2025.05.15
حديث الساعة

الخرطوم تصرخ عاليا في وجه الإمارات: "كفى تواطؤاً ودعماً للقتل"!


في زمنٍ لم يعد فيه الحياد الإقليمي موقفاً نبيلاً، بل تحوّل إلى أداة تُستخدم لطعن الشعوب الجريحة في خواصرها، تبرز ردّات فعل غاضبة من طرف الدول المتضررة من هذا النفاق السياسي الفجّ. هذا ما دفع السودان مؤخراً إلى كسر صمته العميق، متحدثاً بلسان الدولة المجروحة، المكلومة، التي لم يعد في قاموسها متّسع للصبر، ولا في سياقها مكانٌ للصمت. فبعد أكثر من عامين من حربٍ مدمّرة التهمت الخرطوم وأحرقت دارفور، وخلّفت آلاف الضحايا تحت أنقاض التجاهل الدولي وصمتٍ عربيٍّ ثقيل، رفعت الخرطوم صوتها صارخة: "كفى!"، لتفضح ما وصفته بـ"التواطؤ المكشوف" الذي تقوده دولة الإمارات من خلال دعمٍ مباشر وواسع النطاق لقوات الدعم السريع المتمرّدة.

في تطور غير مسبوق في سجل العلاقات الثنائية بين السودان والإمارات، أعلن مجلس الدفاع والأمن السوداني -وهو أعلى سلطة أمنية في البلاد- اتخاذ خطوات جذرية رداً على ما وصفه بـ"عدوان خارجي منظم"، تمثل، حسب البيان الرسمي، في تورط أبوظبي بشكل مباشر في تأجيج الصراع الداخلي، عبر تزويد ميليشيا الدعم السريع بأسلحة متطورة وتمويل هائل، وتوفير غطاء سياسي وإعلامي لكيان يواجه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وجاء القرار الحاسم من الخرطوم على شكل سلسلة إجراءات، أبرزها قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الإمارات العربية المتحدة بشكل فوري، وسحب كامل طاقم السفارة السودانية من أبوظبي، واعتبار الإمارات دولة عدوان. وجاء في البيان الذي تلاه المجلس: "لقد تابع العالم بأسره، وعلى مدار أكثر من عامين، جريمة مكتملة الأركان ارتُكبت بحق سيادة السودان، ووحدة أراضيه، وأمن مواطنيه، من قِبل دولة الإمارات، التي استخدمت مليشيا الدعم السريع كأداة تنفيذ لعدوانها السياسي والعسكري."

وأشار المجلس إلى أن الإمارات، بعدما شعرت بأن وكيلتها على وشك الهزيمة في الميدان، "كثفت دعمها العسكري، وزادت من ضخ الأسلحة النوعية، بما في ذلك طائرات مسيرة وأسلحة دقيقة التوجيه، استُخدمت في قصف منشآت استراتيجية"، مثل ميناء بورتسودان، محطات الطاقة، مستودعات الوقود، ومراكز إيواء مدنيين، الأمر الذي عرض حياة الملايين للخطر.

ووصف مجلس الدفاع هذه الممارسات بأنها تمثل "تعدياً صارخاً على السيادة الوطنية، وانتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي، وتهديداً مباشراً للأمن الإقليمي، وخصوصاً في منطقة البحر الأحمر الحساسة"، مؤكداً أن السودان يحتفظ بحقه الكامل، والمشروع، في الرد على هذا العدوان بكافة الوسائل، استناداً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تضمن حق الدفاع عن النفس في مواجهة أي اعتداء خارجي.

من التصعيد السياسي إلى المحافل القضائية

لم يتوقف الرد السوداني عند حدود السياسة والدبلوماسية، بل اتخذ منحى قضائياً دولياً، حينما تقدمت الخرطوم، في مارس الماضي، بشكوى إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهم فيها الإمارات بالتورط في جرائم إبادة جماعية ارتكبتها قوات الدعم السريع، خاصة في إقليم دارفور، حيث توثق تقارير أممية ودولية شهادات مروعة عن انتهاكات ممنهجة بحق المدنيين، تتراوح بين القتل الجماعي، والاغتصاب، والتطهير العرقي.

