في واحدة من أكثر الجلسات توتّرا داخل أروقة مجلس الأمن الدولي، أعادت مداخلة مندوب الجزائر الدائم لدى الأمم المتحدة، عمار بن جامع، النقاش حول السودان إلى صدارة الاهتمام الدولي، بعدما حذر من أن ما يجري في مدينة الفاشر يمثل "تطورا مقلقا وخطوة خطيرة نحو تقسيم البلاد".
تجاوزت كلمات بن جامع حدود الموقف التضامني وردّ الفعل العاطفي على مأساة دارفور، لتتحوّل إلى قراءة سياسية دقيقة لواقع ينذر بانزلاق السودان نحو مرحلة تفكّك ممنهج، تغذّيه فوضى السلاح ودعمٌ خارجيٌّ يزيد المشهد تعقيدا.
تزامن هذا التحذير الجزائري مع دعوة منظمة هيومن رايتس ووتش إلى فرض عقوبات مباشرة على قيادات قوات الدعم السريع، ووقف الدعم المالي والعسكري الذي تتلقاه من أطراف إقليمية. ووصفت المنظمة الحقوقية - المعروفة بتحقيقاتها الميدانية - ما يجري في الفاشر بأنه سياسة ممنهجة للترهيب الجماعي، لا مجرد تجاوزات معزولة أو أخطاء ميدانية. وهكذا التقت الرؤية الجزائرية مع موقف المنظمة عند نقطة واحدة واضحة: ضرورة الانتقال من الإدانة إلى الفعل، ومن بيانات القلق إلى قرارات ملزمة تضمن حماية المدنيين ومحاسبة الجناة.
ويرى المحلل السياسي السوداني، الفاضل أبو إبراهيم - في حديث خصّ به "الأيام نيوز" - أن مداخلة بن جامع تمثل "إشارة قوية إلى تبدل ميزان المواقف داخل مجلس الأمن"، إذ لم تعد الدول الإفريقية، وعلى رأسها الجزائر، تتحدث من موقع المتفرج، بل من موقع الفاعل الذي يرفض أن تتحول أزمات القارة إلى ملفات تدار من الخارج.
ويضيف أبو إبراهيم أن الخطاب الجزائري الجديد يسعى إلى استعادة مفهوم "السيادة الإنسانية"، أي الربط بين مبادئ القانون الدولي وحق الشعوب في البقاء موحدة وآمنة، مؤكدا أن الجزائر قدمت ما يشبه "إدانة مزدوجة": إدانة للانتهاكات في دارفور، وإدانة لصمت المجتمع الدولي الذي سمح بتفاقمها.
أما بالنسبة لموقف هيومن رايتس ووتش، فيعتبر أبو إبراهيم أنه يشكل "رافعة أخلاقية مهمة" تضغط على مجلس الأمن لإعادة تفعيل أدواته القانونية، مثل العقوبات وحظر السلاح، لكنه يحذر، في الوقت نفسه، من "تحويل الملف الإنساني إلى ورقة سياسية يتم استخدامها لخدمة مصالح القوى الكبرى". ويختتم المتحدث بالقول: إن تلاقي الصوت الحقوقي مع الموقف الدبلوماسي الجزائري يفتح نافذة أمل، لكنه يضع المجتمع الدولي أمام امتحان حقيقي: هل سيبقى يتعامل مع دارفور كجرح مفتوح في جسد السودان، أم سيجعل من هذه المأساة لحظة مراجعة لمصداقية العدالة الدولية؟
وفي سياق متصل، أشار بن جامع إلى خطورة الدعم الخارجي الذي تتلقاه قوات الدعم السريع، مؤكدا أن: "من يوفر المال أو السلاح لهذه القوات إنما يسمح بارتكاب مجازر بحق الشعب السوداني". وجاءت تصريحاته بعد سجال دبلوماسي بين ممثل السودان ومندوب الإمارات داخل مجلس الأمن، حيث قدم الوفد السوداني وثائق تشير إلى مسارات دعم عسكري غير مباشر لصالح قوات الدعم السريع.
ويعلق الباحث يس عمر حسن عمر على ذلك بقوله: إن المرحلة الحالية تكشف عن "تواطؤ واضح من بعض الأطراف الإقليمية التي ترى في استمرار الحرب وسيلة لإضعاف السودان ومنع قيام دولة مركزية قوية"، مضيفا: أن "الرهان على الميليشيات كأداة نفوذ خارجي سيفشل كما فشل في ليبيا واليمن، لأن البيئة السودانية مختلفة وغير قابلة للتفكيك الطائفي أو المذهبي".
