2025.11.11
خطة الـ50 مشروعا.. جزائر 2030 تبدأ من اليوم اقتصاد

خطة الـ50 مشروعا.. جزائر 2030 تبدأ من اليوم


ربيعة خطاب
03 نوفمبر 2025

منذ بداية 2025، تخوض الجزائر مرحلة انتقال حاسم في مسارها الاقتصادي، مع خطة تهدف إلى تحويل اقتصادها من أنموذج يعتمد بدرجة كبيرة على الموارد الطاقوية إلى أنموذج شامل يركز على التنويع الصناعي، وتطوير البنية التحتية وتعزيز الصادرات. وتشكّل الخطة التنفيذية لـ"50 مشروعا استراتيجيا" نقطة الانطلاق نحو رؤية الجزائر 2030، إذ تركز الاستثمارات الكبرى على: مجالات الصناعة، الطاقات المتجددة، النقل، الزراعة الرقمية، المناطق الصناعية، والتكنولوجيات الحديثة، لتعزيز موقع الجزائر في قلب التحولات الاقتصادية الإقليمية

من أبرز الأرقام التي تدعم هذا التحوّل: سجلت وكالة الترويج للاستثمار الجزائرية (AAPI) أكثر من 11.780 مشروع استثماري بحجم مالي يفوق 4.73 تريليون دينار جزائري بنهاية سنة 2024، من شأنها خلق ما يقارب 285 ألف منصب شغل. كما خصصت الدولة أكثر من 5.969 مليار دينار جزائري لتمويل 267 مشروعا في 11 قطاعا ضمن قانون المالية لسنة 2025، تشمل النقل، التهيئة، الإسكان والطاقة. وارتفع الناتج الداخلي الخام الاسمي بنسبة 7.2 في المئة سنة 2024 ليبلغ نحو 36.103.5 مليار دينار جزائري، مع تطور القطاع غير النفطي بنسبة 4.8 في المئة. وتتوقّع الحكومة تحقيق معدل نمو قدره 4.5 في المئة سنة 2025، مع توسّع متوقّع في القطاع الصناعي بنسبة 6.2 في المئة والزراعة بنسبة 4.4 في المئة.

في هذا الإطار، قال الخبير الاقتصادي الجزائري الدكتور عرقوب واعلي في حديثه لـ"الأيام نيوز": "الجزائر تخوض اليوم معركة التنمية بعقلية التخطيط الاستراتيجي لا بعقلية إدارة الأزمة، فالمشاريع الخمسون الجاري تنفيذها تمثل قاطرة التحول الاقتصادي الحقيقي، وتؤشر إلى دخول الجزائر مرحلة الإنتاج المتنوّع التي لم تعد فيها البلاد رهينة لعائدات الطاقة فقط".

الخبير الاقتصادي الجزائري الدكتور عرقوب واعلي

وأضاف: "هذه المشاريع تعبّر عن نضوج الرؤية الاقتصادية للسلطات، التي انتقلت من التفكير في المشاريع الظرفية إلى هندسة اقتصاد إنتاجي مستدام يخلق الثروة ويوفّر مناصب الشغل".

تنوع المشاريع يعكس شمولية الخطة. ففي قطاع الطاقة، أعلنت الحكومة عن خطط استثمار بقيمة 60 مليار دولار على مدى خمس سنوات (2025-2029)، خصص 80 في المئة منها للاستكشاف والإنتاج، و20 في المئة للتكرير والبتروكيميائيات. وفي القطاع الزراعي والغذائي، أطلقت الجزائر مشروعا في منطقة أدرار بالشراكة مع قطر لتغطية نحو 50 في المئة من استهلاك البلاد من مسحوق الحليب، مع خلق خمسة آلاف وظيفة مباشرة.

تعكس هذه الأرقام والمشاريع تحولا واضحا في ديناميكيات الاقتصاد الجزائري. فبعد عقود من الاعتماد على صادرات الهيدروكربونات، أصبحت الرؤية اليوم قائمة على خلق القيمة المضافة محليا، وبناء سلاسل إنتاج وتصدير تحقق أهداف السيادة الاقتصادية. كما أن الحركية الاستثمارية الملموسة أعادت للمواطن الإحساس بالتنمية الواقعية في مجالات العمل والبنية التحتية، بعدما كانت التنمية محصورة في الخطابات والتوقعات.

