تُعدّ المهرجانات السينمائية من أبرز المظاهر الثقافية التي تميز المشهد الفني في أي بلد، لما تحمله من أبعاد فنية واقتصادية وسياحية، فضلا عن دورها في تشجيع الإبداع وتوفير فضاء للتبادل بين صُنّاع السينما والنقاد والجمهور. وفي الجزائر، باتت هذه التظاهرات الثقافية تعرف حضورا متزايدا خلال السنوات الأخيرة، حيث تُنظم مهرجانات وطنية ودولية في عدة ولايات أبرزها "وهران للفيلم العربي"، "عنابة للفيلم المتوسطي"، و"مهرجان الجزائر الدولي للسينما"، وغيرها من الفعاليات التي تهدف إلى إبراز المواهب المحلية والانفتاح على التجارب السينمائية الأجنبية.
هذا الزخم الفني السينمائي، رغم أهميته الثقافية والرمزية، يثير تساؤلات في الأوساط الإعلامية والفنية حول مدى تعبيره عن الواقع الحقيقي للسينما الجزائرية، وكيف تساهم المهرجانات السينمائية في الترويج للسينما الجزائرية؟
أزمة سينمائية متعددة الأوجه.. كيف؟
يقول السيناريست ياسين بوغازي، في تصريح لـ"الأيام نيوز"، إنّ السينما الجزائرية تعيش "أزمة متعددة الأوجه، تنعكس بشكل مباشر على طبيعة المهرجانات السينمائية في البلاد، سواء من حيث التنظيم أو مضمونها الثقافي".
ويُشير بوغازي إلى أنّ "المهرجان السينمائي في الجزائر غير مستقر، حتى تواريخه غير مستقرة، كما هو الحال في مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي الذي عُقدت طبعته الأولى في أفريل والثانية في سبتمبر، وهو ما يُعدّ أحد مظاهر عدم الاستقرار".
ويضيف بوغازي أن عودة بعض المهرجانات جاءت في إطار ما يسميه "النهضة السينمائية الرئاسية"، أي مرحلة أعادت فيها إرادة سياسية عليا الاهتمام بالسينما، أكثر مما كانت ثمرة حراك داخل المجتمع السينمائي نفسه، رغم أنّ بعض السينمائيين والنقّاد طالبوا بهذه العودة.
ويذكر المتحدث على سبيل المثال مهرجاني عنابة للفيلم المتوسطي ووهران الدولي للفيلم العربي بوصفهما أبرز نموذجين لهذه العودة، غير أنّه يُبدي تحفظًا على "الزخم والعرض الإعلامي" الذي رافق هذه المهرجانات، معتبرًا أنه "أخلّ بالمنتظر من فكرة عودة المهرجان السينمائي، وربما أضرّ بفكرة السينما الجزائرية نفسها، من حيث وضع فاصل بين السينما والواقع السينمائي الجزائري بمبالغات في تصنيفها كعالمية، بينما الواقع الإنتاجي لا يتجاوز فيلمين في السنة وقاعات عرض محدودة النشاط".
ويؤكد بوغازي أن ما يصفه بـ"التناقض المروع"، يطرح تساؤلات جوهرية أمام السلطات الثقافية حول طبيعة الجمهور والصناعة السينمائية في الجزائر، مشيرًا إلى أن المهرجانات الحالية تعاني اختلالات أخطرها أنها جاءت بهالة منفّرة تبدو غير جزائرية بالنسبة للجمهور، وهو ما يشكل ضربة قاتلة للسينما الوطنية.
كما ينتقد بوغازي "التجليات العالمية التي تتبناها بعض المهرجانات على حساب خصوصيتها المحلية"، معتبرًا، في معرض حديثه، أنّ "الاحتفال بالأسماء العالمية، التي لا تضيف شيئًا مفيدًا للسينما الجزائرية أو جمهورها، يُعد إخلالًا فلسفيًا بالمفهوم الحقيقي للمهرجان السينمائي".
وفي المقابل، يُثني بوغازي على بعض الجوانب الإيجابية في مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي الذي أبرز مؤشرات تقديرية مفيدة تجاه كيانات سينمائية محلية، رغم وجود اختلالات تنظيمية.
