2025.05.15
حديث الساعة

المسيّرات تلاحق ذاكرة النصر في روسيا.. اشتباك رمزي على جبهة المعنى


بين رماد الحروب ووهج الاستعراضات، تستعد روسيا لإحياء الذكرى الثمانين ليوم النصر على ألمانيا النازية، في لحظة تبدو مشبعة بالتناقضات، فهذه المناسبة لم تعد مجرّد وقفة تأمل في مجد مضى، بل تحوّلت إلى منصة رمزية لصراع معاصر تتداخل فيه الذاكرة الوطنية مع رهانات الحاضر ومتغيرات الجغرافيا السياسية. إذ باتت الطائرات المسيّرة أداة لتعديل موازين الردع، فيما تسعى موسكو إلى تثبيت معادلة الأمن والثقة وسط مشهد دولي يتأرجح بين استعراض للقوة ومخاوف متزايدة من التصعيد. فعلى إيقاع التحضيرات، تنبض الساحة الحمراء بحضور سياسي وأمني كثيف، حيث تُستثمر رمزية النصر في تعزيز خطاب السيادة والتماسك الوطني، في مواجهة حرب هجينة لا تقتصر على خطوط النار، بل تطال الرموز والمناسبات وتتنازع فيها سرديات التاريخ. وفي الخلفية، يتحرك المشهد في اتجاه آخر موازٍ، حيث تُركّز موسكو أنظارها على الحلفاء والداعمين، في محاولة لرسم صورة تؤكد تماسك الجبهة الداخلية وامتداد التأييد الدولي. وكأن الحرب التي لم تضع أوزارها بعد، تُعيد تشكيل سردية الانتصار، لكن هذه المرة بلغة أكثر تعقيدًا، وبمفردات يُمليها صراع متعدد الأبعاد، تتقاطع فيه الذاكرة مع الجغرافيا والمصالح.

في هذا السياق المشحون بتصاعد التهديدات والتوترات الأمنية، أعلنت السلطات الروسية حالة استنفار شامل استعدادًا لإحياء ذكرى "يوم النصر"، في ظل تنامي المخاوف من عمليات تخريبية وهجمات إرهابية قد تُنفّذ بالتزامن مع المناسبة. لم تعد هذه الإجراءات محصورة بالإعداد التقليدي للاحتفالات الكبرى، بل تحوّلت إلى خطة أمنية طارئة ذات أبعاد عسكرية واستخباراتية، تُنفَّذ تحت إشراف مباشر من الكرملين. فقد أكد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة، دميتري بيسكوف، أن "كافة التدابير الضرورية" قد اتُّخذت لضمان سلامة المواطنين، مشددًا على أن الحدث لا يمثل فقط احتفالًا تاريخيًا، بل يُنظر إليه كرمز لوحدة الدولة وقدرتها على الصمود وسط التحديات.

ويتركز القسم الأكبر من الإجراءات في العاصمة موسكو، حيث سيُقام العرض العسكري الرئيسي في الساحة الحمراء بحضور الرئيس فلاديمير بوتين، وكبار قادة الجيش، وعدد من الزعماء الأجانب. وقد تم نشر آلاف من أفراد الأمن، وتكثيف المراقبة الجوية، وإغلاق المجال الجوي فوق العاصمة بشكل جزئي في أيام التحضير، تحسبًا لهجمات محتملة بالطائرات المسيّرة. كما فُرضت قيود على حركة السير في محيط الساحة الحمراء، وأُغلقت بعض المحطات المركزية للمترو، في مشهد يُظهر حجم الاستنفار والتأهب.

ولم تقتصر التدابير الوقائية على الأرض، بل شملت أيضًا المجال الرقمي، إذ فرضت السلطات الروسية قيودًا مؤقتة على تشغيل الإنترنت عبر شبكات الهاتف المحمول في موسكو، وبرّرت القرار بأنه إجراء احترازي لمواجهة احتمالات استخدام الشبكات في التنسيق لهجمات إلكترونية أو تفجيرات عن بُعد، خصوصًا في ظل ما وصفته بـ"البيئة الإقليمية المتوترة والخطرة". ويأتي ذلك بالتوازي مع تصاعد وتيرة الهجمات بالطائرات المسيّرة التي تنفذها أوكرانيا، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إسقاط تسع طائرات مسيّرة فوق العاصمة واعتراض أخرى فوق بيلغورود وكورسك، ما يُشير إلى نية واضحة لإرباك الداخل الروسي واستهداف رموز قوته في لحظة رمزية.

