2025.11.11
سياسة ليّ الذراع مع الجزائر لن تنجح..  إلى متى ستبقى فرنسا أسيرة أوهام من يضللونها؟ حديث الساعة

سياسة ليّ الذراع مع الجزائر لن تنجح.. إلى متى ستبقى فرنسا أسيرة أوهام من يضللونها؟


لا يزال ملف العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا يحتل صدارة الاهتمام الإعلامي والسياسي، في أعقاب قرار الجمعية الوطنية الفرنسية الذي يدين الاتفاقيات الفرنسية-الجزائرية لعام 1968. وقد أثار هذا القرار جدلا واسعا حول مستقبل العلاقات بين البلدين ووضع الجالية الجزائرية في فرنسا، التي أصبحت أداة للاستثمار السياسي من قبل بعض كتل اليمين الفرنسي. ومع ذلك، تزايدت التحذيرات من اعتماد سياسة "ليّ الذراع"، التي لم تجنِ باريس من ورائها سوى مزيد من الخسائر.

أدلى وزير الداخلية الفرنسي، لوران نونيز، بتصريحات حاسمة حول العلاقات الجزائرية-الفرنسية، التي تشهد أدنى مستوياتها منذ أكثر من سنة. وحذر نونيز من اعتماد سياسة "ليّ الذراع" أو الأساليب القسرية في التعامل مع الجزائر، مؤكدا أن هذه الطرق لم تحقق أي نتائج ملموسة في الماضي، خصوصا في عهد سلفه برونو روتايو.

وقال إن "من يوهمون الفرنسيين بأن ليّ الذراع والأساليب الخشنة هي الحل الوحيد مخطئون"، مشيرا إلى أن القناة الدبلوماسية والتواصلية مع الجزائر مقطوعة تماما، بما يعكس أزمة ثقة عميقة بين الطرفين. وأضاف أن التبادل المعلوماتي مع أجهزة الشرطة والدرك والاستخبارات توقف منذ الربيع الماضي.

ورغم ذلك، أعرب نونيز عن تفاؤله، مشيرا إلى وجود "إشارات إيجابية" لاستئناف حوار أكثر هدوءا، مؤكدا أنه تلقى دعوة من نظيره الجزائري لاستعادة القنوات الدبلوماسية. تأتي تصريحاته في سياق توتر العلاقات بين البلدين، الذي بدأ يتفاقم منذ صيف 2024 عقب اعتراف فرنسا بخرافة "الحكم الذاتي المغربية" للصحراء الغربية، واستمر بعد اعتقال الكاتب بوعلام صنصال في نوفمبر 2024، ثم زادت الأزمة حدّة بعد توقيف عدة مؤثرين جزائريين في فرنسا وموظف قنصلي جزائري في باريس خلال يناير 2025.

في المقابل، خرجت أصوات جزائرية مدنية لتؤكد على ضرورة حماية الحقوق التاريخية للجالية الجزائرية في فرنسا وتعزيز التواصل بين المجتمعين. وعلى رأسها تصريحات كريمة ختيم، رئيسة جمعية "الاتحاد الجزائري الفرنسي للتضامن والتجديد"، التي شددت على أهمية بناء "روح الحوار البناء" بعيدا عن الرمزية السياسية الأحادية والاستغلال الإعلامي للملف الجزائري.

وأكدت ختيم أن الحلول الحقيقية تكمن في اعتماد حوار صادق وشفاف، والاعتراف بجرائم الماضي الفرنسي، وضمان حماية الحقوق القانونية والاجتماعية للجالية، بما يعكس التزام الجزائر بالمبادئ الدبلوماسية والسيادة الوطنية واحترام موروث العلاقات الثنائية التاريخية.

ويعكس التوتر الحالي بين الجزائر وباريس شبكة معقدة من الأبعاد القانونية والسياسية والاجتماعية، تمتزج فيها الخلافات حول السيادة الوطنية وقضايا الهجرة وحقوق الجالية، إلى جانب إرث ما بعد الاستعمار، الذي ترك وراءه مآسي وجرائم لا تزال آثارها الوخيمة شاهدة على بشاعتها حتى اليوم. وبينما يرى بعض الأوساط السياسية الفرنسية أن اتفاقية 1968 قد تشكل عقبة أمام تشديد سياساتها الداخلية، تؤكد الجزائر والمجتمع المدني أن أي خطوات أحادية الجانب تجاه هذه الاتفاقية لن تكون مقبولة، وأن التعايش والتفاهم بين الضفتين يمر عبر الحوار والمصالح المشتركة.