ورغم هذه المكاسب، يبقى التحدي مزدوجا: تسريع وتيرة التنفيذ وضمان إدارة مالية فعالة تُمكّن المواطنين والجهات المحلية من الاستفادة الفعلية، مع ضرورة قياس أثر المشاريع على التوازن الجهوي، والبطالة، خاصة بين الشباب، والتصدير. وتشير التقديرات إلى أن معدل البطالة قد يبلغ نحو 11.38 في المئة سنة 2025، وفق بيانات مؤسسات اقتصادية.

وقال الخبير عرقوب واعلي إن سنة 2025 تمثل محطة مفصلية في مسار الجزائر التنموي، موضحا: "المشاريع الخمسون تنطلق كمختبر لمرحلة إنتاجية جديدة، وإذا نجحت الدولة والمجتمع المدني في ترجمتها إلى نتائج ملموسة – مصانع عاملة، صادرات متنامية، وظائف منتجة – فسيُكتب لهذا العقد أن يكون زمن بناء ليس فقط لبنية تحتية، بل لبنية مستقبل. أما إذا تعثرت، فستبقى الخمسون مشروعا عنوانا مفتوحا أمام سؤال: هل أكملت الجزائر تحولها أم تكاد؟".

على أعتاب اقتصاد المستقبل.. الصناعة والزراعة والرقمنة تصنع الثروة الجديدة

ويشير هذا التحول إلى أن الجزائر لم تعد تكتفي بتنفيذ المشاريع الكبرى، بل بدأت تنتقل تدريجيا إلى عقلية التخطيط الاستراتيجي طويل المدى. هذا التحول يفتح المجال أمام آراء المحللين حول مدى قدرة المشاريع على تحويل الرؤية الاقتصادية إلى واقع ملموس. في هذا السياق، يرى المحلل الاقتصادي المصري الدكتور خالد التركاوي أن المشاريع الخمسين الاستراتيجية تعبّر عن إرادة سياسية واضحة لانتقال البلاد من منطق الريع إلى اقتصاد إنتاجي متنوع، مؤكدا أن نتائجها بدأت تظهر تدريجيا على أرض الواقع.

الدكتور خالد التركاوي _مصر 

يؤكد الدكتور التركاوي أن الجزائر لم تعد تنظر إلى النفط والغاز بوصفهما نهاية الثروة، بل وسيلة لتمويل اقتصاد متعدد الروافد يقوم على الصناعة والزراعة والرقمنة والطاقات المتجددة. ويضيف أن الدولة الجزائرية وضعت لأول مرة منذ عقود هدفا واضحا يتمثل في تحقيق السيادة الاقتصادية، وهو ما يتطلب تحويل الموارد الريعية إلى استثمارات إنتاجية تخلق الثروة وفرص العمل وتعيد توزيعها بعدالة بين مختلف المناطق. في هذا السياق، تشير بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج الداخلي للقطاعات غير النفطية عرف نموا بلغ 4.8 في المئة سنة 2024، وأن صادرات الجزائر خارج المحروقات ارتفعت إلى أكثر من خمسة مليارات دولار سنة 2023 بعد أن تضاعفت خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهو ما يعكس بداية حقيقية لمرحلة التنويع الاقتصادي.

ويشرح التركاوي أن هذه المؤشرات لا تعني فقط نموا في الأرقام، بل تحولا في فلسفة الدولة الاقتصادية، حيث لم تعد الجزائر تكتفي بإدارة الأزمة، بل انتقلت إلى عقلية التخطيط الاستراتيجي الطويل المدى. ويضيف أن التوجه نحو مشاريع الحديد والفوسفات والمناطق الصناعية الجديدة يمثل خطوة مدروسة لبناء قاعدة إنتاجية قادرة على الصمود في وجه تقلبات الأسواق العالمية، كما أن التركيز على الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر يعكس وعيا متزايدا بضرورة الانفتاح على اقتصاد المستقبل الذي لا يقوم على الوقود الأحفوري فقط.

