في قاعة مجلس الأمن، دوّى صوت مندوب السودان، الحارث إدريس، قاطعا صمت المجتمع الدولي، موجها اتهاما صريحا للإمارات بالضلوع في "العدوان الأخطر على السودان" عبر تمويلها وتسليحها مليشيا "الدعم السريع"، التي – حسب قوله – تحوّلت إلى وكيل محلي يعمل تحت السيطرة المباشرة لأبوظبي. وحمل تصريحه، بلهجته الحادة، إدانة صريحة للانهيار الأخلاقي الذي يخيم على المشهد الإقليمي، حيث تستخدم قوى الاتجار بالدم المال السياسي لإشعال الحروب بدل إخمادها.
يعيش السودان، الذي تمزّقه نيران الحرب منذ أفريل 2023، صراعا مريرا تجاوز حدوده الداخلية، واتّسع نطاقه ليغدو مواجهة مباشرة ومعقّدة بين قوى إقليمية ودولية متشابكة المصالح. وتؤكد تقارير غربية موثوقة – من وول ستريت جورنال إلى الغارديان - وجود رحلات جوية سرية تربط الإمارات بالجماعات المسيطرة على شرق ليبيا، تكشف عن عمليات منظّمة لنقل الأسلحة والعتاد إلى المليشيات المتمرّدة، ما يعزّز الشبهات المتزايدة حول الدور المحوري الذي تلعبه أبوظبي في تغذية آلة الحرب السودانية واستدامة أمدها.
وتُظهر صور الأقمار الاصطناعية الصادرة عن جامعة ييل، إلى جانب تقارير محلية توثق "تصفية المرضى" في مستشفى الفاشر، مشهدا دمويا تتقاطع فيه التقنية العسكرية الحديثة مع فظائع الإبادة الجماعية في دارفور وكردفان، حيث تواصل القوى المتصارعة ذبح القيم الإنسانية باسم "الاستقرار الإقليمي".
يقول الدكتور حسن شايب دنقس، مدير مركز العاصمة للدراسات السياسية والاستراتيجية لـ"الأيام نيوز"، إن ما يجري في السودان يكشف "عهد النفاق الدولي"، متسائلا: "أي سلام تتحدث عنه الإمارات وهي تمول وتسلح مليشيا تُبيد شعبا أعزل؟".

ويضيف أن "كل عتاد مليشيا الدعم السريع مصدره الإمارات التي جلبت مرتزقة من كولومبيا لتشغيل الأنظمة القتالية المتقدمة". ويؤكد أن ما يحدث في الفاشر ليس تجاوزات ميدانية، بل "جريمة دولة مكتملة الأركان تُدار بغطاء سياسي ودبلوماسي دولي وسط تواطؤ مؤلم من عواصم تفضل الصمت على مواجهة الحقيقة".
ويرى دنقس أن الدور الإماراتي في السودان يتجاوز البعد المحلي ليرتبط بصراع النفوذ في القرن الإفريقي، حيث تتقاطع مصالح واشنطن وربيبتها "تل أبيب" وبعض القوى الإقليمية في السيطرة على الممرات الحيوية والموارد السودانية. فالسودان، بموقعه الجيوسياسي الرابط بين البحر الأحمر وعمق القارة الإفريقية، تحول إلى رقعة شطرنج تتحرك فوقها القوى الإقليمية تحت لافتات "الاستثمار والتنمية"، فيما تجري على الأرض حروب بالوكالة تغذيها طائرات محملة بالذخيرة لا بالمساعدات الإنسانية.
ويشير الخبير السوداني إلى أن "دارفور، التي كانت يوما أرض السلطان علي دينار ومصدر كسوة الكعبة، تُدمر اليوم بأيد عربية وبخطط أجنبية"، موضحا أن الحرب فقدت طابعها المحلي وأصبحت صراعا معقدا تتشابك فيه مصالح ثماني عشرة دولة عبر وسائل سرية وتمويلات غامضة. ويتساءل بأسى: "هل أصبح مفهوم السلام مجرد شعار يُستخدم لتبرير الحروب؟".
في ظل هذه الاتهامات السودانية الموجهة إلى الإمارات بشأن تسليح مليشيا الدعم السريع، تتضح ملامح مشهد إقليمي بالغ التعقيد تتقاطع فيه المصالح مع الخطابات المضللة. وبينما تقدم أبوظبي نفسها في المحافل الدولية بوصفها دولة "السلام والوساطة"، تتحدث تقارير ميدانية متواترة عن مسارات تمويل وتسليح تنطلق من أراض إقليمية باتجاه دارفور، فتزيد اشتعال النار في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في القارة.
