لم تعد الثورة الجزائرية حكاية تُروى فقط في الكتب أو على خشبة المسارح وشاشات السينما الكلاسيكية، بل أصبحت اليوم قابلة لإعادة البناء بلغة بصرية حديثة وأساليب سينمائية ثلاثية الأبعاد. ففي زمن التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي، برزت مبادرات فنية جزائرية تعيد صياغة التاريخ ورموز إحدى أعظم ثورات القرن العشرين، مستخدمة لغة الصورة المتحركة التي يتفاعل معها الجيل الجديد.
وحول هذا الموضوع استطلعت "الأيام نيوز" آراء فاعلين في الحقل السينمائي، من مخرجين وكتّاب سيناريو، لفهم واستكشاف هذا التحوّل الفني وكيفية توظيف سينما التحريك في خدمة الثورة التحريرية والحفاظ على الذاكرة الوطنية.
وقد أجمع المتحدثون على أن الأنيميشن أصبح أداة فعّالة لاستحضار الثورة بطريقة عصرية، بما يتيح للجيل الجديد فهم تاريخ الجزائر والتفاعل معه بصريا، فكيف يمكن لسينما التحريك وتقنيات الأنيميشن أن تساهم في الترويج للثورة التحريرية والحفاظ على الذاكرة الوطنية؟.. الإجابة عن هذا السؤال ستجدونها في هذا الملف الخاص الذي أعدّته "الأيام نيوز" بمناسبة الذكرى الـ71 لاندلاع ثورة الفاتح نوفمبر (1954-1962).
السيناريست الطيب توهامي: "أفلام التحريك قادرة على إحياء الذاكرة"
أكد السيناريست الطيب توهامي أنّ أفلام التحريك أصبحت اليوم من أهم الوسائل القادرة على مخاطبة الجيل الجديد ونقل التاريخ الوطني إليه بلغة بصرية قريبة من اهتماماته، معتبرًا أن "من الصعب جدًا تلقين الأطفال والناشئة التاريخ بطرق كلاسيكية، لأنهم لم يعودوا يتفاعلون مع الأساليب القديمة، بل مع الصورة المتحركة وثقافة الأنيميشن التي أصبحت جزءًا من حياتهم اليومية."

وأوضح توهامي في حديث لـ"الأيام نيوز" أنّ سينما التحريك تحولت إلى صناعة قائمة بذاتها في العالم، بعدما أدرك المنتجون أهميتها الاقتصادية والثقافية، إذ صارت تستقطب جمهورًا واسعًا من فئة الأطفال والشباب، وتُدرّ أرباحًا كبيرة في شباك التذاكر العالمي، مشددا في معرض حديثه على أن قيمة هذا الفن في الجزائر لا تُقاس بالمردود التجاري فقط، بل بقدرته على نقل الذاكرة وترسيخ الانتماء الوطني، من خلال أعمال تُعيد تقديم رموز الثورة التحريرية والبطولات الوطنية بأسلوب يجمع بين الترفيه والتربية.
وأضاف صاحب فيلم "الساقية" أن الثورة التحريرية يمكن أن تجد في أفلام التحريك وسيلة فعالة لتمرير رسائلها التاريخية الكبرى بطريقة سلسة ومؤثرة، تتيح للأطفال التعرف على أبطالهم الوطنيين وفهم معاني التضحية وحب الوطن من خلال الحكاية والصورة، لا عبر الخطاب المباشر.
ودعا المتحدث إلى استثمار التقنيات الحديثة في تحويل التاريخ إلى تجربة بصرية حية قادرة على ملامسة الوجدان وبناء وعيٍ جديد بالذاكرة الجماعية، معتبرًا أنّ الجزائر تمتلك مخزونًا هائلًا من الأحداث والشخصيات التي تصلح لأن تتحول إلى أعمال تحريك مبدعة، من يوغرطة إلى أبطال نوفمبر، مرورًا بالتراث الشعبي الغني بالرموز والمعاني.
وفي السياق ذاته، ثمّن توهامي المبادرات الرسمية لإعادة بعث السينما الجزائرية، معتبرًا أن دعم مشاريع التحريك خطوة ضرورية لربط الأجيال الجديدة بالشاشة الكبيرة، وتوظيف "القوة الناعمة" في مصالحة الشباب مع تاريخه. وختم قائلا: "التاريخ لا يُلقَّن اليوم، بل يُعاش ويُحسّ بالصورة والفن، فحين نقدّمه بطرق إبداعية، نجعل أبناءنا يفخرون بانتمائهم ويعيشون ذاكرتهم بعيون جديدة."