ويرى المحلل المصري أن ما يميز التجربة الجزائرية في المرحلة الراهنة هو تزامن الإصلاح الاقتصادي مع الإرادة السياسية، وهو ما جعل الإصلاحات أكثر مصداقية. فالقوانين الجديدة للاستثمار، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتطوير الموانئ والمناطق الصناعية، كلها خطوات حولت البيئة الاستثمارية إلى فضاء أكثر جاذبية، خصوصا في ظل استقرار المؤشرات الكلية وتراجع التضخم إلى حدود أربع في المئة سنة 2024. ومع ذلك، يشير إلى أن الطريق لا يزال طويلا، فنجاح التحول الاقتصادي مرهون بسرعة التنفيذ وكفاءة التسيير وقدرة الدولة على تحويل المشاريع من قوائم إعلانات إلى مؤسسات منتجة ومصدّرة.

ويحذر التركاوي من أن خطر العودة إلى منطق الريع يظل قائما إذا لم تتمكن الجزائر من ترسيخ قاعدة إنتاجية متكاملة، قائلا: "المعركة الحقيقية ليست ضد النفط بل في كيفية استخدامه كرافعة لبناء اقتصاد بديل ومستدام". فكل مشروع صناعي أو فلاحي أو رقمي يتحول إلى مساحة لتحرير الثروة الوطنية من التبعية للأسواق الخارجية. ويضيف أن نجاح هذا النموذج الجديد سيسمح للجزائر بأن تصبح قوة إقليمية اقتصادية قادرة على تصدير منتجاتها الصناعية والغذائية إلى إفريقيا والمتوسط، مستفيدة من موقعها الجغرافي وشبكتها اللوجستية المتنامية مثل ميناء الحمدانية والطريق العابر للصحراء.

وبالنسبة للدكتور التركاوي، فإن سنة 2025 تمثل لحظة اختبار حقيقية، فهي السنة التي سيبدأ فيها مردود المشاريع الكبرى بالظهور في شكل مصانع تعمل وشركات تصدر وسلع جزائرية تنافس في الأسواق الإقليمية. ويرى أن الجزائر إذا واصلت بنفس الوتيرة التنظيمية والتمويلية، فستتمكن في غضون خمس سنوات من رفع صادراتها غير النفطية إلى أكثر من عشرين مليار دولار، وهو ما سيشكل نقطة تحول في تاريخ اقتصادها الحديث. ويضيف أن الأهم من الأرقام هو استعادة الثقة بين المواطن والدولة، فالمواطن اليوم يقيس التنمية بما يراه من إنجازات ميدانية لا بما يسمعه من وعود.

ويشير التركاوي إلى أن الجزائر تمتلك كل المقومات للنجاح، من ثروات طبيعية هائلة إلى طاقات بشرية شابة، لكنها تحتاج إلى ضمان استمرارية الإصلاحات وتحصينها من البيروقراطية. ويشدد على أن المعركة القادمة هي معركة الكفاءة والحوكمة، فاقتصاد الإنتاج لا يقوم فقط على المصانع، بل على العقلية التي تديرها. ويضيف أن الدولة الجزائرية بدأت بالفعل في بناء هذه القاعدة الجديدة من خلال رقمنة الإدارة، وتشجيع المبادرات الخاصة، وربط الجامعة بسوق العمل.

ويختم المحلل المصري تصريحه بالتأكيد على أن الجزائر تسير في الاتجاه الصحيح، قائلا: "تجربة الجزائر تستحق المتابعة لأنها تقدم نموذجا لدولة عربية وإفريقية قررت أن تبني ثروتها بعقلها وسواعدها، لا بما تجود به الأسواق النفطية". ويضيف: "التحرر من عباءة النفط ليس قرارا اقتصاديا فحسب، بل خيار سيادي يعيد تعريف مفهوم الاستقلال في القرن الحادي والعشرين. فاقتصاد الإنتاج الذي تسعى إليه الجزائر هو مشروع وطني شامل، يربط بين العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية، ويضع الإنسان في قلب التنمية، وهو ما يجعل سنة 2025 بداية لعقد جديد في مسار بناء الجزائر القوية والمستقلة بثروتها الحقيقية: العمل والإنتاج".

