ترتدي ثوبًا أسود، ترفع رأسك بثباتٍ مصطنع، وتشُدّ عقدة الحاجبين كمن يعلن الحرب على الدموع، بنظراتٍ حادّة جامدة لا تسمح لأيّ تحرّكٍ أن يفضحك. لكن أول كلمة عزاء تسقط كسهمٍ في صدرك، فتهتزّ جدران الثبات، وتنهار الدموع لتعلن الهزيمة في معركة التماسك.
أن تقف شامخًا وسط الحضور، تلاحقك أضواء الفلاش كعيونٍ متطفّلة، تلاحقك الأسئلة المحرجة، فتجيب بصوتٍ خافتٍ ثابت، غير أنّ رجفة يديك تفضحك، وتكشف كم من الضعف يختبئ خلف هذا الكبرياء.
تمشي ببرودٍ أمام من تحب، تكون كتمثال صامت، خالٍ من أيّ ردة فعل، لكنّ أول كلمة "كيف الحال؟" تفتح نوافذ القلب المغلقة، فتتسّع حدقتاك، وتتورّد وجنتاك، وتخونك كلّ محاولات التجاهل.
أن تتلقّى الصدمات بوجهٍ ساكن، وتبتسم بتلك الهدوءات المجنونة التي تخدع الجميع، بينما نبرة صوتك المرتجفة تفضحك، وتقول عنك إنك لم تعد تقوى على الاحتمال.
أن تعود إلى المنزل بعد معارك الحياة، مرفوع الرأس، تحمل صمت المنتصرين، فإذا بعناق أمّك ينهار بك، فينكشف داخلك الهشّ، وتبكي كطفلٍ صغيرٍ فقَدَ دربه في ليلٍ طويل.
أن تبوح لأمّك بسرّك، فتعدك أن تدفنه في بئرٍ لا يُدرك قاعه أحد، ثمّ تكتشف أن البئر امتلأ بالأقارب والأحباب، وحين تعاتبها، تبتسم ببراءتها وتقول: "كي يدعوا لك بالخير يا بنيّ".
وأن تحلم - كما حلمنا جميعًا - أنك تسبح في بركة ماءٍ شتوية، دافئ الفراش، مطمئنّ البال، لتستيقظ صباحًا وتجد فراشك منشورًا على شرفة المنزل بعد أن غُسل، فيصبح حديث الجيران والحيّ بأكمله. وحين تواجه أمك، تقول بصدقٍ قاتل: "لم أفضحك، فقط نشرت الفراش ليجفّ".
أن تقصّ شعرك سرًّا لتبدو أجمل، وعندما يسألك الجميع في اجتماعٍ عائلي عن سرّ التغيير، تتوهّج داخلك نشوة الجمال المكتوم، لتأتي أمّك وتقول ببساطة: "لقد سرق المقصّ وقصّ شعره من ورائي!"، فتسقط هيبتك على الأرض وتضحك معهم مضطرا.
أن تأكل علبة الشوكولا كاملة قبل النوم، وتنهض وفمك يرسم شاربًا داكنًا يفضح كلّ لذّتك الصغيرة.
أن يدخل شابٌّ نادمٌ إلى المسجد ليعترف بخطيئته سرًّا، فيتحوّل اعترافه إلى حديث خطبة الجمعة، ويشير إليه الشيخ قائلًا: "حدثني فلان"، فتنهال عليه العيون كالسّياط، فيهرب ولا يعود.
أن تفضحك خطوط عينيك رغم ثبات عمرك، وتعلن للعالم أنك لا تزال واقفًا في الزمن بينما تتغيّر الدنيا حولك.
أن تقفي على الميزان فيفضحك رقمه أنك خنتِ وُعودك ليلاً مع قطعة حلوى.
أن تتشنج أعصابك وتقول بصوتٍ مرتجفٍ: "لست غاضبًا!" بينما كلّ شيءٍ فيك يصرخ بالعكس.
عزيزي القارئ، الانكشاف ليس دائمًا ضعفًا، كما أن السّتر ليس دائمًا نجاة. أحيانًا تفضحنا الحياة لتعلّمنا، وأحيانًا تسترنا لتختبرنا. نفضح الفساد لنحمي الصدق، ونفضح الحب لأننا لا نحتمل كتمانه، ونفضح الفرح لأن البهجة لا تُخبّأ، ونفضح السلام لأنه نادر الوجود.
لكن هناك وجه آخر للانكشاف، وجه الرحمة. أن تستر المؤمن، أن تكتم زلّة من تحب كي لا تجرحه، أن تصمت لأن الفضح قد يؤذي أكثر مما يصلح. بين الانكشاف والسكوت خيطٌ رفيع، من أمسكه بحكمة.. نجا.