ويختم السيناريست تصريحه بالتأكيد على أن "المهرجان السينمائي عليه أن يتماشى مع الواقع السينمائي الجزائري كما هو، لا كما يُراد تقديمه إعلاميًا، وأن يدرك أن السينمائيين في الجزائر بعد العزلة والبطالة الطويلة بحاجة إلى اعتبار وتقدير، وأن بيئتنا المتخلفة سينمائيًا تحتاج إلى معالجات وبرامج حقيقية لتقريب الفن السابع من الجمهور".
محدودية الإنتاج ودور المهرجانات
من جهته، قدّم المخرج المختص في الأفلام الوثائقية، عبد الباقي صلاي، وجهة نظر أخرى تميل إلى الاعتراف بالصعوبات مع الإبقاء على نظرة متفائلة لدور المهرجانات السينمائية في المدى البعيد.
ويقول صلاي، في حديثه لـ"الأيام نيوز"، إنّ "النقاش حول المهرجانات السينمائية في الجزائر محتشم جدا، لا يُلبي تمامًا الغرض الذي يُراد تحقيقه، لكن هذا لا يعني تجاهل أثرها الإيجابي في خدمة السينما وتطورها على المدى المتوسط والبعيد".
ويُقرّ صلاي بأن "الإنتاج السينمائي في الجزائر ضئيل جدا، ولا يلبي حاجة السوق المحلية ولا العالمية"، وبالتالي "الاهتمام بالسينما وتثمينها يجب أن ينطلق من منطلقات مهنية، يتحمّل فيها العاملون في القطاع مسؤوليتهم حتى تجد هذه الصناعة مكانتها الحقيقية".
ويشير المتحدث إلى "امتلاك الجزائر لمهنيين بارزين في عالم السينما رغم قلة إنتاجاتهم، وآخرين يمتلكون طاقات إبداعية تحتاج فقط إلى من يبعث فيهم روح المبادرة الأولى، وهو ما يقع على عاتق الجهات الوصية التي يجب أن تدرك أن واقع السينما لا يصنعه السينمائي وحده، بل الجميع، بما في ذلك المهرجانات السينمائية".
ويرى صلاي أن "واقع المهرجانات السينمائية في الجزائر يعكس فعلاً، وإن كان باحتشام، شغف الجمهور الجزائري بالسينما، كما يعكس واقع الصناعة السينمائية نفسها، في حدود ما هو متاح من إنتاجات وتجارب.
ووفقه: "تُشير الفعاليات السينمائية بإمكانية أن يجد الشباب التوّاق لصناعة السينما طريقه نحو الريادة مستقبلًا، في حال توفرت له البيئة الداعمة والتمويل والإرادة الثقافية اللازمة".
ويختم صلاي بالقول إن "المهرجانات السينمائية، رغم محدوديتها، تظل مرآة جزئية لواقع السينما الجزائرية، فهي تُظهر الحراك القائم، لكنها في الوقت نفسه تكشف النواقص البنيوية في الصناعة، بدءًا من السيناريو الجيد وصولًا إلى الإخراج والعرض والتوزيع".
وبالإضافة إلى العوامل التي أشار إليها السيناريست ياسين بوغازي والمخرج عبد الباقي صلاي، يفترض أن يشكل الجانب الاقتصادي أحد أعمدة هذه التظاهرات. إلا أنّ هذا البعد لا يزال غائبًا عن خارطة المهرجانات الجزائرية. ففي الوقت الذي تحولت فيه السينما إلى صناعة قائمة بذاتها في العديد من البلدان، وتخلق مناصب شغل وتفتح مجالات للاستثمار والتعاون الدولي، ما تزال أغلب المهرجانات الجزائرية بعيدة عن تحقيق هذه الغاية الاقتصادية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الرهان الأكبر اليوم لا يكمن في تنظيم عدد أكبر من المهرجانات، بل في تحويلها إلى مشاريع مستدامة قادرة على خلق قيمة مضافة للسينما والمجتمع.
وتظلّ المهرجانات السينمائية في الجزائر خطوة مهمة في مسار خلق صناعة سينمائية حقيقية وإحياء الفن السابع إنتاجا وتوزيعا وترويجا على الصعيدين الوطني والدولي، شريطة تضافر جهود جميع الفاعلين، من مؤسسات رسمية ومهنيين وجمهور.