الجزائر 2030 تبدأ من اليوم.. بناء اقتصاد منتج يحرر القرار الوطني

ويبدو واضحا من خلال ما سبق أن الجزائر تخطو بخطوات مدروسة نحو اقتصاد إنتاجي متكامل، يتجاوز مجرد إدارة المشاريع الكبرى إلى بناء رؤية استراتيجية طويلة المدى. فالإنجازات الملموسة على الأرض، من تطوير البنية التحتية إلى تفعيل استثمارات متعددة القطاعات، تعكس اهتمام الدولة بخلق نظام اقتصادي مترابط ومستدام، قادر على تعزيز السيادة الوطنية وتقليل الاعتماد على الخارج. وفي هذا السياق، تأتي تحليلات الخبراء لتوضح تفاصيل هذه الاستراتيجية، ومن بينها ما توضحه الخبيرة الاقتصادية المصرية باولا عطية في حديثها لـ"الأيام نيوز"، إذ تؤكد أن الجزائر "اختارت طريقا صعبا لكنه ضروري، يتمثل في تحويل المشاريع الكبرى من مجرد أدوات للبناء إلى أدوات للسيادة"، مشيرة إلى أن "ميناء الحمدانية، مشروع الفوسفات المندمج، الطريق العابر للصحراء، والمركبات الصناعية الجديدة ليست مشاريع معزولة، بل مكونات لخطة اقتصادية وطنية تهدف إلى تحرير الجزائر من التبعية للأسواق الأجنبية".

الخبيرة الاقتصادية المصرية باولا عطية

وتضيف عطية أن هذا التحول يمثل قطيعة مع السياسات الريعية التي حكمت الاقتصاد الجزائري لعقود، حيث أصبح التركيز اليوم على خلق القيمة المضافة داخل البلاد. فمشروع ميناء الحمدانية في شرشال، الذي وصلت نسبة إنجازه إلى أكثر من 60 في المئة، ليس مجرد بنية تحتية بحرية، بل منصة لوجستية ضخمة ستربط إفريقيا بالمتوسط وتجعل من الجزائر أحد الممرات التجارية الحيوية في المنطقة. وتشير الخبيرة إلى أن هذا الميناء، الذي سيتسع لأكثر من 25 مليون طن سنويا، سيقلص التبعية للموانئ الأجنبية، خاصة ميناء طنجة المتوسط، وسيسمح للجزائر بتصدير منتجاتها الصناعية والفلاحية مباشرة نحو أوروبا وإفريقيا، ما يعني استقلالا تجاريا متدرجا عن المراكز اللوجستية الأجنبية.

أما مشروع الفوسفات المندمج في ولاية تبسة، الذي يُعد من أكبر المشاريع المنجمية في إفريقيا، فيهدف إلى تحويل الجزائر إلى أحد أبرز مصدري الأسمدة في العالم. وتوضح عطية: "إن القيمة الاقتصادية لهذا المشروع لا تكمن في استخراج المادة الخام فقط، بل في التصنيع المحلي الكامل للفوسفات وتحويله إلى أسمدة جاهزة للتصدير.

بهذا الشكل، تخرج الجزائر من دائرة تصدير المواد الأولية إلى بناء صناعة تحويلية تحقق مداخيل مضاعفة وتفتح آلاف مناصب العمل". وتشير إلى أن المشروع، الذي تقدر قيمته الاستثمارية بأكثر من 6 مليارات دولار، سيسمح بإيرادات سنوية تفوق 2 مليار دولار بمجرد دخوله مرحلة الإنتاج الكامل، وهو ما يعزز احتياطي الصرف ويقلل العجز في الميزان التجاري.

ومن المشاريع ذات البعد الاستراتيجي أيضا الطريق العابر للصحراء، الذي يمثل جسرا اقتصاديا يربط الجزائر بعمقها الإفريقي. وتوضح عطية: "هذا الطريق، الذي يمتد على أكثر من 4 آلاف كيلومتر من الجزائر العاصمة إلى لاغوس في نيجيريا، يحول الجغرافيا إلى اقتصاد، ويفتح أمام الجزائر آفاقا تجارية غير مسبوقة مع أكثر من 400 مليون مستهلك في غرب إفريقيا". وتضيف: "الجزائر تتحول من بلد شمالي متوسطي إلى محور قاري يجمع بين البحر والصحراء، بين الأسواق الإفريقية والموانئ الأوروبية"، معتبرة أن هذا التحول الجيو-اقتصادي يعيد رسم موقع الجزائر في الخريطة التجارية الدولية.

