2025.05.15
فسيفساء

قراءة في همس الشاعرة اللبنانية"دورين سعد"


ركضتُ خلف حلم هارب

           حين أمسكتُ به؛

        أحرقته شمس اليقظة

            فتفتّح الجرح  على حافة الضوء...

                                              د. دورين سعد

همس للشّاعرة دورين سعد يحاور الرّوح في مسيرة الإنسان الحياتيّة نحو إثبات الذّات، فبين الحلم والحقيقة هروب إلى اللاوعي في حلم عاجز أمام الحقيقة.

تُظهر الشّاعرة من خلال هذه الأسطر مراحل هذا الهمس عبر استخدام الأفعال الماضية الّتي تشير إلى سرد سلسلة من الأحداث الحاصلة في طريق هذا الحلم، (ركضتُ/ أمسكتُ به/ أحرقَته/ تفتَّح)، والّتي تُظهر البذل والجهد، ففي الرّكض أنفاس متقطّعة، ودقّات قلب سريعة، وتعب، وألم،  وينتهي هذا الحلم عند اليقظة أي عند أوّل خطوة تلامس الواقع، فتعيش الكاتبة الحلم فقط في اللّاوعي، في الخيال. أمّا عن الضّمائر فكان ضمير المتكلّم يسكن الحلم الّذي يعيش داخل الكاتبة، وتأتي شمس اليقظة لتكون فاصلًا بين الحلم والحقيقة إذ تنتقل الكاتبة إلى استخدام ضمير الغائب للدّلالة على هذا الانفصال بين الكاتبة والحلم، بين متخيَّل وواقع، بين غفلة وانتباه، فهي السّاعية في الحلم والمغيّبة في اليقظة حيث يتلاشى دورها ويسيطر دور الشّمس الحارقة في التّغلّب على كلّ الأدوار.

أمّا عن الشّخصيّات فيتبدّل الحلم من كونه عنصرًا غير ملموس، إلى شخصيّة رئيسة ملموسة (أمسكت به) تصنع عناصر الحياة، ما يدفع بالكاتبة إلى الرّكض خلفه، فيكون هو القائد لمراحل تطوّر هذه الأحداث والحالات؛ إنّ كلّ سطر يمثّل حالة، الحالة الأولى، في السّطر الأوّل، مرتبطة بالرّكض والجهد والسّعي، الحالة الثّانية هي التقاط الحلم (حين أمسكت به) وخُتم السّطر بفاصلة منقوطة تقودنا إلى نتيجة الإمساك بالحلم المتمثّلة في الحالة الثّالثة ألا وهي احتراق الحلم، والحرق يذيب كلّ معالم الحياة، وكلّ تفاصيلها الدّقيقة، ويزيل رونقها وجمالها! أمّا الحالة الأخيرة فهي في الألم عند تفتّح الجرح (فتفتّح الجرح على حافّة الضّوء) وختمت بثلاث نقط يُكملها المتلقّي في تخيّل هذا العذاب واستشعاره.

تأخذنا الكاتبة إلى الكثير من التّأويلات، فلربّما هو حلم لن يتحقّق، ويرتبط بالمستحيل، ولربّما هو حلم تحقّق ولكنّ الإمساك به كذّب بريقه، فأحرقته شمس اليقظة، وكأنّ هذه اليقظه هي منبّه نقل الكاتبة من حال إلى حال، من الغفلة إلى الانتباه، فالجرح في الأصل موجود لأنّ حياة الإنسان لا ترتبط بالكمال، ولكنّه في مخيّلته يربط الحلم بالكمال إلى أن يصل إليه، حيث يتفتّح الجرح على حافّة الضّوء، والحافّة هي خطّ فاصل بين الماضي والحاضر، وبين الظّلام والنّور، والواقع والمتخيّل... فتخيب الآمال، ويخيب المتوقّع من الحلم، وهنا رسالة الكاتبة إلى أنّ ليس كلّ ما نراه جميلًا هو في الواقع جميل، فقد تكون الأمور مرصّعة في خيالنا وأحلامنا، لكنّها في الواقع قد تأتي مخالفة لذلك، وهنا يتفتّح الجرح ألمًا لعجز الإنسان عن الاكتمال وغفلته عن هذه العواقب الّتي كسرت التّوقّع خيبةً، أو ربّما كسرت التّوقّع في رهجة تلك السّعادة المؤقّتة.