ومن جانبه، شدد نونيز على أهمية التعاون الأمني، خصوصا في مكافحة الحركات الجهادية في منطقة الساحل الأفريقي، التي تعتبر حيوية لأمن فرنسا وأوروبا على حد سواء، مؤكّدا أن الاستراتيجية القائمة على الحوار والتعاون هي السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة الحالية وتحقيق الاستقرار في العلاقات الثنائية.

وكانت الجزائر قد أعلنت رفضها القاطع لأي محاولة فرنسية لتقويض حقوق مواطنيها، لا سيما بعد تدهور العلاقات بين البلدين إثر اعتراف فرنسا بخطة "الحكم الذاتي" المغربية للصحراء الغربية في صيف 2024، وهي الخطوة التي اعتبرتها الجزائر مساسا مباشرا بموقفها الثابت تجاه قضية الصحراء وحقوق شعبها. ومنذ ذلك الحين، شددت الجزائر على أنها لن تقبل بأي عمليات ترحيل لمواطنيها الموجودين في وضع غير نظامي في فرنسا، مؤكدة بذلك تمسكها بحقوق مواطنيها وحماية مصالحها الوطنية والجالية الجزائرية بالخارج، في إطار سيادة الدولة والتزامها بحفظ حقوق أبنائها أينما وجدوا.

تجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية الجزائرية-الفرنسية لعام 1968، التي وُقعت بعد 6 سنوات من استقلال الجزائر، لم تكن مجرد نص قانوني، بل إطارا أساسيا لتنظيم حياة الجالية الجزائرية في فرنسا على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية، وضمان حقوقهم القانونية والاجتماعية. وقد شكلت الاتفاقية حجر الزاوية في العلاقة بين البلدين، إذ ساعدت على تنظيم الهجرات الكثيفة بعد الاستقلال، وحفظت توازنا بين السيادة الوطنية وحقوق الجالية، وحافظت على روابط تنظيمية وقانونية حيوية بعد سنوات طويلة من الاستعمار الفرنسي.

وبالمقابل، يؤكد البروفيسور فيصل إزدارن، الباحث في علم الاجتماع، لـ"الأيام نيوز"، أن "الفارق الضيق في التصويت لا يقلل من دلالته السياسية، لكنه يوضح أن الحكومة الفرنسية ليست ملزمة بما قررته الجمعية في هذه اللائحة، ولا يُغير الوضع القانوني للاتفاقية، إذ يبقى القرار النهائي بيد رئيس الجمهورية، الذي يملك حق التفاوض والإبرام أو الإلغاء ضمن المعاهدات الدولية".

هل من حلول حقيقية؟

وفي مقابلة حصرية مع "الأيام نيوز"، شددت كريمة ختيم على أن التصويت الفرنسي الأخير جاء في توقيت شديد الحساسية بالنسبة للجزائر، بالتزامن مع إحياء ذكرى فاتح نوفمبر، مؤكدة أن اختيار هذا التوقيت لم يكن اعتباطيا، بل يهدف إلى استثمار الذاكرة التاريخية للجرح الجزائري وتأجيج التوتر بين ضفتي المتوسط.

وأضافت أن التصويت جاء بفارق صوت واحد فقط، وهو ما يعكس الانقسامات العميقة داخل البرلمان الفرنسي، حتى وسط الأوساط السياسية الفرنسية، بالإضافة إلى تأثير الحملة الإعلامية المكثفة التي رافقت هذا القرار، والتي اتسمت بتبنّي مفردات خطاب اليمين المتطرف، وهو خطاب يسعى دوما إلى تجييش الرأي العام الفرنسي ضد مصالح الجالية الجزائرية وتعزيز انقسامات المجتمع الداخلي.

وتشير ختيم إلى أن هذه الخطوة تحمل تبعات سلبية واضحة على الصعيدين الدبلوماسي والمجتمعي. على المستوى الدبلوماسي، تقول إن "من المؤسف توقع تدهور آخر في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، وهذا في وقت كانت فيه المنطقة تحتاج إلى إعادة تفعيل التعاون الإقليمي الفعال، خصوصا في مجالات الأمن والهجرة ومكافحة الإرهاب في منطقة الساحل"، وهي المجالات التي تمثل أولوية استراتيجية لكل من الجزائر وفرنسا على حد سواء.

أما على المستوى المجتمعي، فالتداعيات أكثر حدة بحسب ختيم، إذ قد يؤدي القرار إلى تسميم المناخ بين الجاليات الجزائرية والفرنسية، من خلال تعزيز خطاب الكراهية الذي تنتجه وسائل الإعلام الفرنسية، والتي تقوم، بحسبها، بتصوير الجزائريين كـ"عدو وجودي" ضمن استراتيجية انتخابية تخفي الحقيقة عن الرأي العام الفرنسي.