وفي السياق الصناعي، ترى عطية أن المركبات الصناعية الجديدة، مثل مركب الحديد والصلب في بلارة ومشاريع صناعة السيارات والميكانيك الدقيقة، تمثل بداية حقيقية لاقتصاد الإنتاج المحلي. وتقول: "هذه المشاريع تحرك عجلة التصنيع الوطني بعد سنوات من التوقف، وتضع الجزائر على مسار الصناعات الثقيلة التي تشكل عماد أي اقتصاد سيادي". وتشير إلى أن مركب بلارة في جيجل، الذي تبلغ طاقته الإنتاجية مليوني طن سنويا، لم يعد مجرد مصنع، بل قاعدة صناعية تمكّن الجزائر من التحكم في سلسلة القيمة المعدنية دون الحاجة إلى استيراد المواد نصف المصنعة.

وتوضح الخبيرة الاقتصادية أن ما يميز هذه المشاريع ليس حجمها فقط، بل تكاملها ضمن رؤية شاملة تتجه نحو ما تسميه "اقتصاد الاكتفاء الذاتي الديناميكي". وتقول: "كل مشروع من المشاريع الخمسين يخدم الآخر بطريقة غير مباشرة: الموانئ تسهل التصدير، والطرق تربط المناطق الصناعية بالأسواق الإفريقية، والمناجم تزود المصانع بالمواد الأولية، بينما الطاقات المتجددة توفر الطاقة النظيفة لتشغيلها". وتعتبر أن هذه الرؤية التكاملية "هي التي تمنح الجزائر فرصة فريدة لتحقيق السيادة الاقتصادية الحقيقية خلال العقد القادم".

من زاوية أخرى، تشير عطية إلى أن هذه المشاريع تمثل أيضا تحولا في فلسفة الدولة، إذ انتقلت من دور الممول إلى دور الموجه والمحفز. فالاستثمار العمومي أصبح رافعة لجذب القطاع الخاص والشراكات الأجنبية المتوازنة. وتضيف: "ثمانية عشر مشروعا من بين الخمسين تُنفذ بشراكات دولية مع شركات من الصين وإيطاليا وألمانيا وتركيا، لكن بشروط جزائرية صارمة تضمن نقل التكنولوجيا وتكوين الكفاءات المحلية". وتؤكد: "الجزائر لم تعد تكتفي بشراء التكنولوجيا، بل تسعى لامتلاكها، لأن الاستقلال الاقتصادي يبدأ من الاستقلال التكنولوجي".

وترى الخبيرة أن سنة 2025 ستكون نقطة الانطلاق الفعلية لرؤية الجزائر 2030، حيث سيبدأ مردود هذه المشاريع في الظهور من خلال ارتفاع الناتج الداخلي الخام الصناعي بنسبة متوقعة تصل إلى 7 في المئة، وتراجع الواردات الصناعية بنسبة 15 في المئة. وتشير إلى أن هذه المؤشرات ستنعكس مباشرة على العملة الوطنية والميزان التجاري، مما يمنح الجزائر هامشا أوسع في سياستها الاقتصادية الخارجية.

وفي المقابل، تحذر عطية من أن النجاح الكامل لهذا المسار يتطلب تسييرا فعالا وشفافية صارمة في التنفيذ والمتابعة، لأن المشاريع الكبرى يمكن أن تتحول إلى عبء إذا لم تُدار بكفاءة. وتوضح: "الرهان الأكبر ليس في إنجاز البنى التحتية، بل في إدارتها وصيانتها وتكييفها مع التغيرات الاقتصادية العالمية". وتشير إلى أن الدولة بدأت تعي ذلك من خلال إطلاق منصات رقمية لمتابعة تقدم المشاريع ميدانيا وربطها مباشرة برئاسة الحكومة لضمان السرعة والرقابة.

