منذ أن أكل آدم التفاحة، والبشر لم يتوقفوا عن شهوة المعرفة، لا المعرفة التي تفتح العقول، بل تلك التي تفتح الأبواب الموصدة على حياة الآخرين. وكأن الفضول جزء من جيناتنا الأولى، فكلّ جيل يورّث الجيل الذي بعده حبّ "الفرجة" على السقوط. والناس في مجتمعاتنا حين يسمعون عن زلّة أحدهم، لا يسألون كيف نساعده، بل من الذي صوّر؟ وفي أيّ ساعة؟ وهل الفيديو واضح؟
المفارقة أننا نحفظ عن ظهر قلب الحديث الشريف: "من ستر مؤمنًا ستره الله يوم القيامة"، لكننا نحفظه كما نحفظ النكات: نرويه ونحن نفعل عكسه تمامًا. نُصلّي الظهر وننشر التسريب، نقرأ سورة "النور" ونشاهد الفضيحة ذاتها عشر مرات للتأكد من التفاصيل، ونستغفر بعد أن نشاركها في مجموعة العائلة على "واتساب". نحن قوم لا يخطئون فقط، بل يتلذّذون بخطايا الآخرين كي ينسوا أنفسهم لحظة.
قال "سقراط" ذات يوم: "تكلم حتى أراك"، ولو عاد اليوم لقال: "انشر حتى أراك"، لأن الوجود صار مرهونًا بما يُنشر لا بما يُفكّر. و"ديكارت" الذي بنى فلسفته على "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، لو تصفّح "تويتر" لقال يائسًا: "أنا أُفضَح إذًا أنا موجود". فالإنسان لم يعد موجودًا إلا بمقدار ما يُشاهَد، ومن لم يتعرّض بعد لفضيحة رقمية فهو في حكم المجهول.
ولأننا أمّة لا تصنع المعرفة لكنها تجيد التفاعل معها، تحوّلت الفضائح إلى مادة يومية تُقدَّم بحماس يفوق نشرات الأخبار. فالناس اليوم لا يجتمعون على فكرة، بل على سقوط أحدهم. لا يتناقشون في كتاب، بل في مقطع مسرّب. لقد ورثنا من "غوستاف لوبون" عبارته الشهيرة: "الجماهير لا تفكّر، بل تنفعل"، وطبّقناها بأمانة مذهلة: ننفعل بالصوت والصورة قبل أن نفكّر بالرحمة أو بالمنطق.
الفضيحة ليست حدثًا عابرًا، بل تجربة نفسية تترك ندوبًا لا تُرى. المفضوح يعيش في زجاجة من الهمس، يراه الجميع ولا يرى نفسه، يسمع ضحكاتهم حتى في صمته. قد يغلق هاتفه، لكنه لا يستطيع أن يغلق ذاكرة الإنترنت. في الأزمنة القديمة كان الإنسان يهرب من القرية، أما اليوم فحتى إن سافر إلى القطب الشمالي، فإن الفضيحة تلاحقه عبر الـ "واي فاي".
وحدهم المشاهير وجدوا طريقة للتصالح مع هذا الجحيم، بل لتحويله إلى وقود. "أوسكار وايلد"، الذي عاش حياة مليئة بالجدل، قال ساخرًا: "الشيء الوحيد الأسوأ من أن يتحدث الناس عنك، هو ألا يتحدثوا عنك على الإطلاق". ومن حينها صار كثيرون يؤمنون أن الفضيحة طريق مختصر إلى الشهرة. فالفنان الذي كان يحتاج إلى عشر سنوات ليشتهر، يكفيه اليوم أن يرتكب غلطة واحدة تُصوَّر بجودة عالية ليُستضاف بعد يومين في برنامج حواري عنوانه: "أنا والضجة". أما الأدباء، فبعضهم أدرك أن رواية مملوءة بالإيحاءات تُباع أكثر من كتاب جادّ عن الأخلاق أو الفلسفة، وأن الاتهام بالانحراف أحيانًا أكثر فائدة من المديح الأدبي.
وسائل التواصل الاجتماعي لم تخترع الفضيحة، لكنها جعلتها ديمقراطية، متاحة للجميع كما الماء والكهرباء. صار كل مواطن محطة بثّ مباشر، وكل هاتف صحيفة فضائحيّة متنقّلة. وفي هذا العالم، لا فرق بين الصحفي والمغسّل؛ كلاهما "ينشر الغسيل"، لكن واحدًا ينشره بحبر والآخر بالبيكسلات.
لقد تحوّل الشرف إلى رقم، والسمعة إلى إشعار. يُقاس نقاء الإنسان بعدد المتابعين الذين لم يلغوه بعد أول خطأ. ومن ينجو من أول فضيحة يُعتبر "قوي الشخصية"، ومن يعتذر يُتّهم بالتمثيل. ولأننا نعيش في عالم يحكمه "الترند"، فقد صار المعيار الأخلاقي بسيطًا: هل الفيديو وصل إلى المليون مشاهدة أم لا؟
في العالم العربي، حيث تختنق العقول بالممنوعات، صارت الفضيحة وسيلة تنفّس جماعي. نحن لا نجرؤ على نقد الحاكم، فننقد حياة المطرب. لا نتحدث عن السياسة، فنبحث عن صور الممثلة. لا نغيّر واقعنا، بل نُدين من تجرّأ على العيش بطريقته. إننا نُفرّغ قهرنا في الآخرين، ونصنع من الفضائح خبزًا يوميًا نأكله لننسى جوعنا الحقيقي إلى الحرية والكرامة والمعنى.
الطريف أن أكثر من يُدينون الفضيحة، يبدؤون جملهم بعبارة: "أنا ما بحب الحكي، بس والله لازم نحكي الحقيقة!"، ثم يبدؤون رواية تفاصيل لا علاقة لها بالحقيقة. لقد أصبح الستر ضعفًا، والصمت تواطؤًا، والنصيحة في السرّ سذاجة.
ولعل أجمل ما في هذا العصر أنه جعل الفضيلة خيارًا شخصيًا لا شعبويًّا؛ أن تختار الصمت في زمن الكلام المباح هو بطولة، وأن ترفض مشاركة مقطع يدمّر حياة إنسان هو مقاومة. فربما نحتاج إلى إعادة تعريف البطولة لا على أنها قتل التنّين، بل حماية مَن سقط مِن مخالبه.
في النهاية، سيكتشف الجميع أن من يدمن فضائح الآخرين، يكتب سطور فضيحته القادمة بيده. وأننا، نحن الكائنات الفضولية التي تسكن الشاشات، لا نحتاج إلى مزيد من الكاميرات، بل إلى مرآة واحدة نجرؤ أن ننظر فيها دون أن نخاف مما نراه.