ويؤكد عمر أن الوضع الإنساني في السودان بلغ مستوى الكارثة، حيث نزح عشرات الآلاف من المدنيين وتدهورت الخدمات الصحية، داعيا المنظمات الدولية إلى تجاوز مرحلة التنديد واستخدام سلطتها الأخلاقية والقانونية لتشكيل ضغط مباشر على الدول الداعمة للفوضى.
ويختم عمر بالقول إن: "الإنصاف الحقيقي لضحايا الفاشر لا يكون ببيانات الشجب، بل بإعادة الاعتبار لمفهوم العدالة الدولية حتى لا تتحول دارفور إلى مختبر مفتوح للجرائم العابرة للحدود". واختتم المندوب الجزائري مداخلته بالتأكيد على أن: "استقرار السودان هو استقرار لإفريقيا بأكملها"، داعيا مجلس الأمن إلى الانتقال من البيانات إلى القرارات الفاعلة. ويعلق يس عمر حسن عمر بأن الموقف الجزائري يمثل: "صوتا إفريقيا نادرا في زمن التواطؤ الدولي"، مؤكدا أن المرحلة المقبلة تتطلب اصطفافا إفريقيا حقيقيا لوقف المشروع الرامي إلى تحويل السودان إلى ساحة صراع دائم يخدم مصالح الخارج أكثر مما يخدم تطلعات شعبه.
كما أثار المشهد داخل مجلس الأمن توترا لافتا عندما وجه مندوب السودان انتقادا صريحا لمندوب الإمارات، معبرا عن استغرابه من وجوده في القاعة، قائلا: إن "مكانه الحقيقي بين ميليشيات الدعم السريع في الميدان"، في إشارة إلى ما وصفه بالدعم العسكري غير المباشر الذي تتلقاه تلك القوات. ورغم نفي السفير الإماراتي أي علاقة لبلاده بالصراع، وتأكيده أن ما يجري في السودان "حرب داخلية"، إلا أن الوثائق التي عرضها الوفد السوداني ـ والمتعلقة بشحنات طائرات مسيرة وذخائر ـ أعادت الجدل حول حجم التدخلات الإقليمية التي تغذي الحرب وتمنع الوصول إلى تسوية سياسية حقيقية.
وفي هذا السياق، يرى المحلل السياسي السوداني أبو الفضل إبراهيم في تصريحه لـ"الأيام نيوز" أن: "الإنكار الدبلوماسي لا يلغي واقع الميدان"، مشيرا إلى أن "المشهد في دارفور لم يعد مجرد صراع داخلي، بل أصبح مسرحا لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية تبحث عن موطئ نفوذ على حساب دماء السودانيين".

المحلل السياسي السوداني أبو الفضل إبراهيم
وأضاف أن: "تدفق الأسلحة والطائرات المسيرة إلى قوات الدعم السريع لا يمكن أن يتم دون علم أو تسهيل من أطراف تمتلك مصالح استراتيجية في الذهب السوداني والممرات الحدودية نحو إفريقيا الوسطى وليبيا".
ويؤكد أبو الفضل أن المعضلة الأخطر تكمن في: "ازدواجية الخطاب الإقليمي"، إذ ترفع شعارات الحياد في المنابر الدولية، بينما تمارس على الأرض سياسات دعم وتمويل تغذي الانقسام وتطيل أمد الحرب. ويضيف أن: "هذه الازدواجية تُفقد المنطقة أي فرصة لبناء ثقة حقيقية بين شعوبها، وتحوّل الصراع السوداني من أزمة وطنية إلى عقدة أمنية إقليمية".
أزمة ضمير عالمي
تشكل أحداث مدينة الفاشر الأخيرة نموذجا صارخا لتقاطع القانون الدولي مع توازنات القوى الإقليمية في إفريقيا، إذ لم تعد القضية مجرد مأساة إنسانية محدودة، بل تحولت إلى اختبار لقدرة المجتمع الدولي على فرض مبادئ العدالة حين تصطدم بالمصالح السياسية.
فبحسب الباحث في القانون الدولي، ميخائيل ماهر، لـ"الأيام نيوز"، فإن ما يجري في الفاشر يمثل انتهاكا واضحا لقواعد القانون الدولي الإنساني، إذ تتحمل قوات الدعم السريع وقادتها المسؤولية المباشرة عن الجرائم المرتكبة ضد المدنيين، استنادا إلى مبدأ "مسؤولية القائد" المنصوص عليه في المادة (28) من نظام روما الأساسي. هذه المادة لا تحاسب القائد فقط على الأوامر الصادرة منه، بل أيضا على صمته حين يعلم بوقوع الجرائم أو يتغاضى عنها عمدا، وهو ما يجعل قادة الدعم السريع في قلب دائرة المساءلة الجنائية.