وتختتم الخبيرة الاقتصادية المصرية حديثها بالتأكيد على أن الجزائر "تخطو بثقة نحو مرحلة السيادة الاقتصادية الفعلية"، معتبرة أن "المشاريع الكبرى هي العمود الفقري لاستقلال القرار الوطني في عالم لا يحترم إلا من يملك قوته الإنتاجية". وتضيف أن الجزائر بهذا النهج تبعث رسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن زمن التبعية انتهى، وأن الاقتصاد الجزائري دخل عصر السيادة الفعلية، لا بالخطابات ولا بالاحتياطي النفطي، بل بقدرة الدولة على تحويل الثروة إلى إنتاج، والمشاريع إلى سياسات واقعية، والمستقبل إلى صناعة وطنية متكاملة.

التنمية الجهوية في قلب التحول.. الجنوب والهضاب يدخلان دورة الإنتاج الوطني

وإذا كانت الخبيرة باولا عطية قد تناولت البعد الكلي للمشاريع الكبرى بوصفها رافعة للسيادة الاقتصادية، فإن ترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع تتجسد في بعدها الجهوي والتنمية الميدانية المتوازنة. فمفهوم السيادة في النموذج الجزائري لا يقتصر على التحكم في الثروة والإنتاج، بل يمتد إلى تحقيق عدالة توزيع التنمية بين مختلف المناطق، بما يجعل الجنوب والهضاب جزءا فاعلا من الحركية الاقتصادية الوطنية.

من هذا المنطلق، يبرز البعد الإقليمي كأحد ركائز الرؤية الاقتصادية الجديدة، وهو ما أوضحه في حديثه لـ"الأيام نيوز" الخبير في التنمية الإقليمية الأستاذ نميري عز الدين، معتبرا أن "ما تقوم به الجزائر في السنوات الأخيرة يمثل ثورة تنموية هادئة، هدفها الأساسي تفكيك مركزية الثروة وبناء اقتصاد جهوي متوازن". ويرى أن "المشاريع الكبرى التي تُنجز في الجنوب والهضاب ليست مجرد منشآت عمرانية، بل أدوات لتأسيس استقلال اقتصادي محلي يرسخ السيادة الوطنية على كامل التراب".

في هذا السياق، تشهد مناطق الجنوب ديناميكية غير مسبوقة بفضل مشاريع بنية تحتية عملاقة تربطها بالشمال، على غرار الطريق العابر للصحراء الذي يشكل شريانا اقتصاديا يصل الجزائر بدول الساحل وإفريقيا الوسطى، إضافة إلى مشاريع الطاقة الشمسية التي تستثمر الإمكانات الطبيعية الهائلة لتلك المناطق. وتتواصل الجهود أيضا لتطوير مناطق صناعية جديدة في ولايات أدرار وتمنراست وإليزي، مع توسعة شبكات النقل البري والجوي التي تسهم في دمج الجنوب في الدورة الاقتصادية الوطنية.

ويبرز الأستاذ نميري أهمية البنية التحتية في هذا التحول، موضحا أن "توسيع شبكة الربط الطرقي والسككي يشكل الخطوة الأولى نحو تنمية متوازنة، لأن العزلة الجغرافية كانت أحد أبرز أسباب التفاوت في التنمية"، لافتا إلى أن "الطريق العابر للصحراء، الذي يمتد لأكثر من 4800 كيلومتر، ليس مجرد مشروع نقل، بل ممر استراتيجي سيغير وجه الجنوب ويفتح آفاقا واسعة للتجارة البينية الإفريقية، خاصة في ظل تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية".

أما في الهضاب العليا، فقد عرفت مدن مثل الجلفة وسطيف والأغواط تحولات نوعية جعلتها مراكز صناعية وزراعية صاعدة، بفضل الاستثمارات الموجهة نحو الصناعات الغذائية والتحويلية. وتشكل مشاريع استصلاح الأراضي الزراعية والمجمعات الفلاحية المتكاملة نموذجا لتوجه الدولة نحو تحقيق الأمن الغذائي وتقليص الاعتماد على الواردات، مدعومة بشبكات السقي والطاقات المتجددة التي جعلت من الهضاب فضاء لتجربة تنموية جديدة تمزج بين الفلاحة والصناعة والخدمات اللوجستية.