وفي مشهد يعكس اتساع رقعة التهديدات، لم تعد موسكو وحدها في مرمى الهجمات، إذ أعلنت أجهزة الأمن الفيدرالي (FSB) عن إحباط مخطط إرهابي خطير في مدينة كاخوفكا بمقاطعة خيرسون، استهدف نصبًا تذكاريًا لدبابة Т-34، أقيم تكريمًا للعسكريين السوفييت الذين شاركوا في الحرب الوطنية العظمى. وبحسب البيان الرسمي، كانت الاستخبارات الأوكرانية تعتزم تنفيذ التفجير بالتزامن مع تجمع شعبي في الموقع، ما كان سيؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، بينهم مسؤولون وسكان محليون، إضافة إلى استغلال الحادث لتوجيه رسائل دعائية تمسّ الرمزية التاريخية لروسيا.

وتمكنت الأجهزة الروسية من اعتقال ثلاثة أشخاص يحملون الجنسية الأوكرانية، ضُبط بحوزتهم أربع عبوات ناسفة مموهة على شكل علب مشروبات الطاقة، مزوّدة بصواعق كهربائية وأنظمة تفجير عن بُعد باستخدام شبكة GSM. وتشير التحقيقات الأولية إلى أن هؤلاء المتهمين سبق لهم تنفيذ محاولات تخريبية فاشلة، من بينها استهداف مركبة عسكرية روسية، كما خططوا لتنفيذ عملية اغتيال ضد أحد موظفي إدارة منطقة غولوبريستانسكي. وتُعدّ هذه المحاولات جزءًا من سلسلة عمليات تخريبية تُنفَّذ ضمن استراتيجية استخباراتية متعددة المستويات تهدف إلى ضرب رموز الدولة الروسية وتقويض حضورها في المناطق الحدودية.

ووفقًا للمعلومات الأمنية، جُنِّد المتهمون في خريف عام 2024 عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتم تدريبهم على أساليب التخفي والرصد والتفجير عن بُعد. وقد أوكلت إليهم مهام استخباراتية شملت جمع بيانات دقيقة حول تحركات القوات الروسية، وتحديد مواقع البنى التحتية الحيوية. ويؤكد هذا النمط من العمليات اتساع نطاق الحرب الهجينة التي تخوضها أوكرانيا بدعم غربي، حيث تتداخل فيها أدوات الميدان العسكري مع أدوات التجسس السيبراني والتخريب الداخلي، في محاولة لاستنزاف الدولة الروسية على أكثر من جبهة.

في المقابل، تسعى موسكو جاهدة إلى ترسيخ صورة التماسك الداخلي وتعزيز حضورها الدولي، رغم الضغوط الغربية المتصاعدة والعقوبات التي طالت مختلف مفاصل الدولة الروسية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وفي خطوة وُصفت بأنها تحمل دلالات رمزية واستراتيجية، أعلن الكرملين أن 29 زعيمًا أجنبيًا سيحضرون العرض العسكري الضخم في الساحة الحمراء بموسكو، وهو ما يُعدّ رسالة واضحة على فشل جهود الغرب في عزل روسيا دبلوماسيًا. ومن بين أبرز الحاضرين، الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يمثل شريكًا استراتيجياً في مواجهة الهيمنة الغربية، والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي يُنظر إلى مشاركته كجزء من إعادة تموضع البرازيل داخل معسكر عالمي متعدد الأقطاب.

ويعكس هذا الحضور الدولي المتنوع، لا سيما من قادة دول "البريكس" ومجموعة من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أن روسيا ما تزال تحتفظ بوزنها الجيوسياسي، وتبني تحالفات موازية خارج الإطار الغربي التقليدي، في ظل تصاعد الاستقطاب العالمي. كما يُظهر قدرة موسكو على توظيف المناسبات التاريخية الكبرى، مثل "يوم النصر"، ليس فقط لإحياء الذاكرة الوطنية، بل لبعث رسائل دولية تعيد تعريف موقعها في النظام العالمي الجديد.

