2025.11.11
حلم كبير.. قراءة كلمة صغيرة! مقالات رأي

حلم كبير.. قراءة كلمة صغيرة!


آسيا عباس
23 أكتوبر 2025

كنت أراه شاردًا، نعم، كان شاردًا، كما لو أن الكون برمّته، تحوّل إلى نقطة، أو ربّما كلمة، من يعرف!؟

كان هناك، يجلس في ليالي الشتاء أمام نافذة مشرّعة بوجه ريحٍ عنيدة بالكاد تهدأ، والصّواعق تضرب الدنيا، وهي نائمة غير آبهةٍ بشيء، شخيرها واصل إلى غرفة نومي. وكانت تشبهه، تمامًا كما ظننته، لكنّ الكتاب لم يفارق يديه يومًا، ولا أعرف لماذا!

"أحمد، أنا اسمي أحمد، حبّذا لو أستطيع نطق هذه الكلمات، بصوت مبحوح كعصفور حزين ولو لم يسمعني أحد، تخيّلوا، أحلم أن أحكي بصوت عالٍ، أو بهمس، لا همّ لي، أتمنى لو أستطيع أن أنطق كلمة، كلمة واحدة فقط، بإمكانها أن تنقذني..".

لا أعرف إن كان هذا ما يدور في باله، لكن كلما رأيته شاردًا كغصنٍ وحيدٍ أمام نافذة، يخطر لي أنه يتمنى هذه الأمنية. أعتقد أنّه كان يربّيها من صغره، وها هي تشيخ، ولم تتحقق، ربما ولن..

كنتُ صغيرة جدًّا، أصغر من أن أفهم ماذا تعني كلمة الصّم، والبكم، لكن كنت أسأل الله دائمًا بعينين حزينتين، وقلبٍ بريء مثل أيّ شيء لم تلمسه يد الإنسان، لمَ عليّ أن أبكي كلما ذهبَت أمنيتي إلى السماء ولم تأتِ؟ هكذا، ذهابًا بلا رجعة! خشيت في صغري أن يكون الله لا يحبّ الأطفال، فتمنّيت أن أكبر، وأنا أردّد ذات الطّلب: "أن أسمع صوت أحدهم." وغفوت وأنا أحلم بسماع كلمة.. كلمة منه فقط.

كان التّاريخ يغنّي حينها لحن الفرح، كنّا في التّاسع من يناير/ جانفي في العام 2024. لقد كانت ليلة جميلة جدًّا، للمرة الأولى أسمع صوته الضخم، سمعته في منامي، وبكيت.. وأمطرت الدنيا، أمطرت كثيرًا حينها، لا أزال أذكر.

يومها، عرفُت أن الله يحبّني أكثر من أيّ وقت مضى.

كنت أترك أولاد الحيّ يضربون أقدامهم على الأرض كي يرَوا الدّوائر التي شكّلتها الأمطار، ولا أحد يأبه للألم الذي يسبّبونه لها، وأذهب إليه بوجهٍ يريد أن يعرف كلّ شيء، فضولي كان يسبقني مثل الغيم، ويجرّني لأجدني أتلصّص عليه من جانب الباب - وأعرف أنه لن يسمعني حتى لو فتحته وخبطته بكلّ قوّة، لكنّ شيئًا طفوليًّا بي، كان يدفعني لئلّا أزعجه - واضعةً يدًا على المقبض، والأخرى على عينيّ، إن استدار، غطّيت وجهي كأنّه لن يستطيع بهذه الحركة رؤيتي، هههه، كم كنّا مجانين!

ابتسامته في كلّ مرّة.. كنت أظن بها أنّه يقرأ، كانت تثير الحماسة بداخلي، لكنّني لا أفقه لغة الإشارة بعد، غير أنّي لن أستطيع النّوم إن لم أعرف سببها، ولم أجد حلًّا سوى أن أسأل أمّي الحزينة، عن سرّ ابتسامته.. وأخبرتني...

ذُهلت، حقًا ذُهلت، "أحمد" أميٌّ، لكنّه يحبّ الثقافة كما لو أنّها به، خُلقَت ملتصقة بجلده، ويضحك ربّما على سخرية قدره، أو ربّما لأنّه استطاع تخيّل قراءة كلمة ما.

جلست أفكر مثل فتاة في بداية تشكّل وعيها، وأسأل: لماذا لا تتحقّق كلّ الأحلام؟  أليس من حقّه أن يعرف ما صوت صفحات الكتاب التي تتقلّب بين كفيه كطفلٍ صغير؟ أليس من حقّه أن يبكي على حزن مكتوب، ويفرح على نكتة كتبها أحدهم؟ ويقرأ أمام الناس بصوت جهوري يملأ الدنيا، ثم حين ينتهي، يصفّق الجميع له؟ أليس من المؤلم ألّا يعرف الأصم والأبكم صوت التّصفيقات؟ ثمّ، أليس من حقّه أيضًا أن يسمع صوت الرعد الذي يشاطره وحدته طوال الوقت؟ تراه هل يعرف صوت المطر؟!

آه، رأسي يؤلمني كلّما حمّلتُه أسئلة تثقل ظهره...

كَبر "أحمد"، وكبرتُ أنا، وحدها النافذة لم تكبر، بقي الكتاب الوحيد في يديه منذ الصغر، يتمنّى أن ينتهي من قراءة صاحبه، ويُرَدّ إلى رفّ المكتبة، وأنا في سرّي أقول: "لم أكن أعرف أبدًا أن حلم أحمد الكبير، أن يقرأ كلمة، كلمة واحدة، ولو كانت صغيرة..".