بين قسوة القدر وعدالة السماء، تصحو فجأة بارقة أملٍ لم تكن في الحسبان، أمّهات ودّعن أبناءهن على أنهم شهداء، صدّقن خبر الاستشهاد وقبلن التعازي بقلوب مثقلة وحملن أسماءهم في القلوب، ثم فجأة تأتي الحياة بما لا يُصدق، تصلهن أسماء أبنائهن ضمن قوائم الأسرى المحررين.
قدرٌ قاسٍ حرمهن من الحقيقة وسرق من أعمارهن سنين طويلة من الحزن، من الدموع، من الذكرى.. لكن عدالة السماء وإن تأخرت لا تغيب، تأتي على هيئة اسم في قائمة أو حضنٍ يُستعاد بعد طول حرمان أو ابتسامة ابنٍ لم تنطفئ رغم السنين وظلام الزنازين.
عدالة السماء لا تأتي لتعتذر عن الألم بل لتخفّف وطأته لتهمس في أذن الأم الصابرة: "صبركِ لم يذهب سُدًى... ودمعكِ لم يُهدر عبثا".
أيّ قلبٍ يحتمل هذا الانقلاب؟
لحظةٌ كهذه تُربك المعاني وتبعثر التوازن بين العقل والقلب، هل تبكي الأم لأنها ودّعت ابنها الوداع الأخير، وداعا كوى قلبها بلهيب الفقد وتركها معلقة بين قبر بلا جسد ودمعة بلا وداع حقيقي؟ أم تضحك لأن السماء ردّت إليها فلذة كبدها من فم الموت؟ هل تحتضنه كغائب عائد أم كشهيد بُعث من جديد؟
كيف يمكن لقلبٍ واحد أن يحتمل الوداع واللقاء، أن يعيش الحزن والفرح في اللحظة نفسها. الأم الفلسطينية حين تُكافأ، لا تُكافأ بشيء أعظم من أن تحتضن ابنها حيًّا بعد أن ودّعته ميتًا. في فلسطين، لا يموت الأمل فقط يُؤجل.
ظنّت أنهما شهداء
كم من أمٍّ فقدت شهية الحياة ظنًّا أن ابنها قد مات فماتت هي على قيد الحياة. وكم من دمعة سقطت على صورة وهي لا تعلم أن الملامح ما زالت تتنفس خلف القضبان؟
وثقت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو مؤثّر للسيدة "علياء إسماعيل"، من مدينة خان يونس، وهي تبكي بحرقة ممزوجة فرحًا بخبر الإفراج عن نجليها "محمد رضوان البحطيطي" وشقيقه "خليل".. كانت تظن أنهما استشهدا بعد تغيبهما عنها خلال التصعيد العسكري، ما جعلها تعيش حالة من القلق واليأس معتقدة أنهما من بين ضحايا الحرب. وبعد أكثر من شهرين من الانتظار والألم، تلقّت خبرًا غيّر حياتها تمامًا: أبناؤها على قيد الحياة، وأسماؤهما مدرجة ضمن قوائم الأسرى المقرر الإفراج عنهم في صفقة وقف الحرب الأخيرة.
بدموعٍ غلبت كلماتها، قالت الأم المكلومة فرحًا: "الخبر أعاد الأمل إلى قلبي بعد أن كنت أعيش على خيطٍ رفيع من الرجاء، لم أصدق أن الله كتب لي أن أراهما من جديد".
قصة "علياء" تختصر وجع أمّهاتٍ كثيرات في غزة ينتظرن بصبرٍ ودموع خبرًا يُعيد إليهن نبض الحياة بعد أن ظنن أن الأقدار خطفت أبناءهن إلى الأبد.
أمل مؤجّل
مشهد مؤلم يختصر كل أوجاع الأرض والسماء، "أم حمدان فوجو"، من مدينة رفح، لا تزال تلملم شتات قلبها بعد أن وصلها الخبر كالسهم، أبناؤها الذين خرجوا لتفقّدِ منازلهم المدمرة في تل السلطان لم يعودوا فقد استُشهدوا تحت الركام. انكسر صوتها وسقطت كلماتها بين الدموع والتراب، فالأم لا تصدق أن حضنها صار فارغًا إلى الأبد، لكن القدر لم يكتفِ بما فعل، ففي لحظةٍ مربكةٍ بين الحزن والدهشة تفاجأت بأن أسماء أبنائها مدرجةٌ ضمن قوائم الأسرى المفرج عنهم.
انتظرت على أحرّ من الجمر لحظة الإفراج عن أبنائها، وكل نبضة في قلبها كانت تعدّ الدقائق لتضمهم بعد غياب عام ونصف لكن الأمل انكسر في آخر لحظة فلم يأت فلذتا كبدها ولم يُفرج عنهما، وقفت عند بوابة استقبال الأسرى وملامحها منكسرة بين دموعٍ وحسرةٍ لا توصف، تتأرجح بين الرجاء والخوف، تبتلع خيبتها وتواسي نفسها بأن الغد قد يحمل لهم الفرج الحقيقي.
تلك المشاهد والمواقف تختصر صمود الأمهات الفلسطينيات ليكن مثالاً حيًّا حول قوة الإيمان والصبر الذي لا ينكسر، فهن اللواتي حملن قلوبهن بين حنايا الحزن والأمل، ووقفن شامخات رغم دموعهن التي لم تجف، حتى إذا جاء الخبر بأن أبناءهن أحياء، امتزجت الدموع بالفرح، وتحوّلت محنتهن إلى أمل جديد ينبض في صدر الوطن. فالأم الفلسطينية بصبرها الذي لا يلين وإرادتها التي لا تنكسر، تبقى رمزًا خالدًا للشجاعة والحب الذي لا يعرف المستحيل.