تحاول الكاتبة تصوير هذه الحالة فتُرسَم الأحداث أمامنا كصورة متحرّكة تحفّز الخيال على استدراك هذا السّعي خلف الحلم بحركة سريعة فهي تركض (ركضتُ) وكذلك فإنّ الحلم (هارب)، وانقطعت هذه الحركة عند الإمساك بالحلم وهو العنصر المبدّل الّذي خلق الجمود وكانت نتيجته الاحتراق، فالرّغبة في الحصول على الحلم كانت دافعًا لهذه الحركة، وإنّ هذا الوصول قتل اللّذة، وهنا طرحت الكاتبة رؤية فلسفيّة عميقة في أنّ المتعة تكمن في الحلم، في الشّوق، وليس في الامتلاك، على أنّه يولّد الجمود عند اليقظة، ما أدى إلى احتراق الحلم، فأصبح باهتًا لا لون له ولا طعم، وكذلك فإنّ رغبة الإنسان لا تنتهي، فما إن يقطف ثمار حلمه، حتّى يقبع تحت أجنحة الملل، لينتقل إلى حلم آخر يجدّد حيويّته، لأنّ الاكتمال ناقص دائمًا عند الإنسان، والسّعي إليه يولّد الرّغبة، والرّغبة تولّد الحركة، وتبعد الملل والرّتابة. وإنّ السّعادة مؤقّة وتختلف كثافتها فتتقلّص تلقائيًّا بدءًا من زمن ما قبل التّحقيق، ولحظة التّحقيق وما بعده، وهذا ما يولّد عدم الاكتفاء والسّعي المستمر نحو السّعادة الحقيقية، وإثبات الذّات، لأنّ هذا الجرح المحروق لا يلتئم أبدًا ويبقى دائمًا على حافّة الضّوء بين عالمين متضادّين، وهو ما يولّد دورة الحياة: حلم، فحقيقة، ثمّ جرح، فحلم، وهكذا حتّى الممات وإلّا فالإنسان ميت على الرّغم من وجوده على قيد الحياة، لأنّ الجمود موت، والاكتفاء موت للحلم، والحلم هو محفّز ذاتيّ يدفع بالإنسان نحو تحقيق رغبة مكبوتة.

نجحت الشّاعرة في تصوير رحلة كاملة في أسطر قليلة وقصيرة لكنّها مكثّفة وعميقة، جاءت بشكل هندسيّ جديد، إذا حاولنا أن نتخيّله يعطينا متوازي الأضلاع، ذلك الشّكل الّذي تسير خطوطه بشكل مائل نحو اللّانهائيّة، كأنّ بالكاتبة تضع نصّها في قالب يتناسق معه، فمسار الحلم لانهائيّ كمسار خطوط هذا الشّكل الهندسيّ، وهو مائل كخطّيه المتقابلين المائليْن،  كإشارة إلى العوائق والمتاعب في سبيل تحقيق هذا الحلم الهارب، وعلى الرّغم من أنّ هذه الخطوط مائلة إلّا أنّها تسير باتّجاه ثابت نحو هدف محدّد يحمله الحلم، وما إن تلتقي هذه الخطوط المائلة مع الخطوط الأفقيّة حتّى تعطينا شكلًا مغلقًا يشي بالجمود، كحالة الإمساك بالحلم، عند الالتقاء بين الذّات والحلم حيث حدّ التقاء هذه الخطوط من استمرار الحلم فأحرقه، وهنا دعوة مبطّنة للتّحرر من قالب الجمود ليس فقط على صعيد الكلمات، إنّما بإشارة هندسيّة أيضًا خلقتها الكاتبة لتتناسب مع المضمون، فكانت المفارقة والدّهشة شكلًا ومضمونًا، إذ إنّ المتوقّع من الإمساك بالحلم هو الفرح، لكنّنا وجدنا العكس في جوّ متقلّب بين الحركة والسّكون والألم، فحمّلَتنا الكاتبة عبرة في الحياة، أنّه لا حياة من دون حلم، فالحلم هو طريق محفّز يصنع الذّات، ويبعدها من الرّتابة والملل، وعلينا أن نحلم كثيرًا، فالإرادة تصنع المستحيل! وإن أخذنا عبارتها في السّطر الأخير وحدها  (تفتّح الجرح على حافّة الضّوء) لكانت أيضًا ومضة تشرّع أبواب الخيال على الكثير من التّأويلات المرتبطة بحياة الإنسان لكثافتها وبلاغتها.