2025.11.11
رسالة موسكو الى الجزائر..  صداقة فوق سحابة الظروف سياسة

رسالة موسكو الى الجزائر.. صداقة فوق سحابة الظروف


ربيعة خطاب
03 نوفمبر 2025

بعيدا عن اللغة البروتوكولية الجافة والخطاب الدبلوماسي المألوف، جاءت رسالة التهنئة التي تلقّاها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون من نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بمناسبة الذكرى الـ71 لاندلاع الثورة التحريرية المباركة، لتعبّر عن عمق العلاقة التاريخية بين موسكو والجزائر وتجدد وهجها. فقد اختار بوتين كلماته بعناية، لتعكس تقديرا خاصا لتجربة الجزائر في مسيرة التحرر الوطني واستقلالية القرار، ماضيا وحاضرا، ويبرز في الوقت ذاته وعيا روسيا متجددا بالدور المتنامي الذي تضطلع به الجزائر في معادلات الأمن الإقليمي والتوازنات الدولية.

يقول الخبير الروسي، ديمتري بريجع، الباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية بموسكو، في تصريح خاص لـ"الأيام نيوز"، حول هذه الرسالة: "إن إشادة الرئيس بوتين بتطور العلاقات مع الجزائر ليست مجرد تهنئة رمزية، بل هي تعبير صريح عن رؤية الكرملين للجزائر كشريك استراتيجي مستقل قادر على الموازنة بين الانفتاح على الغرب والتمسك بثوابته السيادية. فموسكو تدرك أن الجزائر اليوم أصبحت من القوى الإقليمية التي يمكن الاعتماد عليها في ملفات معقّدة مثل ليبيا، والساحل الإفريقي، والطاقة، وحتى في مداولات الأمم المتحدة المرتبطة بإصلاح النظام الدولي".

هذا التصريح يكشف بوضوح أن العلاقات الجزائرية الروسية تشهد مرحلة نضج جديدة، تقوم على تبادل المصالح والاحترام المتبادل لا على التبعية أو الاصطفاف. فمنذ توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية في 2001، ظل التعاون بين البلدين يتوسع بشكل لافت في مجالات الدفاع والطاقة والتعليم العالي والتكنولوجيا، غير أن المرحلة الحالية، بحسب بريجع، "تتميّز بتوجه موسكو نحو بناء أقطاب متعدّدة لمواجهة الهيمنة الأحادية، والجزائر تُمثّل في هذا التوجه محورا متوازنا، يجمع بين التاريخ الثوري والموقع الجيوسياسي الحيوي".

ويضيف الباحث الروسي أن الجزائر بالنسبة لموسكو ليست فقط بوابة نحو إفريقيا، بل نموذج لدولة تجمع بين الاستقرار السياسي والقدرة على الحوار مع الجميع دون الارتهان لأي محور. وهذا ما يجعلها، في نظر الدبلوماسية الروسية، شريكا موثوقا في القضايا الإقليمية التي تتطلب وساطات هادئة ورؤى غير منحازة، مثل الأزمة في النيجر أو الملف الفلسطيني أو التوازنات داخل منظمة أوبك+.

من جهة أخرى، فإن التهنئة الروسية في ذكرى نوفمبر لا تنفصل عن بعدها الرمزي، إذ يرى بريجع أنها "تذكير للعالم بأن روسيا تحترم الذاكرة التحررية للشعوب، والجزائر من بين الأمم التي استطاعت أن تُجسّد قيم المقاومة والكرامة التي تتقاطع مع الموروث التاريخي الروسي في مواجهة الاستعمار والهيمنة".

وبين الدلالات السياسية والرمزية، تبرز الرسالة كإشارة واضحة إلى رغبة موسكو في ترسيخ محور تعاون متوازن في ظل المتغيرات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، لاسيما في إفريقيا والشرق الأوسط. فالرئيس بوتين، أراد أن يُرسل إشارة صداقة مشحونة بالثقة المستقبلية، مفادها أن العلاقات بين البلدين باتت جزءا من هندسة جديدة للعلاقات الدولية، تُبنى على الشراكة لا على الهيمنة، وعلى الذاكرة المشتركة لا على المصالح الظرفية.

