في ظلّ التحوّلات المتسارعة التي يعيشها العالم المعاصر، تتقدّم قضية ذوي الهمم إلى الواجهة بوصفها امتحانًا حقيقيًّا لمدى إنسانية المجتمعات ورقيّها. فالمجتمع الذي يُقصي المختلفين أو يتعامل معهم بعين الشفقة لا بعين النديّة، يبقى مجتمعًا عاجزًا عن إدراك عمق الإنسان، وعن فهم القيمة الكاملة للثقافة والمعرفة بوصفهما حقًّا لا امتيازًا. إنّ ذوي الهمم، وهم من اعتاد البعض تسميّتهم بـ"ذوي الاحتياجات الخاصة"، يشكّلون طيفًا واسعًا من الطاقات الإنسانية الكامنة، التي تحتاج فقط إلى من يؤمن بها ويمنحها الفرصة للتعبير والمشاركة والإبداع.
الأدب، وهو الذاكرة الحسّاسة للإنسانية، لم يكن يومًا بعيدًا عن القضايا التي تمسّ الإنسان في ضعفه وقوّته معًا. ومع ذلك، فإنّ حضور ذوي الهمم في الأدب العربي والعالمي لا يزال حضورًا خجولًا، أو مقصورًا على نماذج رمزية تُستعمل لتجسيد العجز أو الألم، أكثر مما تُستعمل لتجسيد الإرادة والخلق. فغالبًا ما يظهر الأعمى في القصص بوصفه حكيمًا يرى ببصيرته ما لا يراه المبصرون، أو يظهر المُقعَد كرمز للجمود، أو الأصمّ كرمز للعزلة، من غير أن يُمنح هؤلاء مساحة الحياة اليومية العادية التي يعيشها أيّ إنسان، ولا أن يُقدَّموا بوصفهم أبطالًا إيجابيين متعدّدي الأبعاد.
ولئن كان للأدب وظيفة جمالية، فإن له أيضًا وظيفة إنسانية، تتجلى في إعادة الاعتبار لمن حُرموا من أدوات التعبير. فالكتابة عن ذوي الهمم لا ينبغي أن تكون مجرّد ممارسة تعاطفيّة، بل فعلًا نقديًّا يخلخل صورة "الاختلاف" الراسخة في الوعي الجمعي. إنهم لا يحتاجون إلى أدب يتحدّث عنهم من الخارج، بل إلى أدب يتوجّه إليهم، ويخاطب وجدانهم واحتياجاتهم الخاصة، بلغة تحترم خصوصيتهم وتحفّز قدرتهم على المشاركة في فعل المعرفة ذاته.
من هنا تبرز أهمية التفكير في أدبٍ موجّهٍ إلى ذوي الهمم، لا بوصفه ترفًا ثقافيًّا، بل بوصفه ضرورة أخلاقية وتربوية. فكما للطفل أدبه الذي يُراعي عالمه الإدراكي والنفسي، ينبغي أن يكون لذوي الهمم أدبٌ يأخذ في الاعتبار طبيعة إعاقتهم، ويستعمل مفردات وصورًا لا تثير فيهم الشعور بالنقص أو الشفقة، بل تدعم ثقتهم بذواتهم وتشجّعهم على الخلق والمبادرة. فالكتابة الموجّهة إلى من فقد بصره مثلًا، يجب أن تُصاغ بطريقة تتيح له تذوّق الصورة السمعية والإيقاع الداخلي للنص، في حين أن الكتابة لمن يعانون صعوبات حركية أو إدراكية تحتاج إلى قوالب تفاعلية وأدوات سمعية وبصرية تتلاءم مع قدراتهم.
وقد شهد العالم في السنوات الأخيرة خطوات إيجابية على هذا الصعيد، تمثّلت في انتشار الكتب الناطقة والمكتبات السمعية والبصرية، التي فتحت أبواب المعرفة أمام فئاتٍ كانت محرومة من القراءة. غير أنّ الإشكال لا يزال قائمًا في أن معظم هذه الكتب يُختار محتواها من قِبل "الأصحّاء"، من دون استشارة القرّاء الذين خُلقت لأجلهم، وكأننا نعيد إنتاج العلاقة نفسها بين المركز والهامش. فالواجب لا يقف عند تحويل النصوص إلى صوت، بل يتعدّاه إلى مشاركة ذوي الهمم أنفسهم في صناعة المعرفة، سواء عبر اقتراح الموضوعات، أو المساهمة في التأليف، أو إنتاج محتوى يُعبّر عن رؤيتهم وتجربتهم.
إنّ حضور ذوي الهمم في الثقافة لا يتحقق إلاّ بالانتقال من منطق "التمثيل" إلى منطق "المشاركة". فحين نكتب عنهم فقط، نُبقيهم موضوعًا للتأمل أو للشفقة، لكن حين نكتب لهم وبهم، نفتح أمامهم أفق الفعل والمبادرة والإبداع. وهنا تتضاعف مسؤولية الأدباء والكتّاب الذين يمتلكون الكلمة وحرارة التأثير، إذ تقع على عاتقهم مهمة تغيير الوعي الجمعي تجاه الإعاقة، وتقديمها بوصفها اختلافًا إنسانيًا لا ينتقص من القيمة، بل يُثري التنوع البشري.
فالأدب الذي يحتضن المختلف هو الأدب الذي يتّسع للعالم كله. وهو لا يكتفي بأن يُعرّف ذوي الهمم إلى اللغة، بل يعرّف المجتمع بأسره إلى إنسانيته من جديد. ومن هنا تتجلى أهمية إدماج ذوي الهمم في المشاريع الثقافية والتعليمية، لا بوصفهم متلقين فقط، بل شركاء في صناعة الفكر والإبداع. فحين يُتاح لهم أن يقرأوا ويكتبوا ويعبّروا، يصبح الأدب وسيلة للشفاء والتمكين معًا، وتتحوّل الثقافة إلى جسرٍ يربط التجارب الإنسانية المختلفة بدل أن يفصل بينها.
إنّ مسؤولية الأدب تجاه ذوي الهمم ليست خيارًا جانبيًّا، بل جزءًا من مسؤولية الإنسان تجاه ذاته. فبقدر ما نمنح الكلمة لمن لا يُسمَع صوتهم، نرتقي بالمعنى وبالضمير. وحين يجد ذوو الهمم أنفسهم في النصوص، لا كرموزٍ للعجز، بل ككائناتٍ كاملة الإرادة والحق، يصبح الأدب فعل حياةٍ حقيقي، لا مجرّد لعبة لغوية أو ترف ثقافي.

