كيف استطاعت وُرقية تُسمّى "وعد بلفور"، وقّعها سياسي بريطاني يوم 2 نوفمبر 1917، وتتضمن أقلّ من مائة كلمة، أن تغيّر مجرى التاريخ في منطقة عربية تُعتبر قلب العالم ومنطلق الحضارات والديانات السماوية؟ وكيف تمخّض محتواها البائس فأنجب كيانا استعماريا استطانيا شيطانيًّا لا يزال، منذ أكثر من قرن، يعمل على إبادة الشعب الفلسطيني وطمس هويّته ومحو وجود الدولة العربية الفلسطينية بكل ميراثها التاريخي العظيم؟
يَعتبر كثيرٌ من الصهاينة أن 2 نوفمبر 1917 هو بداية التاريخ الحديث لليهود. وتخليدًا لهذا اليوم، أطلقوه على بعض الشوارع في فلسطين المُحتلة (ما يُسمّى دولة "إسرائيل"). وأطلقوا اسم "بلفوريا"، نسبة إلى صاحب الوعد المشؤوم "آرثر جيمس بلفور" (1848 - 1930)، على أول مستوطنة صهيونية تأسّست بعد إعلان وعد بلفور، وكان تعداد سكّانها 18 يهوديًّا آنذاك.
ولكن قبل وعد "بلفور" بحوالي 118 عاما، أعطى "نابليون بونابرت" وعدًا بوطنٍ قومي لليهود، كان ذلك عندما حاصر مدينة عكّا عام 1799، ولكنه انكسر وفرّ هاربًا تحت جُنح الظلام مع جيشه المنهزم المنهك من "الطاعون". وممّا جاء في وعد نابليون لليهود: "إن العناية الإلهية أرسلتني إلى هنا على رأس جيشي هذا. وقد جعلَت هذه العنايةُ الإلهية نشرَ العدل وتحقيقه، مطلبي، وتكفّلَت بظفري المستمر، وجعلت من القدس مقرّي العام. وبعد قليل، سوف تجعل مقرّي في دمشق، وسوف أكون جارًا لبلد داوود.
يا ورثة فلسطين الشرعيين، إن الأمّة العظيمة التي أنجبت الرجال تناديكم الآن، لا للعمل على إعادة احتلال وطنكم فحسب، ولا لاسترجاع ما فُقد منكم، بل لأجل مؤازرة هذه الأمة لتحفظوها مصونة من جميع الطامعين بكم، ولكي تصبحوا أسياد بلادكم الحقيقيين.
انهضوا وبرهنوا على أن القوة الساحقة، التي كانت لأولئك الذين اضطهدوكم، لم تفعل شيئا، ولم تثبط همة أبناء الأبطال أجدادكم، أجدادكم الذين كانت محالفتهم تُشرّف إسبرطة".
"وعد نابليون" جاء في بيانٍ أصدره لمخاطبة يهود العالم، وتحريضهم ليدعموا حملته على الشرق العربي، وليثيروا الفتن والفوضى في الأوساط الشعبية العربية. ويبدو أنه كان في صراع مع حكومة الإدارة الفرنسية في بلاده، وأراد استقطاب اليهود، الأوروبيين خاصة، لمعرفته بما يمتلكون من قدرات في وسعها أن تساعده وتحسم الصراع لصالحه.
ويذكر بعض المؤرخين بأن يهوديًّا إيرلنديا بارزا، يُدعى "توماس كوربيت"، بعث رسالةً إلى حكومة الإدارة الفرنسية يُحرّض فيها على استعمار الشرق، وإنشاء وطن لليهود في فلسطين يكون لفرنسا قوة مؤثّرة فيه. وقد جاء في هذه الرسالة: "إن اليهود سيكونون لكم عنصرا استعماريا يحلّ في آسيا محلّ الإمبراطورية الآخذة في الانحلال (يقصد الإمبراطورية العثمانية). وسوف يقدّم لكم هذا العنصر اليهودي أهمّ الضمانات لبثّ الفوضى وهدم الدين (الإسلام) وإشعال الأزمات. وسوف يلين هذا العنصر التركي الصلد والمتعصّب، نتيجة الاحتكاك والاختلاط باليهود، القادمين من مختلف البلدان، حاملين مختلف النظريات والثقافات".
