يُعتبر لورينزو ترومبيتا، الباحث الإيطالي المستعرب والصحفي في وكالة الأنباء الإيطالية ANSA، واحدًا من الأسماء البارزة في مجال أبحاث الجغرافيا السياسية. أمضى ترومبيتا 25 عامًا في الشرق الأوسط متنقلاً بين بيروت ودمشق وروما، حيث عمل على دراسة التاريخ المعاصر لسوريا وألف عدة دراسات حول هذا الموضوع. وهو حاليًا محلل أول لمجلة "Lims" الإيطالية المتخصصة في الجغرافيا السياسية.
يرى ترومبيتا أن النهج التصعيدي الذي تتبعه الولايات المتحدة ضد حركة الحوثيين لن يؤدي إلى هزيمتهم، بل سيسهم في تعزيز بقاء الحركة في السلطة ومنحها شرعية أكبر في نظر السكان المحليين. وفقًا له، فإن الهدف الأمريكي من تصنيف الحوثيين كـ "منظمة إرهابية" هو إجبارهم على التوقف عن مهاجمة "إسرائيل" والمصالح الغربية في منطقة البحر الأحمر.
الأيام نيوز: منذ أحداث فبراير 2011، شهد اليمن تحولات عميقة أثرت على المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ورغم أن هذه الأحداث بدأت بثورة شعبية تطالب بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية ضد نظام علي عبد الله صالح، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى صراع بين القوى التقليدية والناشئة. ما هي هوية اللاعبين السياسيين في هذا البلد؟
لورينزو ترومبيتا: المشهد السياسي في اليمن معقد للغاية، ومليء بمزيج من التحالفات والمنافسات التي تطورت على مدى سنوات من الصراع وديناميكيات السلطة المتغيرة. فيما يلي ملخص أكثر سهولة للاعبين الرئيسيين:
- الحوثيون: بفضل الدعم الإيراني، نجح الحوثيون في تعزيز قبضتهم على أراضيهم ووجدوا أنفسهم في قلب مفاوضات عالمية.
- الحكومة المعترف بها دوليًا: تواجه هذه الحكومة، بدعم من المملكة العربية السعودية وحلفاء آخرين، تحديات كبيرة في الحفاظ على السيطرة والشرعية، خاصة بسبب الانقسامات الداخلية.
- المجلس الانتقالي الجنوبي: يعمل المجلس الانتقالي الجنوبي في الجنوب، ويسعى إلى استقلال تلك المنطقة. يتلقى الدعم من الإمارات العربية المتحدة ولكن يتنافس أيضًا على النفوذ ضد حكومة الإنقاذ الإسلامية.
- تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية: استغل التنظيم الفوضى في اليمن وحاول توسيع وجوده، رغم تراجع قوته في السنوات الأخيرة.
- المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة: لهذه القوى الإقليمية مصلحة راسخة في استقرار اليمن وموقعه الاستراتيجي. لقد خلقت مشاركتهم فرصًا وتعقيدات لتحقيق أهدافهم. لدى أبو ظبي والرياض أهداف متناقضة في المنطقة، وهما تتنافسان على السيطرة على مناطق النفوذ. تتطلع الإمارات العربية المتحدة إلى توسيع سيطرتها البحرية، ولهذا السبب فهي أكثر حرصًا على السيطرة على جنوب اليمن وساحل البحر الأحمر، بينما يصر السعوديون على أن يكونوا قوة إقليمية برية تستفيد من وجودهم الداخلي في شبه الجزيرة العربية الذي يربط المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط.
- إيران: من خلال دعمها للحوثيين، سعت إيران إلى توسيع نفوذها في اليمن، وفي كثير من الأحيان وضعت نفسها ضد المصالح السعودية. لكن إيران في تراجع على المستوى الإقليمي وقادتها يحاولون التفاوض على استراتيجية سلام مع الولايات المتحدة.