وفي خضم الاستعدادات للاحتفال، وجّه الرئيس فلاديمير بوتين برقية تهنئة إلى المشاركين في منتدى "المدن البطلة" في روسيا وبيلاروس، وهي مدن نالت هذا اللقب تقديراً لصمودها البطولي خلال الحرب الوطنية العظمى. وعبّر بوتين في رسالته عن أن روسيا وبيلاروس اليوم تواجهان تحديات جديدة من "الورثة الأيديولوجيين للنازية"، في إشارة مباشرة إلى بعض الجماعات القومية المتطرفة التي برزت في أوكرانيا بعد عام 2014، والتي ترى موسكو أنها تتلقى الدعم الغربي. وأكد بوتين في هذا السياق على وحدة المصير بين الشعبين، معرباً عن ثقته في قدرة الدولتين على تجاوز هذه المرحلة الحرجة وتعميق التكامل في إطار الدولة الاتحادية، بما يعزز الأمن والسيادة على المدى البعيد.

وفي السياق ذاته، صعّدت موسكو من لهجتها الدبلوماسية تجاه باريس، متهمة إياها بالمشاركة في "حملة نفاق تاريخي"، عبر دعم نظام أوكراني "يمجّد رموز النازية الجديدة"، بحسب وصف نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو. وخلال افتتاح معرض "صفحات من التاريخ العسكري"، انتقد غروشكو ما أسماه بالازدواجية الفرنسية، مذكّرًا بالدور البطولي الذي أدّاه سرب "نورماندي-نيمان" – الوحدة الجوية الفرنسية التي قاتلت إلى جانب الجيش الأحمر ضد النازيين – كرمز حي للتعاون بين الشعبين الروسي والفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية.

وأضاف غروشكو أن فرنسا، ومعها عدد من الدول الأوروبية، تحاول اليوم طمس هذا التراث المشترك من خلال إعادة كتابة التاريخ وفق روايات منحازة سياسياً، تنزع الشرعية عن التضحيات السوفيتية وتبرر سياسات توسعية لحلف الناتو شرقًا. وأشار إلى أن هذا "التجاهل المتعمد" يضر ليس فقط بالعلاقات الثنائية، بل أيضاً بالوعي التاريخي الأوروبي الجماعي. ومع ذلك، شدد على أن علاقات الأخوة والتضامن بين الشعوب لا تتأثر بقرارات الحكومات المؤقتة، مؤكداً أن الذاكرة الشعبية في روسيا لا تزال تحتفظ باحترام كبير لصفحات النضال المشترك.

وفي ختام كلمته، أعرب غروشكو عن أمله في أن تعيد الشعوب الأوروبية النظر في التاريخ من منظور غير مسيّس، وتدرك أن النصر على النازية – الذي وفّر القاعدة الصلبة لسلام طويل في القارة – كان ثمرة التضحيات الهائلة التي قدّمها الجيش الأحمر، حيث فقد الاتحاد السوفيتي أكثر من 27 مليون إنسان في سبيل كبح أكبر تهديد عرفته الإنسانية في القرن العشرين. وأكد أن روسيا، رغم كل ما تواجهه من حملات تشويه، ستواصل الدفاع عن ذاكرتها الوطنية، وعن دورها المركزي في صناعة التاريخ الحديث.

وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار الداخل الروسي إلى مراسم يوم النصر كرمز للوحدة الوطنية والمقاومة التاريخية، تتصاعد التوترات مع الغرب الذي تتهمه موسكو بتغذية الصراع عبر تزويد كييف بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية، وفرض مزيد من العقوبات السياسية والاقتصادية. ورغم التحركات الدبلوماسية المحدودة من جانب الولايات المتحدة وعدد من العواصم الأوروبية، التي تسعى ظاهريًا إلى التهدئة، إلا أن الكرملين يَعتبر تلك المبادرات فاقدة للجدية، ما دام الغرب يواصل نهجه في محاصرة روسيا وعرقلة أي تسوية تضمن مصالحها الاستراتيجية.