قد تكون هذه الرسالة واحدةً من رسائل كثيرة لم يُكشف عنها بعد، عرض فيها اليهود خدماتهم على القوى الغربية عموما، مقابل تحقيق أهداف مُعيّنة منها: تحريض الغرب على استعمار الشرق، وإقامة دولة يهودية. وقد لاقت تلك الرسالة قبولا من طرف حكومة الإدارة الفرنسية التي أعدّت، عام 1798، خطة سريّة لإقامة "كومنولث يهودي في فلسطين"، في مقابل التزام اليهود بدعم الحملة الفرنسية ماديا لاحتلال مصر والمشرق العربي، لا سيما وأن فرنسا كانت تعيش أزمة اقتصادية خانقة، إضافة إلى التزامهم بإثارة الفوضى وإشعال الفتن وصناعة الأزمات في المناطق التي يتوجّه إليها الجيش الفرنسي لاحتلالها.
وخلال هذه الفترة، دعا أحد زعماء اليهود الفرنسيين إلى تكوين مجلس يضمّ جميع الطوائف والفئات اليهودية، ويتّخذ من باريس مقرًّا له، ليعمل بالتنسيق مع حكومة الإدارة الفرنسية من أجل "إعادة بناء وطن يجمع شمل اليهود وينظّم حياتهم". وجاء في منشور (بيان) أصدره هذا اليهودي: "إن عددنا 6 مليون (يقصد اليهود)، منتشرون في جميع العالم. وفي حوزتنا ثروات وأموال وممتلكات طائلة. وعلينا أن نتدرّع بكل قوّتنا لاستعادة بلادنا. إن الفرصة سانحة ويجب أن نغتنمها. يجب أن نعمل بالوسائل الآتية لتحقيق مشروعنا المقدس: يجب إقامة مجلس يهودي عالمي يُنتخب من يهود 15 بلدًا هي: إيطاليا، سويسرا، المجر، بولندا، روسيا، شمال بريطانيا، إسبانيا، ويلز، السويد، تركيا، آسيا، إفريقيا. هذه اللجنة اليهودية الدولية تكون قراراتها مقبولة لدى كل يهود العالم، بحيث تصبح قانونا مُخضِعًا مُلزِمًا. واقتراحات هذا المجلس الدولي تُبلّغ إلى الحكومة الفرنسية إذا اقتضى الحال ذلك. أما البلاد التي تنوي قبولها مع فرنسا فهي: إقليم الوجه البحري من مصر إلى عكّا، والبحر الميت إلى البحر الأحمر. هذا المكان من العالم هو الأكثر ملائمة من أيّ بقعة أخرى في العالم. ونحن نصبح فيه قابضين على تجارة الهند وبلاد العرب وإفريقيا الجنوبية والشمالية. ولن تتأخّر إثيوبيا عن إقامة علاقات تجارية معنا بملء رضاها، فهي البلاد التي قدّمت للملك سليمان الذهب والعاج والجواهر الكريمة.
ثم إن مجاورة حلب ودمشق لنا تسهّل تجارتنا. وموقع بلدنا هذا على البحر الأبيض المتوسط، يمكّننا من إقامة مواصلات سهلة مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وسائر أوروبا.. إن هذا المكان المتوسط موقعًا من العالم سوف يُصبح وكأنه مستودع لجميع الحاصلات التي تنتجها الأرض الغنيّة حوله. أما الاتفاقات والترتيبات الأخرى باقتراحاتنا للباب العالي، فلا تُنشر علنًا. وسوف نضطرّ لإبقائها منوطة بحسن إدارة الأمّة الفرنسية".
من خلال هذا المنشور، يُمكن أن ندرك ما يلي:
- الحلم اليهودي الأول بإقامة وطن لليهود في فلسطين، قد سبق ظهور مصطلح "الصهيونية" الذي أطلقه الصحفي السويسري "ناتان بيرنبون"، عام 1890، ويعني النهضة السياسية لليهود ومنح اليهودية الدينية بُعدًا قوميًّا يُبرّر "العودة" الجماعية لليهود إلى فلسطين.