الأيام نيوز: لا شك أن عمليات الحوثيين في البحر الأحمر قد أكسبتهم تعاطفًا واسعًا بين الشعوب العربية، ولكن قد يكون لمآل الحرب في غزة تأثير على صورة الجماعة المقاومة، مما قد يؤدي إلى فقدان الحوثيين جزءًا من الزخم الذي اكتسبوه. هل تتفقون مع هذه القراءة؟
لورينزو ترومبيتا: على مدار أكثر من عقد من الزمان، نجحت حركة الحوثيين في التحول إلى قوة شبه نظامية في مناطق رئيسية من اليمن، حيث تمكنت من السيطرة على العاصمة صنعاء والشمال، بالإضافة إلى بعض المناطق في المملكة العربية السعودية والجانب الساحلي للبحر الأحمر، بما في ذلك ميناء الحديدة الذي يعتبر من الأصول الاستراتيجية في القضايا الإنسانية والسياسية. وفي هذا الإطار، يعمل الحوثيون على الحفاظ على سلطتهم وتعزيز شرعيتهم من خلال عدة وسائل تكتيكية، منها دعم غزة في مواجهة "إسرائيل". من المهم أن نرى دعم الحوثيين لغزة كأداة لتقوية موقفهم، وليس هدفًا في حد ذاته. بذلك، قد يتفاوضون على وقف إطلاق النار إذا اعترفت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، بحكومتهم كحكومة شرعية. في الوقت الحالي، تتبنى الولايات المتحدة وحلفاؤها سياسة تصعيد العمليات العسكرية في البحر الأحمر، في عمق المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. لكن هذه السياسة لن تقوض الحركة، بل قد تعزز قدرتها على البقاء في السلطة وتضفي شرعية أكبر على تصرفاتها في نظر السكان المحليين.
الأيام نيوز: ما هي التداعيات المحتملة بعد تصنيف الولايات المتحدة جماعة أنصار الله كمنظمة إرهابية على الصعيدين السياسي والإنساني بشكل خاص؟
لورينزو ترومبيتا: يبدو أن هذا التصنيف يأتي في إطار المفاوضات المستمرة بين الولايات المتحدة والحوثيين المدعومين من إيران. تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية يعد أداة تكتيكية في يد واشنطن لتحقيق نجاح استراتيجي في هذه المفاوضات. على مدى عقود، اتبعت الولايات المتحدة سياسة اختيار من تصنفهم كإرهابيين، حيث يتم تحديث قوائم الجماعات الإرهابية والدول الراعية للإرهاب بشكل انتقائي بناءً على تحالفات واشنطن. يُنظر إلى هذا التصنيف كوسيلة للضغط على الحوثيين لوقف هجماتهم ضد "إسرائيل" والمصالح الغربية في منطقة البحر الأحمر. ولكن هذا التصنيف قد يؤدي إلى عواقب إنسانية جسيمة، حيث سيزيد من تعقيد تقديم المساعدات الإنسانية في اليمن، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، بما في ذلك العاصمة صنعاء. هذا قد يعرقل وصول الغذاء والإمدادات الطبية والخدمات الأساسية لملايين المدنيين ويزيد من تعقيد محاولات التوصل إلى حلول دبلوماسية للصراع.