لكن القضية لا تقف عند حدود القانون، فكما يؤكد الباحث الأستاذ في القانون الدولي لـ"الأيام نيوز"، ماهر ميخائيل، أن ما تشهده الفاشر يعكس تفكك البنية الانضباطية داخل الدعم السريع، وتحولها إلى ميليشيا تتحرك بدوافع قبلية وإقليمية، فيما تشير تقارير استخباراتية إلى أن بعض القوى الخارجية تعتبر دارفور منطقة نفوذ استراتيجي ضمن خريطة صراع النفوذ في غرب السودان. هذه الأبعاد تجعل الجرائم ذات طابع جيوسياسي يختلط فيه الانتهاك الإنساني بالحسابات الإقليمية، ما يزيد من تعقيد فرص المحاسبة.

الباحث الأستاذ في القانون الدولي_ماهر ميخائيل
ويرى الباحث أن الطريق إلى العدالة الدولية محفوف بعقبات سياسية، فالمحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها مباشرة التحقيق إلا بناء على إحالة رسمية من مجلس الأمن، وهو ما يجعل تحريك الملف رهينا بتوازنات القوى داخل المجلس ومواقف الدول الكبرى مثل روسيا والصين. ومع ذلك يمكن للمدعي العام أن يفتح فحصا أوليا استنادا إلى الأدلة الرقمية المنتشرة على المنصات، لتقييم جديتها قبل الانتقال إلى مرحلة التحقيق الشامل.
وفي ظل غياب الوصول الميداني، أصبحت الأدلة الرقمية - الصور ومقاطع الفيديو والتوثيقات الجغرافية - بمثابة "شهادة صامتة" يمكن اعتمادها قضائيا، خاصة بعد التطور الكبير في أدوات التحقق الإلكتروني. فالمادة (69) من نظام روما تجيز للمحكمة قبول أي وسيلة إثبات متى كانت موثوقة ومرتبطة بالوقائع، وهو ما يمنح المنصات الرقمية دورا غير مسبوق في صناعة الذاكرة القانونية للنزاعات الحديثة.
أما على المستوى السياسي، فيصف ماهر صمت المجتمع الدولي بأنه ازدواجية فاضحة في تطبيق القانون الإنساني، إذ لا تقاس الأزمات الإفريقية بالمعايير ذاتها التي تطبق على نزاعات أخرى. فالمصالح الاقتصادية والتنافس على الموارد والممرات جعلت السودان ساحة لتقاطع النفوذ بين محور عربي إفريقي وآخر روسي، في حين تفضل بعض العواصم الكبرى استقرارا هشا على حساب العدالة.
ويخلص الباحث إلى أن الفاشر ليست مجرد مدينة منكوبة بل مرآة لفشل منظومة الردع الدولي، إذ أفرزت واقعا جديدا عنوانه غياب العقاب وعودة منطق القوة. ومع ذلك، تبقى إمكانية تحويل المأساة إلى لحظة يقظة قانونية قائمة، إذا نجح الإعلام والمنظمات الحقوقية في توثيق الجرائم بشكل مهني، وإعادة فرض العدالة كقضية عالمية لا تخص السودان وحده بل تمس ضمير الإنسانية جمعاء.
وفي تصريحه لـ"الأيام نيوز"، وصف الدكتور بن يحيى غنيم، الباحث المصري، ما جرى في الفاشر بأنه "عمل احترافي يدرس في الجامعات"، قبل أن يردف بسخرية مريرة بأن ما سيُدرَّس ليس أمجادا بل مشاهد رعب: دفن الناس أحياء، إجبار الضحايا على حفر قبورهم بأيديهم، شنق الأطفال والنساء وتعليقهم على الأشجار وأعمدة الطرق، إقامة ما وصفها بـ"حفلات القتل الجماعي بدم بارد"، قتل المرضى داخل المستشفيات، حرق المنازل وأهلها، القتل على الهوية، تهجير السكان وسرقة محتويات بيوتهم، واغتصاب النساء وإذلال ذويهن.

الدكتور بن يحيى غنيم_ الباحث المصري
وختم غنيم بالقول إن من يقفون وراء هذه الفظائع هم من وصفهم بـ"شيطان العرب" و"لصّ الصحراء"، متسائلا بمرارة: كيف يُمكن للعالم أن يحوّل مشاهد المذابح إلى دروس أكاديمية، في حين يُدفن أصحابها بلا عدالة ويُكافأ جلادوهم بالصمت؟