وأكدت ختيم أن تصاعد حالات الوصم ضد الجالية الجزائرية في فرنسا يعزز شعورا عميقا بالرفض والانكفاء على الذات بين أفراد الجالية، كما يثير لدى الفرنسيين تساؤلات مصطنعة حول الهوية، في ظل مناخ اجتماعي مشحون مسبقا بسبب هذه الخطابات الإعلامية والسياسية. وأوضحت أن هذا الوضع يعكس بشكل واضح استغلال السياسة الفرنسية ملف العلاقات مع الجزائر لتحقيق أهداف انتخابية ضيقة، على حساب التعايش والتفاهم بين المجتمعين، مؤكدة أن أي محاولة لتأجيج الانقسامات لن تؤدي إلا إلى تعميق الشرخ الاجتماعي والسياسي بين الضفتين.

وعمن يطالبون بمراجعة أو حتى إلغاء الاتفاقية الفرنسية-الجزائرية لعام 1968، شددت ختيم على أن " لها الحق في اقتراح قوانين، لكن ما يرفضه الجزائريون بشدة هو النهج الأحادي والرمزية السياسية التي يحاول اليمين المتطرف فرضها على هذا القرار". وأضافت: "التسويق الإعلامي لهذا الملف يتم على حساب مواطني الجمهورية الفرنسية من أصول جزائرية، ويعمل على تقويض الثقة في المؤسسات لصالح ناخبي اليمين المتطرف. وهكذا فإن الحل الحقيقي يكمن في الحوار الموضوعي والبناء بين البلدين، بعيدا عن القرارات السياسية المندفعة التي لا تؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات."

وبالنسبة للمستقبل القريب، أكدت ختيم أن شبكتها الجمعوية تعمل على خلق فضاءات للقاء والحوار بين الأجيال، من خلال مشاريع وورش عمل للذاكرة التاريخية، ولقاءات مدنية مفتوحة، تهدف إلى تعزيز التفاهم بين المواطنين الجزائريين والفرنسيين على حد سواء. وقالت: "الحلول الحقيقية تُبنى عبر المواجهة الإنسانية والاعتراف المشترك بتعقيد تاريخنا، فالذاكرة ليست ساحة لخصومات سياسية، بل مشروع مشترك يهدف إلى تهدئة الجراح وبناء مستقبل متماسك."

وأردفت ختيم أن الرسالة الأساسية للجالية الجزائرية في فرنسا هي تعزيز المشاركة المدنية والسياسية. كما دعت المواطنين إلى التسجيل في قوائم الناخبين والمساهمة في بناء كتلة سياسية قوية تمثل مصالحهم وآمالهم. وأكدت أن الالتزام المدني والديمقراطي هو الرد الأنسب على محاولات التشكيك في شرعيتهم داخل المجتمع الفرنسي. وأضافت: "إلى مواطني ضفتي البحر المتوسط أقول: لا نسمح للاستغلال السياسي أن يدفع بتسميم علاقاتنا. تاريخنا المشترك، مهما كان مؤلما، لا ينبغي أن يتقلص إلى نفس مساحة القرارات أحادية الجانب." وختمت ختيم بتوجيه رسالة واضحة للتيارات السياسية المتشددة في فرنسا، قائلة: "إلى اليمين المتطرف، سنمضي قدما بالحوار، بدل الانجرار خلف نزعات تصعيدية تعيد فتح جراح الماضي دون تحقيق أي فائدة للجانبين."

أهمية اتفاقية 1968 والجالية الجزائرية

تأسست الاتفاقية الجزائرية-الفرنسية عام 1968، بعد 6 أعوام من استقلال الجزائر، بهدف تنظيم شؤون الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية، في ظل تدفقات هجرة كثيفة بعد الاستقلال. وقد شكلت هذه الاتفاقية إطارا قانونيا مهما لضمان حقوق الجزائريين المقيمين في فرنسا، بما يشمل العمل، الضمان الاجتماعي، التقاعد، والإقامة، إضافة إلى حقوق أخرى مرتبطة بالحياة اليومية للجالية. ومن منظور جزائري، كانت الاتفاقية أداة لتحقيق التوازن بين السيادة الوطنية وحقوق الجالية، وحافظت على روابط تنظيمية وقانونية حيوية بعد سنوات من الاستعمار الفرنسي الطويل.