الأيام نيوز: كيف سيتكيف الحوثيون مع التغيرات الإقليمية الحالية، خاصة التقارب السعودي الإيراني، في ظل كون السعودية قد خاضت ضدهم حربًا بينما تعتبر إيران حليفًا استراتيجيًا لهم؟
لورينزو ترومبيتا: على مدار العقدين الماضيين، أظهر الحوثيون مرونة كبيرة في التكيف مع التحولات الكبرى على المستويين المحلي والإقليمي. بعد وصولهم إلى السلطة في 2014، أظهروا قدرة فائقة على التعامل مع التحولات السياسية المحلية والوطنية، كما برعوا في مواجهة التحالف الذي تقوده السعودية منذ 2015. في ظل التقارب الإقليمي بين إيران والسعودية، اعتمد الحوثيون على سياسة براغماتية تتمثل في المشاركة في المفاوضات دون التفريط في أهدافهم الاستراتيجية الرئيسية، مثل السيطرة على الأصول الوطنية (بما في ذلك الأصول المالية في صنعاء) والمراكز اللوجستية الحيوية (مثل المطار وميناء الحديدة). في سياق ما بعد 7 أكتوبر، أصبح الحوثيون يدركون تمامًا دورهم المحوري في التأثير على إدارة الطرق البحرية العالمية، مما يمنحهم قوة تفاوضية كبيرة.
الأيام نيوز: هل تتفقون لو قلنا إن حالة اليمن اليوم هي تعبير واضح عن عمق أزمة الهوية الوطنية برمتها، من خلال عودة المكونات المجتمعية نحو هوياتها الطائفية أو القبلية أو الإقليمية الثانوية والفرعية؟
لورينزو ترومبيتا: إن الاضطرابات المستمرة في اليمن تشكل تذكيرًا صارخًا بمقدار تآكل الهوية الوطنية تحت وطأة الصراع الطويل وعدم الاستقرار. ومع عجز الدولة عن توحيد شعبها، اتجهت العديد من المكونات المجتمعية إلى الداخل، فتماهت أكثر مع هوياتها الطائفية أو القبلية أو الإقليمية، بدلًا من الالتفاف حول هوية وطنية جامعة. هذه الانقسامات ليست مجرد نتيجة للصراع الراهن، بل هي متجذرة أيضًا في إخفاقات الحكم العميقة الجذور والمظالم التاريخية التي تراكمت على مر السنين، بالإضافة إلى التأثيرات الخارجية التي أسهمت في تعزيز هذا التشرذم.
إذا نظرنا إلى تاريخ اليمن في العصور الوسطى، نلاحظ أن الانقسامات لم تكن جديدة؛ فقد كانت البلاد في فترات مختلفة خليطًا من الممالك والإمارات التي تعيش في منافسة مستمرة، كل منها مع هويتها الثقافية الخاصة وحاكمها المستقل. كانت المملكة الحميرية من بين الحضارات التي أرست أسسًا مبكرة للمجتمع، تلاها صعود السلالة الزيدية التي شهدت تطورًا ثقافيًا وتجاريًا، لكنها عززت أيضًا الانقسامات الإقليمية. ومنذ ذلك الحين، كانت التوترات السنية الشيعية، التي لا تزال قائمة حتى اليوم، جزءًا من المشهد السياسي في اليمن، مما يوضح أن هذه الانقسامات كانت تشكل الخريطة السياسية للبلاد لقرون.
ومع مرور الوقت، زادت التدخلات الخارجية من تعقيد الوضع. فقد سيطرت الإمبراطورية العثمانية على الشمال، بينما أسس البريطانيون حكمهم في الجنوب، مما فاقم من التنافسات الداخلية وأدى إلى تعميق الانقسامات. وعندما حصل اليمن أخيرًا على الاستقلال، كانت تلك الجروح التاريخية قد غُرِست بعمق في جسد الوطن.
إن الصراع الذي يعيشه اليمن اليوم ليس مجرد انعكاس للماضي، بل هو أيضًا الدافع الأساسي وراء عدم الاستقرار المستمر. ولإيجاد طريق نحو المستقبل، يتطلب الأمر إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز حكم يشمل الجميع، وبناء سرد وطني مشترك يعلى من المصلحة الوطنية فوق الانقسامات الفصائلية. وإن كان الطريق أمام اليمن مليئًا بالتحديات، فإن الأمل لا يزال قائمًا. فبالتعاون بين جميع المجتمعات اليمنية وتوجيه القيادة الحكيمة، فإن بناء مستقبل أكثر وحدة لا يزال في متناول اليد.