بصوتٍ مفعمٍ بالفرح أنّه ذاهب إلى المستشفى ليُحضر لنا شقيقًا جديدًا، وطلب من جدّتي أن تمكث معنا تلك الليلة. وفي صباح اليوم التالي، عاد والدي حاملًا بين يديه طفلًا صغيرًا، يرتدي ثوبًا أزرق، يعلو وجهه غضبٌ طفولي، رغم أنّه كان مغمض العينين.

- سألناه بشوق: "أين أمّي؟".

- فابتسم ابتسامةً متعبة وقال: "ستأتي بعد يومين".

مرّ اليومان، وجاءت أمّي.. لكن ليست كما خرجت. أتت على كرسيٍّ معدنيٍّ بأربعة دواليب. يومها تمنّيت أن يشتري لي والدي واحدًا مثله، فتحقّقت تلك الأمنية اللعينة، لكن لأمّي.

قال لنا والدي بصوتٍ مكسورٍ مملوءٍ بالحمد: "أمّكم لم تعد كما كانت، أصبحت تحتاج إلى معاملةٍ خاصّة، وأشياءٍ خاصّة".

تساءلت أختي الكبرى، وكانت تكبرني بأربع سنوات: "وإلى متى؟".

أجاب بصوتٍ متقطّعٍ بينه وبين كلّ كلمة تنهيدة حمد: "إلى الأبد... الحمد لله، إلى الأبد".

لم أكن أفهم ما معنى "شيء خاص". لكنني أدركت مع الوقت أنّ "الخاص" لا يعني التميّز كما يُقال، بل يعني الانفصال عن العالم العادي.

أمي كان لها مكان خاصّ تتحرّك فيه، كرسيّ خاصّ، حمّام خاصّ، لباس خاصّ، وكلّ شيءٍ خاص. كنت أراها وهي تحاول أن تبتسم رغم الألم، وأرى والدي يحملها بين ذراعيه صعودًا ونزولًا من الدرج ليُراجع الطبيب.

كنتُ صغيرةً أظنّها لعبة، فأطلب منه أن يحملني مثلها، من دون أن أدرك أنّ اللعبة التي تمنّيتها كانت حياةً كاملة من الصبر. ومع مرور الأيام، أدركت أن أمي أحسنت الاختيار في شريك حياتها، كما أحسن هو الاختيار فيها. هو صبَر بحمدٍ واحتساب، وهي صبرت حين بدأ معها من الصفر، وظلّ الصفر يكبر حتى صار بيتًا مملوءًا بالمحبة. لكن الطبيب كان في كل مرة يقول: "لا أمل يا أمل... الشلل كامل في الساقين".

كلمة واحدة قلبت حياة كاملة، خطأ طبي صغير جعلها بين ليلةٍ وضحاها عاجزة عن السير، أسيرة الأشياء "الخاصّة".

ثم حدثت المعجزة... بعد ستة أشهرٍ من الصبر والدعاء والدموع، عادت أمي إلى المشي، ورمت الكرسيّ ذي الأربعة دواليب، وكسرت قيد الأشياء "الخاصّة". حينها فقط فهمت ماذا يعني أن تكون إنسانًا عاديًا ثم تستيقظ ذات صباح لتصبح "خاصًّا".

الكثير من أصحاب الهمم وُلدوا وهم يحتاجون إلى أجهزة تساعدهم على السمع أو البصر أو الحركة. لكن ماذا عن أولئك الذين مثل أمي؟ أولئك الذين كانوا يعيشون حياةً عادية، ثم فجأة يسقطون في هاوية العجز دون مقدمات؟

هذا ما حدث في حرب "البيجر" على لبنان، حين أصبح كثيرون بين ليلة وضحاها من ذوي الهمم؛ فقدوا أطرافهم، أو بصرهم، أو أصواتهم، أو حتى القدرة على الحلم.

وما يحدث اليوم في غزة الحبيبة أبلغ مثال عن شعب بأكمله أصبح "خاصًّا"، فقدَ جزءًا من جسده، أو من روحه، أو من بيته، أو من طفولته. لكن، من قال إن كفة الميزان لا تميل؟

نحن "الأكثر" عددًا، لكننا ربما "الأقل" وعيًا. نحن الذين نرى ولا نبصر، نسمع ولا نعي، نعيش بكامل الجسد ونصف الروح. نحن الذين نحتاج إلى كتيّبٍ بحروف نافرةٍ كي نقرأ الحقيقة، وإلى جهاز سمعٍ لندرك الصوت الصادق وسط ضجيج الكذب، وإلى كرسيٍّ يسير بنا نحو الدرب الصحيح، وإلى أطرافٍ ترفع راية النصر لا راية الخضوع.

لكن يا للعجب، بدل أن نُقيم للإنسان مكانته، نفرش السجّاد الأحمر للسياسيين، وننسى أن نضع منحدرًا بسيطًا يمكّن صاحب كرسيٍّ متحرّكٍ من الدخول إلى قاعةٍ رسمية! نسينا أنّ من يجلس على الكرسيّ لم يختر مصيره، وأنّ من يمشي عليه اليوم قد يجلس عليه غدًا.

نشتري نظاراتٍ شمسية باهظة الثمن، ونترك من يعيش في ظلمة عينيه يحلم بأن يلمس حروفًا نافرة ليقرأ سطرًا من كتاب. نقيم المهرجانات بمكبّرات صوتٍ ضخمةٍ لأجل خطبٍ جوفاء، بينما هناك من لا يسمع شيئًا من الدنيا سوى الصمت. وإن وُجدت أماكن أو أدوات "خاصة"، فهي باهظة الثمن، كأنّ القدر فرض على من خُلق مختلفًا أن يدفع ضريبة اختلافه.

في قانون الحياة السوداء: أن تكون "خاصًّا" يعني أن تُحاسَب على شيءٍ لم تختره، وأن يُقاس وجودك بسعرك، لا بقلبك ولا بإنسانيتك.