2025.11.11
قراءة في وجوه المدينة العارية مقالات رأي

قراءة في وجوه المدينة العارية


زينب أمهز
25 أكتوبر 2025

في زمنٍ صار فيه الهمسُ جهرًا، والسرُّ مُشاعًا على موائد العيون، غدت الفضيحةُ لغة العصر، تُروى كما تُروى الحكايات، وتُتداول كما تُتداول الأخبار. لم تعد الفضيحة حدثًا عارضًا يُطوى في الصمت، بل تحوّلت إلى مشهدٍ جماهيريٍّ يتغذّى على الفضول ويقتات من الاندهاش، حتّى صارت الثقافةُ الفضائحية وجهًا آخر من وجوه الإنسان الحديث، الممزّق بين حبّ الاستطلاع وادّعاء الطُّهر. وأسهمت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصًا وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، في جعلها أكثرَ انتشارًا وسرعةً وتأثيرًا، حتّى غدت "الفضيحة" سلعةً رائجةً في سوقِ الاهتماماتِ العامّة.

إنّها ثقافةٌ تُعرّي المجتمع بقدر ما تفضح أفراده، وتكشفُ خفاياه أكثر ممّا تُخفيها، فتغدو الفضيحة مرآةً عاكسةً لوعينا الجمعي، ولسؤالنا الدائم عن الحدود بين الخاصّ والعام، وبين الفضيلة والرغبة في المعرفة.

وإذا نظرنا في التّاريخ، نجد أنّ "الفضيحة" ليست وليدة هذا العصر فحسب، بل لها حضور في تراثنا العربي والإسلامي، وإن اختلفت أشكالها ودوافعها.

ففي الأدب العربي القديم نجد نماذج من الفضيحة الأدبية أو الأخلاقية التي كانت تُنشر في شكل هجاء أو تشهير، كما في قصائد "جرير" و"الفرزدق" و"الأخطل".

وهنا سأورد ما قاله "جرير" في هجاء "الفرزدق":

أعـدّ الله للشـــــــعراء منِّـــــى -- صواعق يُخضعون لها الرقابــا

قرنت العبــــد عبد بنـــــــى نُمير -- مــع القينين إذْ غُلبـــــا وخابــــا

فلا صـــــلّى الإلــــــه على نُمير -- ولا سُقيت قــــبورهم السحابــــا

ولو وُزنت حــــــلوم بنــى نُمير -- على الميزان مـــا وزنت ذبــابـــا

ومع ذلك، كانت تلك "الفضائح" تُروى في سياق أدبي أو أخلاقي يهدف إلى العبرة أو النقد الاجتماعي، ولم تكن تُذاع بنيّة التشهير المجرّد كما هو الحال اليوم.

أمّا اليوم فقد تغيّر المشهد كليًّا؛ إذ لم تعد الفضيحة حدثًا استثنائيًا بل أصبحت جزءًا من المشهد الثّقافيّ والإعلاميّ اليومي، حتّى يمكن القول بوجود "ثقافة فضائحية" متكاملة الأركان: تُصنع الفضيحة وتُدار وتُسوّق كما تُسوّق السلع التجارية. ويقوم الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعي بتغذيتها وتعيد تدويرها بلا توقُف. والجمهور أصبح شريكًا فيها: يشارك في نشرها، ويعلّق عليها، ويصنع رأيه حولها.

إنّ هذه الثقافة الفضائحية ترتكز على قيم جديدة، منها: الشفافية المفرطة، والرغبة في "كشف المستور"، واللُّهاث وراء الإثارة، حتى ولو على حساب الكرامة الإنسانية والحقيقة.

وكما هو حال كلّ شيء في هذه الحياة، هناك إيجابيات وسلبيات لكلّ موضوع، فإذا ما أردنا أن نذكر محاسن الفضائح، نجدها أحيانًا تُسهم في كشف الفساد أو محاسبة المذنبين عندما يعجز القانون أو الإعلام الرسمي عن ذلك. وفي بلدنا لبنان هناك العديد من البرامج التلفزيونية التي تختص بهذه الأمور، وتقوم بفضح المستور عن كثيرٍ من الأمور، وتضعها في متناول الشعب والدولة، لأنها بذلك تكون قد أعطت الشعب وسيلةً للضغط على المسؤولين للقيامِ بدورهم ولردّ المظالم.

أمّا سلبيات الفضائح فهي كثيرة، ولعلّ أبرزها يتجلى في: انتشار الإشاعات وتشويه السمعة دون دليل، وهذا ما نجده في أيّامنا بكثرة، كما نقول بلهجتنا: "عالطالعة وعالنازلة سالفة"، تُلصق تُهم بأشخاص وتؤدّي أحيانًا ليس فقط لتشويه سمعتهم، بل قد تصل إلى تدمير الحياة الخاصّة دون أن نتأكد من صحّة الكلام. وكمثالٍ حيّ في مجتمعاتنا، كم من بيتٍ انهار بسبب الشائعات، وكم من شابٍ أو فتاة توقّفت حياتهم وباتَ الجميع يشير إليهم بإصبع الاتّهام، فقط بسبب كلمة خرجت من فم حاقدٍ أو مغتاظ، كم من موظّفٍ خسِر عمله بسبب غيرة زملائه.. وقد أوردتُ في مقالةٍ سابقة قصّة "ألمي" وما آلت إليه حياتها بسبب فضيحة تسببت بها رفيقاتها وكانت ملفّقة. وإذا نظرتم حولكم ستجدون الكثير من الأمثلة، هذا إن لم تكونوا أنتم أنفسكم ضحايا شائعات مُلفّقة، فلا أحد يسلم منها.