المخرج شوقي بوكاف: أفلام التحريك تستحضر الثورة برؤية مُعاصرة
قال المخرج المختص في صناعة أفلام التحريك شوقي بوكاف إن الساحة الإعلامية الجزائرية تشهد اليوم تحولات لافتة في أنماط التعبير الفني، خصوصا في ظل تصاعد مكانة تقنيات الأنيميشن وسينما التحريك كوسيط بصري قادر على استحضار الذاكرة الوطنية والثورة التحريرية برؤية معاصرة تتماشى مع ذائقة الجيل الجديد.

وأضاف بوكاف أنّ هذا التحول لا يعني القطيعة مع الصورة الواقعية، بل هو امتداد فني وإنساني يعيد تشكيل الذاكرة برؤية مرئية ومسموعة متجددة تحافظ على القيمة الوجدانية وتضخ فيها حياة جديدة.
ووفق المتحدث "لطالما كان تاريخ الثورة التحريرية موضوعا مركزيا في السينما الجزائرية، من الأفلام الوثائقية إلى الدراما التاريخية. غير أن فن التحريك يقدم اليوم لغة فنية جديدة تمكن من إعادة بناء المشاهد والأحداث التي استعصت على الكاميرا الواقعية. موضحا أنّ سينما التحريك تمنح صناع المحتوى حرية واسعة في تشكيل الصورة والزمان والمكان، الأمر الذي يتيح إعادة بناء مشاهد الثورة التحريرية ورسم شخصياتها البطولية وتصوير آلام وجماليات مرحلة الكفاح التحرري ضمن فضاءات جمالية تتجاوز حدود الإنتاج الواقعي.
وأشار في معرض حديثه إلى أن هذه الميزة تظهر خصوصا في معالجة المحطات الكبرى التي يصعب التوثيق لها بصريا، سواء لفقدان الأرشيف أو لصعوبة التصوير الحي ضمن سياقات معقدة.
ولفت إلى أنّ "أفلام التحريك تساهم في تبسيط المفاهيم التاريخية وترجمتها إلى رموز وصور يسهل على الأطفال واليافعين فهمها واستيعابها، كما أنّه أسلوب يعزز الارتباط الوجداني بين الأجيال الصاعدة وتاريخ بلدها، ويدعم بناء وعي وطني راسخ يقوم على إدراك تضحيات الشهداء وقيمة الاستقلال."
وبحسب بوكاف "التحريك يسمح بتناول الذاكرة التحريرية من منظور إنساني، من خلال التركيز على المصائر الفردية والقصص الإنسانية التي كثيرا ما تغيب خلف السرد البطولي العام، فضلا على أنّ الأنيميشن يفتح الباب أمام انتشار المحتوى الجزائري في الأسواق العالمية، بوصفه خطابا بصريا متجاوزا لحاجز اللغة وقادرا على تأكيد الهوية الوطنية في الفضاء الثقافي الدولي.
ولم يخف أنّ "صناعة الأنيميشن تحتاج إلى إرادة إنتاجية قوية، تستند إلى تكوين تقني رفيع وتشجيع المواهب الصاعدة، إضافة إلى تثمين التعاون بين المؤرخين والمبدعين لضمان دقة المعالجة التاريخية دون المساس بالخيال الفني.
ويختم صاحب "أوليفيا" بقوله إنّ "سينما التحريك تقدم فرصة ذهبية لإعادة كتابة صفحات النضال بصياغات بصرية متطورة، تجعل من الذاكرة الوطنية مادة حية تنبض في الخيال المعاصر، وتضمن استمرار رسالة الثورة التي حررت الأرض والإنسان."
السيناريست مراد أوعباس: "رجال نوفمبر" أنيميشن جزائري يُخلدّ مجموعة الـ22
كشف السيناريست مراد أوعباس عن إطلاق سلسلة الرسوم المتحركة "رجال نوفمبر"، سينتجها التلفزيون الجزائري في إطار سبعينية الثورة، وتسعى إلى تقديم وتخليد مسيرة مجموعة الـ22 التاريخية في قالب درامي مشوّق ومثير.