- إنشاء "الوطن اليهودي" لم يكن أساسه دينيًّا، بل كان اقتصاديًّا وتجاريًّا قبل كل شيء. واختيار فلسطين كان لاعتبارات استراتيجية منها: القرب من أوروبا.
- مشاركة يهود من 15 دولة لانتخاب "المجلس اليهودي العالمي" يعني ضمنيًّا أن كل دولة من هذه الدولة موافقة على إنشاء "الوطن اليهودي"، وأن كل يهودي من المجلس يمثّل الدولة التي ينتمي إليها، أو على الأقل له نفوذ فيها.
- عبارة مشروع "الوطن المقدس" تعني بأن التخطيط لإقامته قد سبق فترة "وعد نابليون" بوقت قد يكون قصيرا أو طويلا.
- أراد اليهود الحصولَ على فلسطين كـ"مكافأة" نظير خدمات يقدّمونها للدول الاستعمارية الغربية: الأموال، إثارة الفتن، صناعة الأزمات، نشر الفوضى.. في البلدان العربية. وفي هذا السياق، يُمكن القول بأن انتشار النفوذ اليهودي في الدول الغربية خاصة، وفي دول أخرى عبر جميع قارات العالم، له تاريخٌ طويل، ويتميّز بالتأثير والفعالية، وليس نفوذًا يعود إلى المائة عام الماضية مثلا، ومن الصعب التكهّن بمدى قوة هذا النفوذ اليوم، وإن كنّا نلمسه من خلال مظاهره في الغطرسة الصهيونية وعبثها بكل الأعراف والقوانين الدولية، لا سيما خلال حرب الإبادة على غزة وصمت الدول الغربية المؤثّرة في العالم..
وإذًا، إن "وعد بلفور" كان تتويجًا لتاريخٍ طويل من العمل اليهودي في سبيل إنشاء "وطن قومي" لليهود. يتجلّى ذلك من "وعد نابليون"، وربما هناك وعود أخرى حصلوا عليها من دول أخرى ولم يُكشف عنها حتى الآن. والحقيقة الأكيدة هي أن اليهود أعجز من إنشاء قرية لهم بدون دعم من قوة كبرى، فما بالك بإقامة وطن! وقد أدركت الحركة الصهيونية هذه الحقيقة، فقامت بعرض خدماتها على الإمبراطورية الألمانية - مثلا - مقابل الحصول على "وطن قومي" في فلسطين.
ورغم ما قيل بأن فلسطين كانت خيارا من ضمن خيارات أخرى لتكون "وطنا قوميا" لليهود مثل: سيناء في مصر، برقة والجبل الأخضر في ليبيا، وبلدان أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإن تاريخ "الحلم اليهودي" كان يستهدف فلسطين منذ بدايته كما رأينا، وما قاله "هرتزل"، زعيم الصهيونية، في مذكراته: "لا يهمّنا مطلقا ربط الوطن اليهودي بأرض أجدادنا"، هو مُجرد هراء، بدليل أنه استعمل عبارة "بأرض أجدادنا" التي يقصد بها فلسطين. ثم أن هجرات اليهود إلى فلسطين سبقت وعد بلفور عام 1917، بل سبقت حتى المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897، فقد كانت الهجرة الأولى خلال الفترة (1882 - 1904)، والهجرة الثانية خلال الفترة (1904 - 1914) التي ظهرت فيها بعض الأحزاب الصهيونية في فلسطين مثل: "العامل الفتى" و"عمّال صهيون"، وانتشرت - خلال هذه الهجرة - أفكار عنصرية ضد الفلسطينيين مثل: "العمل العبري"، و"دين العمل"، وفكرة "احتلال العمل" التي تعني إجبار المزارعين اليهود على طرد العمّال الفلسطينيين وإحلال الصهاينة محلّهم بالقوة.
قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، كان المقر المركزي للحركة الصهيونية في مدينة "برلين" الألمانية. وكانت الحركة منقسمة إلى جناحين يتصارعان حول القوة الدولية التي يجب المراهنة عليها لتحقيق "الحلم اليهودي"، حتى جاء "وعد بلفور" فحسم الصراع لصالح بريطانيا. ويشير بعض المؤرّخين بأن الحركة الصهيونية اختارت عدم الانحياز إلى أيّ معسكر خلال الحرب العالمية الأولى، لكن جناح رئيس منظمة الصهيونية العالمية، "حاييم وايزمان"، كان يرى بأنه لا يجب التعويل على تركيا لأنها من الخاسرين في الحرب، كما رأى بأن بريطانيا ستحتل فلسطين، لذلك عمل للحصول على تصريح إقامة "وطن لليهود" منها.