يأتي تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية على مشروع اللائحة المنددة بالاتفاقية كخطوة سياسية رمزية، لكنها ذات دلالات بالغة الأهمية. ورغم عدم إلزاميته قانونيا، إلا أن هذا القرار يرسل رسالة واضحة حول توجهات بعض القوى اليمينية المتشددة في فرنسا، التي ترى في الاتفاقية عائقا أمام سياساتها بشأن الهجرة والسيادة الوطنية. وقد أشار التصويت، الذي جاء بفارق صوت واحد فقط (185 مقابل 184)، إلى الانقسام العميق داخل البرلمان الفرنسي، إذ جاءت غالبية الأصوات المؤيدة للتنديد من أحزاب اليمين التقليدي والمتطرف، بينما امتنع أغلب نواب الحزب الرئاسي عن التصويت، وهو ما يعكس تجاذبات سياسية واضحة حول ملف حساس يمس السيادة الوطنية والسياسات الداخلية والهجرة والجاليات الأجنبية.

ويشير مراقبون إلى أن هذا التوجه اليميني يعكس استمرار تأثير مسائل ما بعد الاستعمار على السياسة الفرنسية، إذ يُستخدم ملف الجالية الجزائرية أداة لاستقطاب ناخبين متأثرين بالخطاب المعادي للأقليات والأجانب. ويضيف التحليل أن ذوبان الفوارق الإيديولوجية وتطبيع خطاب الكراهية والعنصرية في وسائل الإعلام الفرنسية، خاصة من قبل وسائل محسوبة على اليمين المتطرف، يعزز موقع هذا الحزب ويضاعف الانقسامات السياسية داخل البرلمان الفرنسي، في حين تستمر الجزائر في الدفاع عن مصالحها بشكل صارم وفاعل.

من الناحية القانونية، لا يُلغي مشروع اللائحة الاتفاقية أو يُحدث أي تعديل في الالتزامات القائمة، ولا يلزم الحكومة الفرنسية بالتحرك. ومع ذلك، فإن تبنيه يبعث برسالة سياسية قوية قد تحفز الحكومة ورئاسة الجمهورية على إعادة النظر في الاتفاقية، وربما فتح مشاورات أو مفاوضات لإعادة صياغتها، ما قد يؤدي إلى انسحاب جزئي أو كلي إذا قررت السلطة التنفيذية ذلك. هذا التوجه السياسي يخلق حالة من عدم اليقين بالنسبة للجالية الجزائرية، ويعرض حقوقها المكتسبة منذ عقود إلى محاولات تقويض أو تغييرات محتملة، وهو ما يرفضه الجانب الجزائري جملة وتفصيلا.

ويؤكد الجانب الجزائري – مرارا- من خلال وزارة الخارجية، أن هذه الخطوات الفرنسية تمثل استمرارا للاحتقان في العلاقات الثنائية، وأن أي إجراءات أحادية الجانب ستواجه برد مماثل ضمن مبدأ المعاملة بالمثل. وتعتبر الجزائر أن حماية حقوق مواطنيها في الخارج واجب سيادي، وأن أي محاولات فرنسية لتجاوز هذه الحقوق أو تقييدها لا يمكن قبولها دون الإضرار بالعلاقات الثنائية.

كما شددت الجزائر على أن الجالية الجزائرية في فرنسا، التي يبلغ عددها ملايين الأشخاص، قد تواجه حالة من عدم اليقين القانوني والاجتماعي والخدماتي إذا استمرت الأزمة أو تحولت إلى تغييرات فعلية في نصوص الاتفاقية أو إجراءات الترخيص والإقامة.

ويشير مراقبون إلى أن الاتفاقية الجزائرية-الفرنسية لسنة 1968 كانت منذ تأسيسها عاملا استقراريا أساسيا في العلاقات الثنائية، وساهمت في تنظيم الهجرات الضخمة وحماية الحقوق الاجتماعية للجالية، لكنها أصبحت اليوم نقطة توتر بسبب تصاعد الخطاب اليميني الفرنسي وتحركات اليمين المتطرف، الذي يسعى إلى تصعيد ملف الجالية لتحقيق مكاسب انتخابية داخل فرنسا. من منظور جزائري، أي محاولة لإلغاء الاتفاقية أو فرض شروط أحادية الجانب تعتبر استفزازا دبلوماسيا، وهو ما دفع الجزائر إلى التأكيد على موقفها الراسخ في الدفاع عن حقوق مواطنيها والحفاظ على مصالحها السيادية.

وفي هذا الإطار، يؤكد الموقف الجزائري الثابت، إلى جانب التحذيرات الصادرة عن بعض المسؤولين الفرنسيين مثل وزير الداخلية لوران نونيز، أن أي محاولة لليّ الذراع أو اعتماد أساليب قسرية في التعامل مع الجزائر لن تؤدي سوى إلى مزيد من الخسائر السياسية والاقتصادية والدبلوماسية لفرنسا، دون تحقيق أي مكاسب حقيقية أو فائدة ملموسة.