موت الناس وموت المعايير
وتتمسك الخرطوم باتهاماتها، فيما ترد الإمارات – رغم تزايد الأدلة ضدها - بالنفي، بينما يلتزم المجتمع الدولي صمتا يعتبره كثيرون تواطؤا مغطى بلغة دبلوماسية باردة. والمفارقة أن الخطاب الإنساني الذي روجت له أبوظبي عبر مفردات "الإغاثة" و"التسامح" و"دعم التنمية" ينهار أمام حقائق الميدان، حيث تنفذ قوات "الدعم السريع" أعمال قتل جماعي وتطهير عرقي واعتداءات وحشية ضد المدنيين في الفاشر ونيالا ودارفور. وهنا يبرز السؤال الأخلاقي الحاد: هل يمكن للمال أن يغسل الدم حين يُستخدم لتبرير الجريمة؟
ويقول دنقس إن "الإمارات تمارس ازدواجية سياسية خطيرة، فهي ترفع راية السلام في المؤتمرات، لكنها في الخفاء تزود أدوات الحرب وتدير خطوط الإمداد". ويضيف أن "العمل الإنساني يفقد معناه الأخلاقي حين يتحول إلى غطاء سياسي لشراء الولاءات وتمرير النفوذ، فيتحول إلى استعمار ناعم بأدوات معاصرة".
ويعتبر أن القوى الكبرى التي تتابع المشهد وتدرك تفاصيل المسارات الجوية والتمويلية تكتفي بتعابير مثل "القلق العميق"، لأن حسابات المصالح الاقتصادية وصفقات الطاقة ومشروعات الموانئ في البحر الأحمر تدفع كثيرا من العواصم الغربية إلى غض الطرف عن الانتهاكات حفاظا على شراكاتها مع حلفائها الخليجيين. وهكذا تبقى المأساة السودانية عالقة بين بيانات باهتة ومقابر جماعية تتجاهلها العدالة.
ويحذر دنقس من أن أخطر ما في الأزمة لا يتمثل في موت الناس فقط، بل في موت المعايير. فعندما تُدار العدالة بالانتقاء وتتحول الأخلاق إلى ورقة تفاوض، يصبح الصمت الدولي شراكة في الجريمة. ويقول: "كيف يمكن لدولة تبني في دبي مدينة إنسانية أن تُتهم في الوقت نفسه بإشعال حرب تفني مدنا بأكملها في السودان؟".
ويأتي هذا الموقف متقاطعا مع الخطاب الذي ألقاه السفير الحارث إدريس، مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن، حين قال إن سماع ممثل الإمارات يتحدث عن الوضع الإنساني في السودان "إهانة لمجلس الأمن واستخفاف بدماء الأطفال اليتامى ودموع النساء الأرامل"، مؤكدا أن "المال والسلاح اللذين يقتلان الشعب السوداني مصدرهما أبوظبي".
وتتطابق تصريحات إدريس مع ما كشفته تقارير إعلامية ودولية عن ارتباط شركات إماراتية بشبكات تهريب السلاح وتمويل المليشيات. وأوضحت وول ستريت جورنال والغارديان أن الإمارات وفرت للدعم السريع تمويلا ولوجستيا متقدما، بينما عرض مختبر البحوث الإنسانية بجامعة ييل صورا توثق عمليات قتل جماعي داخل المستشفى السعودي في الفاشر أواخر أكتوبر، وصفتها الأمم المتحدة بأنها جرائم حرب محتملة.
ويقول الأمين درمس، الأمين العام لتنسيقية السودانيين بغرب إفريقيا، لـ"الأيام نيوز"، إن تصريحات السفير إدريس تمثل "صرخة وطنية تعبر عن وجع شعب يُقتل ويُهجر يوميا بسلاح مصدره دول معروفة في مقدمتها الإمارات"، موضحا أن الأدلة التي نشرتها المؤسسات الدولية "تؤكد أن الحرب في السودان تجاوزت الصراع الداخلي لتتحول إلى عدوان منظم ترعاه دولة عضو في الأمم المتحدة، في انتهاك واضح لميثاقها ولقرارات مجلس الأمن التي تحظر دعم الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون".
ويكشف درمس أن طائرات إماراتية هبطت في مطاري نيالا والفاشر بعد سقوط المدينتين، وأن أكثر من أربع وخمسين رحلة عسكرية انطلقت من مطار أم جرس في تشاد محملة بالأسلحة والطائرات المسيرة، قبل أن يستهدفها الجيش السوداني في غارات جوية دقيقة أوقعت قتلى بين الضباط الإماراتيين والمرتزقة الكولومبيين الذين جلبتهم أبوظبي للقتال إلى جانب مليشيا الجنجويد.