وأوضح مراد أوعباس في تصريح لـ"الأيام نيوز" أن فكرة المشروع نابعة من إيمانه بضرورة مواكبة التحولات التكنولوجية والفنية في العالم، مؤكداً أن سينما التحريك تعدّ اليوم من أقوى أدوات السرد البصري القادرة على تقديم التاريخ بروح مشوّقة وجمالية معاصرة، تخاطب الأطفال والكبار على حدّ سواء.
وأضاف أن "رجال نوفمبر" مشروع فني استغرق نحو 5 سنوات من البحث والتوثيق، يأخذ المشاهد في رحلة زمنية عبر عيون أبطال مجموعة الـ22، من طفولتهم في القرى والمدارس القرآنية، مروراً بالحركة الوطنية والمنظمة الخاصة، وصولاً إلى انخراطهم في الثورة المجيدة.
وأشار المنتج إلى أن السلسلة تمثل نموذجاً فنياً مبتكراً يجمع بين العمق التاريخي والتعبير الفني الحديث، مبرزاً أن مؤسسته للإنتاج ستنفذ العمل بالتعاون مع كوكبة من المحترفين في صناعة الأنيميشن، إلى جانب فنانين جزائريين بارزين يجسدون الأدوار الرئيسية لأبطال السلسلة.
وأعرب مراد أوعباس عن امتنانه الكبير للمدير العام للتلفزيون الجزائري محمد بغالي، على دعمه للمشروع منذ بدايته، معتبراً أن هذا التبنّي يعكس حرص المؤسسة على مواكبة التطور التكنولوجي والانخراط في الدفاع عن الذاكرة الوطنية بوسائط عصرية قادرة على ملامسة وجدان الجيل الجديد.
المخرج محمد والي: الأنيميشن جعل رسائل التاريخ أقرب إلى الشباب
يرى مخرج الأفلام الوثائقية محمد والي أنّ "سينما التحريك وتقنيات الأنيميشن فرصة نادرة لإعادة تقديم الثورة التحريرية بروح جديدة. "
وأكد والي الذي يدير منصة "ذاكرة بلس" في تصريح لـ"الأيام نيوز" أن هذا التوجه لا يهدف إلى تجميل الماضي، بل إلى ترجمته بلغة يفهمها الجيل الجديد الذي يعيش في فضاء الصورة والتفاعل السريع.

وقال والي في هذا السياق إن استخدام تقنيات التحريك والذكاء الاصطناعي يجعل الرسائل التاريخية أقرب إلى الشباب وأكثر تأثيرا، لأنها تتحدث بلغتهم البصرية الحديثة.
وأوضح المتحدث إلى أن الجزائر تمتلك رصيدا بصريا وروائيا فريدا بحكم ارتباطها التاريخي بالسينما الثورية، ما يمنح صناع الأفلام اليوم أرضية خصبة لتجديد الذاكرة الوطنية بأدوات رقمية معاصرة.
كما أشار في السياق إلى نماذج فنية لافتة في هذا المجال، من بينها فيلم "الساقية" للمخرج الطيب التهامي، الذي قدم الثورة التحريرية برؤية فنية مغايرة، تجمع بين الحميمي والتأملي.
وبخصوص تجربة منصة "ذاكرة بلس" التي تشكل نموذجا تطبيقيا في هذا التوجه، لفت إلى أنّه تم إنتاج قصص رقمية تفاعلية لاقت انتشارا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل قصة الملاكم شريف حامية و"المعركة الأسطورة".
وأضاف المخرج أن هذه الأعمال جعلت الذاكرة تعيش من جديد في الفضاء الرقمي، حيث يتحول التاريخ إلى تجربة تفاعلية نابضة بالحياة. كما أشار في سياق ذي صلة إلى أنّ وزارة البريد والمواصلات انتهجت هذا المسار من خلال إطلاق مسابقة وطنية حول قصص الذاكرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وهي مبادرة -اعتبرها والي- خطوة جريئة تفتح المجال أمام جيل جديد من المبدعين لتقديم رؤيتهم الخاصة للذاكرة الوطنية بلغة التكنولوجيا والفن الرقمي.
إعداد: محمد بوسلامة، إيمان بن يمينة، نيسيا قرشي، وصال شنيخر