بهذا المعنى، يمكن القول إن رسالة بوتين في ذكرى نوفمبر لم تكن فقط تهنئة دبلوماسية، بل بيانا رمزيا عن مرحلة جديدة في العلاقات الجزائرية الروسية، تُعيد فيها الجزائر تموضعها بوصفها فاعلا مستقلا يحظى بالاحترام، وتؤكد فيها موسكو أن صداقتها مع الجزائر ليست مرتبطة بالظرف، بل رهان استراتيجي يمتدّ إلى المستقبل.

الجزائر وروسيا.. 6 عقود من الثقة المتبادلة

تمتدّ جذور العلاقات الجزائرية الروسية إلى عمق التاريخ الحديث، إذ بدأت إرهاصاتها الأولى خلال حرب التحرير الوطني (1954-1962)، حين وجدت الثورة الجزائرية دعما سياسيا ومعنويا من الاتحاد السوفييتي آنذاك، الذي كان من أوائل القوى الكبرى التي دافعت عن حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره في المحافل الدولية. لم يكن هذا الموقف آنذاك مجرد تعاطف إيديولوجي، بل تعبيرا عن رؤية موسكو المناهضة للاستعمار وعن تقديرها لثورة جسدت مبادئ التحرر التي نادت بها الشعوب المستضعفة عبر العالم.

يقول البروفيسور نور الدين شعباني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر لـ"الأيام نيوز"، إن "المرحلة الأولى من التعاون الجزائري السوفييتي كانت تأسيسية، لأن موسكو لم تكتفِ بالدعم السياسي في الأمم المتحدة، بل قدّمت مساعدات ملموسة للحكومة الجزائرية المؤقتة، وساهمت في تدريب الكوادر والإطارات الجزائرية في المجالات التقنية والعسكرية". ويضيف أن هذا التعاون شكل نواة الثقة الأولى التي استمرت حتى بعد استقلال الجزائر في 1962.

بعد الاستقلال، انتقلت العلاقات الجزائرية-السوفييتية إلى مستوى الشراكة الرسمية، إذ أقام الاتحاد السوفييتي علاقات دبلوماسية مع الجزائر المستقلة في 23 مارس 1962، لتُفتح بذلك مرحلة جديدة من التعاون الواسع شملت مجالات الاقتصاد والدفاع والتعليم والطاقة. وخلال ستينيات القرن الماضي، اعتمدت الجزائر بشكل كبير على الخبرة السوفييتية في بناء جيشها الوطني الشعبي وتأسيس قواعدها الصناعية الأولى، على غرار مجمع الحديد والصلب في الحجار ومشاريع الطاقة في حاسي مسعود. وهكذا غدا الاتحاد السوفييتي الشريك الاقتصادي والعسكري الأبرز للجزائر طوال عقدي الستينيات والسبعينيات.

ويشير البروفيسور شعباني إلى أن التعاون العسكري كان أحد أعمدة هذه العلاقة، إذ "تكوّنت أجيال كاملة من ضباط الجيش الجزائري في الأكاديميات العسكرية الروسية، كما تمّ توقيع اتفاقيات لتوريد الأسلحة والمعدات التي مكّنت الجزائر من بناء قدراتها الدفاعية المستقلة بعيدا عن الهيمنة الغربية". ويضيف أن هذا الجانب ظلّ ثابتا في العلاقة بين البلدين حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991، حين سارعت روسيا الاتحادية إلى تأكيد التزامها بكل الاتفاقيات السابقة مع الجزائر، في خطوة وُصفت آنذاك بأنها دليل على استمرارية الصداقة التاريخية.

خلال تسعينيات القرن الماضي، ورغم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عرفها البلدان، استمرت العلاقات في حدودها الدنيا، لكنها استعادت زخمها مطلع الألفية الجديدة مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم، وبدء الجزائر مرحلة إصلاح اقتصادي وانفتاح دبلوماسي. فقد شهد عام 2001، توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وروسيا الاتحادية، والتي شكلت نقطة تحول حقيقية في مسار العلاقات الثنائية. ومنذ ذلك الحين، بدأت المشاريع المشتركة تتوسع لتشمل مجالات الطاقة والبحث العلمي والتكنولوجيا، إلى جانب التنسيق السياسي في القضايا الإقليمية والدولية.