الأمين درمس
الأمين العام للتنسيقية السودانيين بغرب إفريقيا
ويرى درمس أن هذه التطورات تضع الإمارات أمام اختبار أخلاقي وسياسي صعب، قائلا: "لا يمكن لدولة تتحدث عن السلام في المنابر الدولية أن تملأ طائراتها بالذخيرة وتغذي حربا تُبيد المدنيين". ويؤكد أن الدور الإماراتي، كما يراه دنقس، "يجسد تناقضا صارخا بين الخطاب الإنساني والممارسة الواقعية"، ما يضعف الثقة في الدبلوماسية الوقائية التي ترفعها بعض العواصم الخليجية.
صرخة في وجه نظام دولي متواطئ
وفي ضوء هذه الوقائع، دعت تنسيقية السودانيين بغرب إفريقيا إلى فتح تحقيق دولي مستقل في دور الإمارات بالحرب، وفرض عقوبات على الأفراد والمؤسسات التي تمول مليشيا الدعم السريع، إضافة إلى دعم الجيش السوداني والقوى المدنية الساعية لاستعادة الدولة وإنهاء المأساة الإنسانية المستمرة.
في وقت سابق، تقدم السودان بشكوى رسمية أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، متهما إياها بالتورط في دعم وتمويل جرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية في إقليم دارفور، خصوصا ضد مجموعة المساليت منذ عام 2023 على الأقل. وأوضح بيان المحكمة أن الطلب السوداني تضمن تفاصيل دقيقة حول ما وصفه بـ"الأفعال الممنهجة" التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها، من إبادة وقتل واغتصاب وتهجير قسري وتدمير للممتلكات العامة والخاصة وانتهاك واسع لحقوق الإنسان.
وأكد السودان في دعواه أن هذه الجرائم ما كانت لتقع دون الدعم المباشر الذي قدمته الإمارات عبر التمويل المالي والتسليح المتطور، إلى جانب تغطية سياسية وإعلامية وفرت مظلة لحماية تلك الميليشيات، ما يجعلها ـ بحسب الخرطوم ـ شريكا فعليا في الإبادة الجماعية ضد المدنيين في دارفور. واستندت الدعوى إلى المادة السادسة والثلاثين من النظام الأساسي للمحكمة والمادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، اللتين تُعد كل من الإمارات والسودان طرفين موقعين عليهما.
وطلب السودان من المحكمة إصدار تدابير مؤقتة ملزمة تُجبر الإمارات على وقف أي دعم مباشر أو غير مباشر للميليشيات المسلحة، واتخاذ إجراءات فورية لمنع استمرار الجرائم من قتل وتعذيب وفرض ظروف معيشية قاسية تهدف إلى إفناء المجموعات المستهدفة. وأشارت المحكمة في حينه إلى أن الطلب السوداني يحظى بالأولوية بموجب المادة 74 من قواعدها، ما يعكس خطورة القضية وضرورة التعامل معها دون تأخير.
وفي تعليقه على هذه الخطوة، يرى

المحلل السياسي ابو الفاضل ابراهيم
أن لجوء الخرطوم إلى القضاء الدولي شكل منعطفا حاسما في مسار العدالة الدولية، إذ وضع المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وسياسي صعب: هل يُسمح لدول غنية بتمويل جرائم حرب تحت شعار "الاستقرار الإقليمي"، أم تُرفع الكلمة للعدالة ولو جزئيا لصالح المظلومين؟
ويضيف أن السودان بهذه الخطوة سعى إلى كسر جدار الصمت الدولي الذي طالما أحاط بالدور الإماراتي في حرب مزقت النسيج الاجتماعي وأججت النزاعات القبلية والإثنية داخل دارفور.
ويشير إبراهيم إلى أن الأدلة التي استندت إليها الخرطوم - من صور الأقمار الاصطناعية، وشهادات ميدانية، وتقارير منظمات حقوقية – تشكل قاعدة قانونية متينة قد تدفع المحكمة لاتخاذ موقف صريح من تورط دولة عضو في الأمم المتحدة في جرائم إبادة جماعية. لكنه في المقابل يحذر من أن الضغوط السياسية والاقتصادية قد تُضعف مسار القضية، نظرا إلى العلاقات الاستراتيجية التي تربط بعض القوى الغربية بالإمارات.
ويؤكد المحلل لـ"الأيام نيوز" أن الخطوة السودانية لم تكن مجرد شكوى قضائية، بل صرخة سياسية في وجه نظام دولي يتعامل بازدواجية مع معاناة الشعوب، مشددا على أن الاستمرار في هذه الدعوى حتى نهايتها سيكون اختبارا حقيقيا لصدقية العدالة الأممية. ويختم قائلا: "لم يلجأ السودان إلى القضاء الدولي طلبا للانتقام، بل لوقف نزيف الدم وإثبات أن العدالة لا ينبغي أن تكون امتيازا للأقوياء، لأن صمت العالم على دارفور لم يعد حيادا بل جريمة أخلاقية مكتملة الأركان".