بلغ عدد المسودات التي سبقت إعلان وعد بلفور النهائي، 12 مسودة قدّمتها الحركة الصهيونية إلى حكومة بريطانيا، إضافة مسودّات قدّمتها إلى حكومات دول استعمارية أخرى. ويوم 2 نوفمبر 1917، صدر "وعد بلفور" أو تصريح بلفور، مطبوعا وموقّعًا بخط يد "آرثر بلفور"، وقد حفظ "ليونيل والتر روتشيلد" نسخة منه في المتحف البريطاني. وهذه هي الترجمة الحرفيّة لنص الوعد المشؤوم:
وزارة الخارجية، 2 نوفمبر 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
إنه من دواعي سروري أن أنقل لك، باسم حكومة جلالتها، التصريح التالي بالتعاطف مع المطامح اليهودية، التي تم تقديمها إلى المجلس الوزاري المُصغّر، والتصديق عليها من قِبَله:
تنظر حكومة جلالتها بالعطف إلى إقامة بيت وطني للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف، ويجب أن يُفهم بوضوح أن لا شيء سوف يحدث مما قد يضرّ بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، أو بالحقوق والوضع السياسي التي يتمتع بها اليهود في أيّ بلد آخر.
وسوف أكون ممتنًّا إذا نقلت هذا التصريح إلى عِلم المنظمة الصهيونية.
مع وافر احترامي
آرثر جيمس بلفور
استعمل تصريح بلفور عبارة "بيت وطني" بدلا من "وطن قومي"، وعبارة "الطوائف غير اليهودية" بدلا من "الشعب الفلسطيني".. ونترك للقارئ مهمة مقارنة تصريح بلفور، في صيغته النهائية، مع صيغته في المسودة الأخيرة التي جاء فيها:
تقبل حكومة بريطانيا مبدأ إقامة وطن جديد للشعب اليهودي على أرض فلسطين. وسوف تبذل قصارى جهدها لضمان تحقيق هذا الهدف. وتبحث السُّبل والوسائل المطلوبة مع المنظمة الصهيونية.
من المجدي التساؤل عن الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى إصدار "وعد بلفور"، وما هي الفوائد التي جنتها أو حصلت عليها من الحركة الصهيونية؟ إن تركيبة الحكومة البريطانية، التي تشكّلت عام 1916 برئاسة "لويد جورج"، كانت تميل إلى الحركة الصهيونية لأسباب عقائدية، ولكن هذا السبب لوحده لا يبدو مقنعا وكافيًّا، لذلك يضيف بعض الكُتّاب البُعد "الأخلاقي" إلى البُعد العقائدي، حيث رأت الكاتبة والمؤرّخة الامريكية "باربرا توخمان"، صاحبة كتاب: "الكتاب المقدس والسيف: إنجلترا وفلسطين من العصر البرونزي إلى بلفور" (الصادر عام 1956)، بأن الوزير "بلفور" كان يشعر أن العالم مدينٌ لليهود دينيًّا وأخلاقيًّا، وأن على المسيحيين مساعدة اليهود لإقامة دولة. ورأى كُتّاب آخرون أن "الجهود الحثيثة لحاييم وايزمان شخصيًّا، ومكانته لدى حكومة بريطانيا، بسبب إنجازه العلمي عقب تمكّنه بالمصادفة - خلال محاولة فاشلة لإنتاج المطّاط معمليًّا - من اكتشاف طريقة لإنتاج الأسيتون، الذي أفادت منه بريطانيا خلال الحرب. هذا تفسير ذكره أيضا لويد جورج في مذكراته باعتباره السبب المركزي لمنح التصريح. لكن بربارة توخمان تنفي هذا وتزعم أن أسبابًا اقتصادية واستراتيجية دفعت إلى إصدار التصريح". أما المؤرخ الأمريكي "جوناثان شنير" فرأى أن "فلسطين كانت رشوة بريطانية لليهود"، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما قال: "إن الصورة الأسطورية عن اليهود هي ما دفعت بريطانيا، بعد استطالة أمد الحرب، إلى الاعتقاد أن اليهود قادرون على فعل ما قد يبدو مستحيلا. فهم قادرون على دفع الإدارة الأمريكية إلى مساندة بريطانيا، وكذلك قادرون على حثّ لينين البلشفي على عدم الانسحاب من الحرب".