ويرى البروفيسور شعباني أن "السنوات الأخيرة أظهرت انتقال العلاقة من مجرد تعاون تقني إلى تنسيق استراتيجي متبادل، خاصة بعد 2019، حين عبّر الرئيس عبد المجيد تبون في عدة مناسبات عن رغبة الجزائر في توسيع علاقاتها مع القوى الصديقة، وعلى رأسها روسيا، ضمن رؤية خارجية متوازنة ومستقلة".

وفي هذا السياق، تجلّت محطات مهمة عززت الثقة بين البلدين، من أبرزها زيارة الرئيس تبون إلى موسكو في جوان 2023، والتي تكللت بتوقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والعلمية والعسكرية الجديدة، إضافة إلى إنشاء آلية "اللجنة الحكومية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتقني"، التي فتحت المجال أمام استثمارات روسية في قطاعات الزراعة والطاقة والبحث العلمي.

كما يبرز التعاون بين الجزائر وروسيا في مجال الطاقة كأحد أعمدة الشراكة المستمرة، إذ تتقاطع مصالح البلدين داخل منظمة "أوبك+"، حيث تلعب الجزائر دورا متوازنا في دعم استقرار أسعار النفط بالتنسيق مع موسكو. وفي الجانب الأكاديمي، يواصل مئات الطلبة الجزائريين دراستهم في الجامعات الروسية في تخصصات العلوم والهندسة والتكنولوجيا، وهو ما يعزز البعد الثقافي والعلمي للعلاقات الثنائية.

وفي تحليله لمستقبل هذه العلاقات، يؤكد شعباني أن "التحالف الجزائري الروسي يكتسب اليوم أهمية مضاعفة في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، فالعالم يتجه نحو تعددية قطبية جديدة، والجزائر بما تملكه من استقلالية في القرار وموقع استراتيجي، تمثل شريكا موثوقا لروسيا في إفريقيا والمتوسط".

هكذا يمكن القول إن العلاقات الجزائرية الروسية ليست وليدة الظرف، بل هي امتداد لمسار تاريخي طويل من التضامن والتعاون المتبادل. من الدعم السياسي زمن الثورة، إلى الشراكة الصناعية والعسكرية بعد الاستقلال، وصولا إلى التنسيق الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين، تبقى هذه العلاقة واحدة من أكثر العلاقات الدولية استقرارا وتوازنا في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، عنوانها الدائم: الاحترام المتبادل والسيادة المشتركة في وجه كل أشكال الهيمنة.

نحو بناء توازن عالمي جديد على أسس العدالة

وإذا كانت العقود الماضية قد أرست أسس الثقة والتعاون بين الجزائر وروسيا على المستويين السياسي والعسكري، فإن الأعوام الأخيرة شهدت انتقال هذه العلاقة إلى مرحلة أكثر عمقا واتساعا. فقد تجاوز التعاون بين البلدين الطابع التقليدي إلى رؤية استراتيجية متكاملة تعكس تغير موازين القوى في العالم، وتستجيب للتحولات التي يشهدها النظام الدولي.

وفي هذا الإطار، يصرّح المحلل المصري المتخصص في الشؤون الإفريقية، الدكتور علي فوزي، لـ"الأيام نيوز"، بأن "الجزائر باتت تمثل بالنسبة لروسيا نقطة ارتكاز محورية في إفريقيا، تماما كما تمثل روسيا بالنسبة للجزائر ركيزة في موازين القوى الدولية". ويضيف أن موسكو تنظر إلى الجزائر كقوة إقليمية صاعدة تمتلك مقومات التأثير في ملفات استراتيجية مثل الساحل الإفريقي، وليبيا، وملف الطاقة في البحر المتوسط، مؤكّدا أن "الجزائر تجمع بين قوة الموقع الجغرافي وصلابة القرار السياسي، ما يجعلها شريكا طبيعيا في مشروع إعادة التوازن إلى النظام الدولي".