كما تساهم الفضائح في تسطيح الوعي الجمعي وتحويل الناس إلى جمهور متفرّج يبحث عن الإثارة لا الحقيقة، وكل ما يهمّه أن يحصل على أعلى نسبة مشاهدة لإعلانه (ليكون ترند).

وليس ذلك فحسب، بل إنّ الفضائح تقتل روح الرحمة والتسامح في المجتمع، فيصبح الجميع قُضاة، ويتمتّع الجميع بالنزاهة، بينما المفضوح تُسلّ على رقبته سكّين الذبح، والتي قد تكون أحيانًا أرحم من ألسِنة الناس والقلوب القاسية والنفوس اللّئيمة المُتحجّرة.

وهنا، وفيما يخصّ الأدب، يطرح السؤال نفسه: هل يمكن للفضيحة أن تُنتج أدبًا؟ الجواب: نعم، ولكن بشرط أن تتحوّل من فعلٍ فضائحيٍّ إلى وعيٍ نقدي.

فالأدب الذي يفضح الظلم أو النفاق أو الفساد لا يُعدّ فضيحة بمعناها السلبي، بل هو أدبٌ فضائحيٌّ إيجابيٌّ يكشف المستور من أجل الإصلاح. ومن أمثلة ذلك: روايات "نجيب محفوظ" التي كشفت تناقضات المجتمع، وأعمال "غسان كنفاني" التي عرّت الواقع العربي سياسيًّا وأخلاقيًّا، أو كقصائد "مُظفّر النوّاب" التي تُحاكي الواقع وتواجه العدوان برصاص القلم والكلمة. أو كما جاء في قصيدة الشاعر "محمد حبلص" (أنا شعري) - والتي تناولها الزميل "وحيد حمود" بدراسةٍ نقدية لها - فهي مرآةٌ تعكس وجع غزة وعجز العرب، فغزّة تُذبح، والأعين إلى الشاشات ترنو، لا لتُبصر، بل لتُشيح.  كأنّما الدم لا يعنينا، وكأنّ صراخ الأطفال نشازٌ لا يُطرب الآذان المُترفة. ويصوّر فيها الخيانة صمتًا مريبًا، وحيادًا فاضحًا، مقابل بطونٍ تتخم، وأرواحٍ تُستباح. (وهنا أدعوكم إلى قراءتها والتأمل في معانيها، فهي لا تُقرأ فقط، بل تُوجَع بها).

وهنا اسمحوا لي أن أضيف مثالًا واحدًا على ذلك يشرح كيفية الفضيحة الحسنة (كي لا أُطيل عليكم)، يقول "مظفر النوّاب" في قصيدته:

القدس عروس عروبتكم

فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟؟

ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها

وسحبتم كل خناجركم

وتنافختم شرفا

وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض

فما أشرفكم

أولاد القحـ.. هل تسكت مغتصبة؟

أولاد القحـ..

لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم

إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم

تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم

لا تهتز لكم قصبة

الآن أعريكم...

.....

تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا

أعترف الآن أمام الصحراء بأني مبتذل وبذيء

كهزيمتكم يا شرفاء المهزومين

ويا حكام المهزومين

ويا جمهورا مهزوما

ما أوسخنا.. ما أوسخنا.. ما أوسخنا ونكابر

ما أوسخنا

لا أستثني أحدا

أمّا إذا سألتني لماذا يعشق الناس الفضائح؟  فسأُجيبك استنادًا إلى العلم والواقع معًا، إذ يُرجِع علماء النفس والاجتماع هذا العشق إلى عدّة عوامل، منها:

الفضول الفطري وحبّ معرفة الأسرار، ولا يخفى ذلك على أحد، فجميعنا يعلم حشريّة الناس وفضولها في معرفة كشف المستور، كما يستلهم العديد بل الكثير الكثير من الناس مادّةً للتّسلية في نشرِ الاشاعات دون التّحقّق من صحّتها، وأيضًا البعض يصبح لديه شعور بالتفوّق الأخلاقي عند مشاهدة سقوط الآخرين، ومنهم من يستلذ بذلك، خاصّة إذا امتلأ جوفه بالحقد. ولا يمكن أن نغفل عن سبب ضعف الوعي الأخلاقي والإعلامي في التمييز بين الحقيقة والتشهير.

وأنا من وجهة نظري أقول لكم: "لا يمكن إنكار أنّ بعض الفضائح تؤدي دورًا رقابيًّا نافعًا، لكنها حين تتحوّل إلى هوس جماعي، فإنها تنسف القيم الإنسانية من جذورها. وأرفض الفكر الفضائحي الذي يعيش على أخطاء الآخرين ويقتات على أسرارهم، وأؤمن بأن الإصلاح لا يكون بالتشهير، بل بالوعي والنقد المسؤول".

وهكذا، تمضي الفضيحة كظلٍّ طويلٍ يلاحق المجتمعات، تكشف زيفَ أقنعتها حينًا، وتغريها بالبقاء في دائرة الفضول حينًا آخر. إنّ الثقافة الفضائحية ليست مجرّد انحدارٍ أخلاقي أو تسليةٍ عابرة، بل هي مرآةٌ لقلق الإنسان، وصدى لفراغٍ روحيٍّ يبحث عن الامتلاء ولو في سقوط الآخرين. ولعلّ أبلغ ما يمكن أن نفعله أمام هذا المشهد الصاخب، أن نُعيدَ للسترِ معناه، وللخصوصيّة حُرمتها، وللصمتِ هيبتهُ، علّ الإنسان يتذكّر أنّ الفضيحة ليست فيما يُكشَف، بل فيما ضاع من كرامة الإنسان، حين غدا كشفُ الآخر متعةً ومشهدًا للعامّة. إذًا يجب علينا أن نميّز بين الفضيحةِ التي تفضح فسادًا والفضيحة التي تُفسد إنسانًا.