ويعتبر الأستاذ نميري أن "التنمية في الجنوب والهضاب ليست مجرد بناء طرق ومصانع، بل بناء ثقة متبادلة بين المواطن والدولة"، مشيرا إلى أن "إشراك المجتمعات المحلية في صياغة المشاريع التنموية جعل المواطن شريكا لا متلقيا، وهو ما يفسر تزايد المبادرات الاستثمارية الخاصة في هذه المناطق".

الدكتور نميري عز الدين _الجزائر

ويضيف أن هذه المقاربة تعكس نضجا في الرؤية السياسية التي انتقلت من التركيز على المشاريع الرمزية إلى المشاريع المنتجة التي تخلق فرص عمل وتحد من البطالة.

وتؤكد بيانات وزارة الداخلية والجماعات المحلية هذا التحول، حيث ارتفعت نسبة الاستثمارات المنجزة في الجنوب والهضاب بأكثر من 60 بالمئة بين سنتي 2021 و2025، وتجاوز عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في هذه المناطق 70 ألف مؤسسة، ما يعكس نشوء اقتصاد محلي متنوع. كما أسهمت سياسة التحفيزات الجبائية وتسهيل الحصول على العقار الصناعي في خلق بيئة استثمارية أكثر جاذبية لرؤوس الأموال الوطنية والأجنبية على حد سواء.

ولم تقتصر التنمية على الجانب الاقتصادي فحسب، بل شملت أيضا البعد الاجتماعي، إذ شهدت قطاعات السكن والتعليم والصحة قفزة نوعية مع إنجاز أكثر من 250 مؤسسة تربوية جديدة، إلى جانب مستشفيات ومراكز جامعية حديثة منذ عام 2022، مما يعزز بناء مجتمع منتج ومتوازن يقلص من نزوح الشباب نحو الشمال.

ويرى الأستاذ نميري أن "المعادلة التي تعمل عليها الجزائر اليوم تقوم على أن التنمية لا تكون وطنية إلا إذا كانت جهوية في آن واحد"، موضحا أن الجنوب لم يعد فضاء تابعا للقرار المركزي، بل أصبح فاعلا اقتصاديا بحد ذاته. ويشير إلى أن المشاريع الكبرى في تمنراست وبشار وإليزي تسهم في خلق محاور اقتصادية بديلة تدعم التوازن الجغرافي وتخفف الضغط عن المدن الساحلية.

وتبرز في هذا الإطار السياسة الجديدة لتوطين المؤسسات العمومية والخاصة في المناطق الداخلية كآلية فعالة لإعادة توزيع النشاط الاقتصادي. فقد وضعت وزارة الصناعة مخططا لتوجيه نحو 35 بالمئة من الاستثمارات الصناعية الجديدة إلى الولايات الداخلية، خصوصا تلك التي تتمتع بموارد طبيعية وموقع استراتيجي. كما أطلقت الحكومة برنامج "تنمية الأقاليم المتأخرة" لتحقيق العدالة المجالية عبر تطوير البنى التحتية الرقمية والطاقة النظيفة وتحسين الخدمات الأساسية.

ويخلص الأستاذ نميري إلى أن "إعادة توزيع الثروة لا تعني فقط نقل الاستثمارات، بل نقل القرار الاقتصادي نفسه إلى الجهات"، مشددا على أن اللامركزية الاقتصادية أصبحت أداة لتعزيز الانتماء الوطني وترسيخ الوحدة الداخلية، لأنها تجعل كل منطقة شريكا في صناعة المستقبل لا مجرد متلق للسياسات.

وهكذا، تبدو الجزائر وهي تواصل تنفيذ خططها التنموية في الجنوب والهضاب وكأنها تعيد تعريف مفهوم السيادة الاقتصادية ليصبح شاملا ومتجذرا في كل منطقة من مناطقها. فبقدر ما تستثمر الدولة في البنى التحتية والموارد، تستثمر أيضا في الإنسان بوصفه جوهر التنمية وغايتها. وفي ظل هذا التحول، تمثل سنة 2025 نقطة انطلاق لعقد جديد من العدالة التنموية التي ستجعل من الجغرافيا الواسعة للجزائر مصدر قوة اقتصادية واجتماعية متكاملة.