من جهته، يرى المحلل السياسي منصور قدور بن عطية أن "العلاقات الجزائرية الروسية تمر اليوم بأكثر مراحلها نضجا منذ استقلال الجزائر، إذ انتقلت من تعاون محدود إلى شراكة استراتيجية متكاملة تشمل الدفاع، والطاقة، والفضاء، والزراعة، والدبلوماسية متعددة الأطراف". ويضيف أن هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة التقاء رؤى البلدين حول قضايا السيادة، وضرورة كسر احتكار القرار الدولي من قبل القوى الغربية.

منذ توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وروسيا سنة 2001، سعت موسكو إلى ترسيخ حضورها في شمال إفريقيا من خلال الجزائر التي اعتبرتها شريكا موثوقا ومستقرا. ومع تعاقب التحولات الدولية، تعزز هذا التوجه أكثر بعد 2014، حين تزايدت الضغوط الغربية على روسيا عقب أزمة أوكرانيا، فكان من الطبيعي أن تبحث موسكو عن حلفاء مستقلين خارج الفضاء الأوروبي. وهنا برزت الجزائر بوصفها دولة تجمع بين الثقل السياسي والاقتصادي والعسكري، والقدرة على المناورة الدبلوماسية، ما جعلها شريكا مثاليا لروسيا في القارة الإفريقية.

يؤكد منصور بن عطية أن "الجزائر اليوم تمثل بالنسبة للكرملين بوابة سياسية وأمنية نحو إفريقيا، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي، بل لأنها تمتلك شبكة علاقات واسعة مع دول الساحل والغرب الإفريقي، وتلعب دور الوسيط النزيه في النزاعات الإفريقية". ويرى أن هذا الدور يتقاطع مع الاستراتيجية الروسية التي تسعى إلى موازنة النفوذ الغربي في القارة من خلال بناء شراكات مع دول ذات مصداقية تاريخية مثل الجزائر، التي لم ترتبط بإرث استعماري أو أجندة توسعية.

أما الدكتور علي فوزي فيذهب إلى أبعد من ذلك، معتبرا أن "الجزائر لا تُستعمل كورقة روسية في إفريقيا، بل شريك فعلي يملك رؤية خاصة للمنطقة". ويشير إلى أن موسكو والجزائر تتقاسمان المبدأ ذاته في السياسة الخارجية: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والسعي إلى حلول سياسية سلمية للأزمات. ويضيف أن هذا المبدأ هو ما يجعل التنسيق بين البلدين ناجحا في الملفات الحساسة، كالأزمة الليبية والوضع في مالي والنيجر، حيث تلتقي المواقف على رفض التدخل العسكري الأجنبي وتغليب الحوار الوطني.

في المقابل، تستفيد الجزائر من هذا التعاون بتعزيز استقلاليتها الدفاعية والتكنولوجية. فقد أصبحت روسيا أحد أبرز مزوّدي الجزائر بالسلاح المتطور، من الطائرات المقاتلة إلى منظومات الدفاع الجوي، إضافة إلى نقل الخبرة في الصناعات العسكرية. كما تمّ التوقيع على مشاريع لتطوير التعاون الفضائي والعلمي، خصوصا في مجالات الأقمار الاصطناعية وتبادل المعلومات التقنية.

لكن البعد الاقتصادي لا يقل أهمية عن البعد العسكري. فالتعاون في مجال الطاقة يشكل أحد أعمدة الشراكة. الجزائر، كقوة عالمية في مجال الغاز، وروسيا، كأكبر مصدر للطاقة، تتقاطع مصالحهما في داخل منظمة "أوبك+"، حيث يعمل البلدان على ضمان توازن السوق النفطية واستقرار الأسعار. وفي هذا الإطار، يرى بن عطية أن "التنسيق بين الجزائر وروسيا في أوبك+ يعكس ثقة متبادلة وتفاهما حول ضرورة حماية مصالح الدول المنتجة من المضاربات الغربية".

