في سجلّ الرسالات السماوية، يبرز نبيّ الله موسى عليه السلام واحدًا من أعظم الأنبياء شأنًا، وأشدّهم بلاء، وأقربهم قربًا إلى الله، حتى لقب بـ "كليم الله"، فقد اختصّه الله بمقام لم ينله أحد من البشر قبله، إذ كلّمه الله تكليمًا، وأوحى إليه مباشرة، وجعل له من الآيات البينات ما زلزل به عروش الطغاة، فقد قال تعالى: ﴿إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي﴾ [الأعراف: 144]، وقال أيضًا: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164].
لقد اصطفاه الله بكلامه، وأيّده بالآيات البينات، وأرسله إلى أعتى طاغية عرفه التاريخ، فرعون الذي قال للناس: "أنا ربكم الأعلى"، ومع ذلك، مضى في طريقه، مؤمنًا بأن المعية الإلهية لا تخذل من صدق، ولا تترك من ثبت، فكان من أولي العزم من الرسل، وكانت رسالته من أعظم ما عرفه التاريخ من الصراع بين الحق والباطل.
ومكانة موسى عند الله هي مكانة فريدة، فبعد أن كلّمه الله تكليمًا، واصطفاه برسالاته، اختصه أيضا بمعجزات لم تكن لأحدٍ غيره.
هذه المكانة لم تكن تشريفًا فحسب، بل تكليفًا ومسؤولية، إذ قاد أمةً مستضعفة، وعاش بين قوم متقلبين، وواجه بطش فرعون الذي تسلط على بني إسرائيل قرونًا، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويغرس في نفوسهم الخوف والمهانة.
وفي أحد أعظم مشاهد السيرة النبوية، تتجلّى واقعة النجاة، حين أُمر موسى بالخروج ببني إسرائيل من مصر، فتبعهم فرعون بجيشه الجرّار، إذ كانت اللحظة حاسمة، البحر أمامهم، والعدو وراءهم، وتملّك الناس شعور العجز والذعر، فقالوا: "إنا لمدركون"، لكن موسى، بثقة لا تتزحزح، ردّ: "كلا إن معي ربي سيهدين"، ثم أمره الله أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر اثني عشر طريقًا، ومشى القوم بين جدارين من الماء، في معجزة لا تُصدّقها العقول، لكنها آية للموقنين.
وما إن خرجوا من البحر سالمين، حتى انطبق البحر على فرعون وجنوده، فغرقوا أجمعين، وزالت معهم سنوات البطش والتجبر.
ولم يكن غرق فرعون مجرد نهاية درامية لطاغية عنيد، بل كان آيةً من آيات الله على أن نهاية الظلم محتومة، ولو طال أمده، ففي لحظة الغرق، حين أُحيط به الموت من كل جانب، نطق بالإيمان وقال: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِیٓ آمَنَتۡ بِهِۦ بَنُوا۟ إِسۡرَٰٓءِیلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ﴾، فجاءه الرد الإلهي حاسمًا: ﴿ءَآلۡـَٔـٰنَ وَقَدۡ عَصَیۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ [يونس: 91].
لحظة فاصلة، تُبيّن أن التوبة والإيمان لا يُقبلان إن جاءا بعد فوات الأوان، وأن للرحمة الإلهية موعدًا لا يُتجاوز، كما أن للعدالة الإلهية لحظة لا تتأخر.
وكان ذلك اليوم هو العاشر من شهر الله المحرّم، اليوم الذي يُعرف باسم عاشوراء، يوم نجّى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون ومن معه.
هذا اليوم المبارك، لم يكن ذكرى فحسب، بل صار في الإسلام عبادةً وسُنّةً نبوية، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب صيامهم، فقالوا: "إنه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله". فقال النبي الكريم: "نحن أحقّ بموسى منكم"، فصامه، وأمر بصيامه.
كما ورد في فضل هذا اليوم حديثٌ عظيم، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"، فصيامه ليس مجرد عادة، بل عبادةٌ عظيمة، يكفّر الله بها الذنوب، ويرفع بها الدرجات، ويقوّي بها صلة العبد بربه.
وقد أرشد النبي إلى استحباب صيام يوم قبله أو يوم بعده، مخالفةً لليهود، فيصوم المسلم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، أو الثلاثة معًا.
ويوم عاشوراء هو مناسبة روحية عظيمة، تجتمع فيها مشاعر الشكر لله على نعمه، والتأمل في نصره لأنبيائه، وتأكيد لمعاني الثقة، والثبات، والإيمان بوعد الله.
وفي بعض المجتمعات الإسلامية، ومنها الجزائر، يرافق صيام عاشوراء طابع ثقافي وشعبي أصيل، تُعدّ فيه الأطباق التقليدية، وتُوزّع الصدقات، ورغم تنوع العادات، يبقى الجوهر واحدًا وهو إحياء هذا اليوم العظيم بروح الشكر، والعبادة، والرجاء في رحمة الله.