ويبدو أن السبب الأكثر قبولا هو ذلك الذي أبداه بعض السياسيين البريطانيين حينما قالوا إن "تصريح بلفور، أملته بالدرجة الأولى مصالح بريطانيا في مساعدة أصحاب البنوك اليهود، وخاصة الأمريكيين منهم، ثم حثّهم للإدارة الأمريكية لمساعدة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى". والأكيد أن "وعد بلفور" كان وثيقة أعدّتها بريطانيا لتستخدمها في سعيها للحصول من عصبة الأمم على حق الانتداب على فلسطين، وقد أصبح (الوعد) أساسًا لقرار الانتداب بالفعل. كانت عصبة الأمم معنية بإقامة كيانات قومية بزعم القضاء على جذور أيّة صراعات طائفية، بينما السبب الرئيسي هو تقسيم تركة الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض) بين القوى العظمى، وخلق كيانات تكرّس من خلالها حالة الطائفية التي تبرّر وجودها".
ولا نجد ما نُنهي به هذا المقال أقوى من مقال العلّامة الجزائري الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي"، فقد كتب في مجلة "الرسالة" المصرية، بتاريخ: 03 - 05 – 1948، مقالا بعنوان "الإنكليز حلقة الشر المفرغة"، جاء فيه:
أيها العرب!
إن الإنكليز هم أول الشرّ ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان، منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي. وإنهم لَيزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صورٌ مجسَّمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسومة تهشّم وتحطّم وتخرّب، لا لمَّة تلمّ ثم تنجلي، وطائف يمسّ ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق. ويزيدون عليه بأنهم لا يُطرَدون باستعاذة وتذكّر القلب ويقظة الشواعر، وإنما يُطردون بما يُطرد به اللص الوقح من الصفح والأحجار والمدر، ويُدفعون بما يُدفع به العدو المواثب، بالثبات للصدمة، والعزم المصمّم على القطيعة وبتّ الحبال، والإرادة المصرّة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان: (إن الإنكليز لكم عدو فاتخذوهم عدوا)، يردّدها كل عربي بلسانه، ويجعلها عقيدة جِنانه، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدّمه من قرباته.
قد غرّكم أول الإنكليز، فأعيذكم أن تغترّوا بآخره بعد أن صرح شرّه، وافتضح سرّه، وانكشف لكم لينه عن الأحساك والأشواك. وقد تمرّس بكم فعرف الموالج والمخارج من نفوسكم قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلّل معادن النفوس منكم قبل إن يحلل معادن الأرض من وطنكم؛ وعجم أمراءكم فوجد أكثرهم من ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم.
قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوّى أمله، ولولا وعده لكانت الصهيونية اليوم - كما كانت بالأمس - حلما من الأحلام يستغلّه (الشطّار)، ويتعلل به الأغرار. وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقق وعده؛ وأن في ظل انتدابه، وبأسنّة حرابه، حقق صهيون مبادئ حلمه فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز، وفتن ضعفاءكم بالخوف وفقراءكم بالمال حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسّماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهّد الأرض بأيديكم، وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم أو ابتزاز أرزاقكم. وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنّوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر، غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع. ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعة إلا في دين الإنكليز؟
وعلمتم أن بريطانيا هي التي جرّت ضرتها البلهاء أمريكا إلى محادّتكم، وجرّأتها على احتقاركم، لتكيدها وتكيدكم، ولتحلّ بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات؛ وأنها هي التي ألّبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها، حتى إذا جالت الأزلام، وأيقنت بالفوز، أمسكَت إمساك المُتعفّف، وتظاهرت بالرويّة والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويهًا بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المُعزّي..