كما أن التعاون في الزراعة والتكنولوجيا بدأ يأخذ منحى تصاعديا، إذ أبدت موسكو اهتماما بالاستثمار في القطاع الزراعي الجزائري من خلال إدخال تقنيات الري الحديثة والأسمدة، بينما تبحث الجزائر عن توسيع صادراتها الزراعية إلى السوق الروسية. هذا التوجه الاقتصادي يعكس، بحسب فوزي، "رغبة البلدين في تنويع مجالات التعاون بعيدا عن الطابع العسكري، لبناء علاقة اقتصادية متوازنة ومستمرة".

على الصعيد الجيوسياسي، تعتبر موسكو الجزائر شريكا استراتيجيا في مناطق النفوذ الجديدة في إفريقيا والشرق الأوسط. فبينما تتراجع بعض القوى الغربية عن التزاماتها في إفريقيا، تسعى روسيا إلى ملء الفراغ عبر شراكات سيادية مع دول ذات وزن سياسي، والجزائر تأتي في مقدمتها. ويقول بن عطية إن "الكرملين يرى في الجزائر دولة تملك شرعية سياسية وثقافية تخولها لعب دور الوسيط المقبول في النزاعات الإفريقية، خصوصا في منطقة الساحل التي تمثل حزاما جيوسياسيا حساسا".

أما في الشرق الأوسط، فالتقارب الجزائري الروسي يتجلى في المواقف المشتركة تجاه القضية الفلسطينية وسوريا، ورفض سياسات التطبيع المفروضة، والدفاع عن وحدة الأراضي العربية. ويشير فوزي لـ"الأيام نيوز" إلى أن "البلدين يتقاسمان رؤية واضحة تجاه الأزمات العربية، فهما يرفضان الحلول المفروضة من الخارج، ويدعوان إلى التسوية السياسية المبنية على الحوار الوطني".

ويجمع المحللان على أن زيارة الرئيس عبد مجيد تبون إلى موسكو في جوان 2023 كانت محطة مفصلية في ترسيخ هذا التحالف، إذ توّجت بتوقيع سلسلة من الاتفاقيات الاستراتيجية الجديدة، شملت مجالات الطاقة، والصناعة، والتعليم العالي، والدبلوماسية البرلمانية. كما عبّر الجانبان عن تمسكهما بمبدأ عدم الانحياز، وبدعم التعاون جنوب - جنوب كبديل عن التبعية الاقتصادية.

ويرى بن عطية أن "هذا النوع من التحالفات المتوازنة يعكس بروز الجزائر كصوت إفريقي مستقل، وكمحور في مشروع روسي يسعى إلى بناء تعددية قطبية حقيقية". ويضيف أن موسكو تعتمد على الجزائر ليس فقط كشريك اقتصادي، بل كحليف سياسي قادر على كسب ثقة الشعوب الإفريقية والعربية، بفضل رصيدها التحرري ومصداقيتها الدبلوماسية.

أما فوزي، فيختتم تحليله بالقول إن "الشراكة الجزائرية الروسية ليست اصطفافا ضد أحد، بل خيار سيادي نابع من قراءة دقيقة لموازين القوى الجديدة. فالجزائر تدرك أن العالم يتغيّر بسرعة، وأن التوازن بين الشرق والغرب أصبح ضرورة لحماية مصالحها ومصالح المنطقة".

وبينما تتجه الأنظار إلى المستقبل، تبدو العلاقة بين الجزائر وروسيا مرشحة لمزيد من التوسع والتعمق. فهي لم تعد علاقة ظرفية تمليها المصالح الآنية، بل مشروع استراتيجي يهدف إلى إعادة تشكيل موازين القوة في إفريقيا والشرق الأوسط على أسس من العدالة والسيادة والتعاون المتكافئ.

لقد أدرك الطرفان أن التحولات الجيوسياسية الراهنة تفتح أمامهما فرصة تاريخية لبناء محور متوازن يُعيد للدبلوماسية معناها الحقيقي، وللتاريخ دوره في صنع الحاضر. وبهذا المعنى، فإن الشراكة الجزائرية الروسية ليست فقط شراكة مصالح، بل شراكة ذاكرة ومصير، تسعى إلى رسم خرائط جديدة للنفوذ في عالم يتجه بثبات نحو التعددية والإنصاف الدولي.