ورغم ضخامة الملف وحساسيته، رفضت المحكمة الدولية النظر في الدعوى، بحجة "عدم الاختصاص"، وهو قرار أثار سخطاً في الأوساط القانونية والسياسية السودانية، واعتبره مراقبون رضوخاً لضغوط سياسية ومحاباةً لمعادلة النفوذ لا للعدالة. المحكمة، رغم تعبيرها عن "قلق بالغ من تدهور الأوضاع الإنسانية"، أغلقت ملف الدعوى، متمسكة بمنظور شكلي إجرائي على حساب عمق المضمون الإنساني والقانوني.

من جهتها، تلقفت الإمارات القرار على أنه "تبرئة ضمنية"، واعتبرت، عبر وكالتها الرسمية، أن الحكم دليل على "زيف الادعاءات السودانية". لكن الحكومة السودانية سارعـت إلى الرد، مؤكدة أن المحكمة لم تنظر في جوهر القضية، وأن أبوظبي لن تنجو من المحاسبة. وفي تصريح واضح النبرة، قال وزير الثقافة والإعلام والمتحدث باسم الحكومة، خالد الإعيسر، إن السودان "سيمضي قدماً في ملاحقة الإمارات أمام هيئات قضائية دولية أخرى، تمتلك الولاية القانونية للنظر في مثل هذه القضايا".

مأساة بلا نهاية وشركاء في الجريمة

وسط هذا السجال السياسي والقانوني المحتدم، تتفاقم المأساة على الأرض. تشير التقديرات إلى أن الحرب الدائرة أودت بحياة عشرات آلاف الضحايا، وأجبرت ما لا يقل عن 13 مليون شخص على النزوح الداخلي أو اللجوء خارج الحدود، في أكبر أزمة إنسانية يشهدها السودان في تاريخه الحديث، وسط صمت دولي مدوٍّ، وعجز أممي مريب عن وقف حمام الدم أو حتى تأمين ممرات إنسانية آمنة.

ومع تزايد الأدلة، وتواتر التقارير الدولية التي تشير إلى تورط إماراتي مباشر في دعم التمرد، بدأ الرأي العام السوداني يرى في استمرار هذا الدعم تدخلاً خطيراً يهدف ليس فقط إلى ترجيح كفة المليشيات، بل إلى تفكيك الدولة السودانية من الداخل، وتعطيل أي مسار نحو الاستقرار وإعادة بناء المؤسسات الشرعية.

إعادة تشكيل التحالفات وبناء خطاب سيادي جديد

من هذا المنطلق، لم يعد السودان ينظر إلى الصراع كحرب داخلية تقليدية، بل كمعركة وجود وسيادة ضد محاور إقليمية تسعى لفرض أجندات تتعارض مع مصلحة الشعب السوداني. ووفق تحليلات سياسية داخلية، فإن قطع العلاقات مع الإمارات يشكل بداية لمرحلة جديدة، عنوانها إعادة تعريف مفاهيم التحالف والعداوة، وبناء خطاب دبلوماسي أكثر وضوحاً وصراحة، بعيداً عن المجاملات الدبلوماسية التي أضرت بالسودان أكثر مما نفعته.

ويتوقع أن تتحرك الخرطوم خلال الأسابيع القادمة لحشد تأييد عربي وأفريقي ودولي، عبر إبراز مبدأ احترام السيادة الوطنية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مستندة إلى وثائق وتقارير رسمية صدرت عن منظمات دولية، تثبت تواطؤ الإمارات في دعم طرف متمرد يرفض الانخراط في أي مسار سياسي.

في نهاية المطاف، يتضح أن السودان قد قرر الدخول في معركة طويلة الأمد للدفاع عن كيانه الوطني، وعن كرامة شعبه، ضد ما يصفه بـ"عدوان خارجي مغلف بالأموال والسلاح والإعلام". قرار قطع العلاقات مع الإمارات ليس إجراءً عابراً، بل رسالة حازمة إلى كل من تسوّل له نفسه التدخل في شؤونه، بأن زمن التسامح مع العبث الخارجي قد ولّى، وأن الخرطوم، رغم جراحها، قادرة على الصمود، والمقاومة، ومحاسبة كل من تورط في سفك دماء أبنائها.