في مثل هذا اليوم، الثامن من ماي، لا تكتفي الجزائر بإحياء ذكرى مجازر 1945، بل تُجدد العهد مع ذاكرة الدم والصمود، وتستحضر واحدة من أفظع الجرائم الاستعمارية التي ارتُكبت بحق شعب أعزل خرج يُنادي بالحرية، فقوبل بالقمع والحديد والنار. إنّه تاريخ محفور في الذاكرة الجماعية، لا يُروى فقط لتأبين الضحايا، بل ليظل شاهدًا على فظاعة ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي من جرائم بحق الإنسانية.
لم تكن مجازر 8 ماي أحداثًا عابرة في سجل الاحتلال، بل كانت جريمة إبادة ممنهجة، عرّت الوجه الحقيقي لفرنسا الاستعمارية وأسقطت كل أقنعة "التمدّن" و"الأنوار" التي لطالما تغنّت بها. ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش نشوة الانتصار ونهاية حرب عالمية دامت ست سنوات (1939 - 1945) وأزهقت أرواح أكثر من 60 مليون إنسان، من بينهم حوالي 60 ألف جزائري جُنّدوا قسرًا في صفوف الجيش المحتل، كان الاستعمار الفرنسي يُمطر سطيف وقالمة وخراطة بالقذائف والنيران، في مجازر جماعية لا تزال تدوي في ضمير الإنسانية شاهدة على الوجه النازي لفرنسا.
في هذا اليوم المفصلي، الثامن من ماي عام 1945، وهو التاريخ الذي دوّنته الإنسانية باعتباره لحظة الانتصار على الفاشية واندحار آلة القمع النازية في أوروبا، كانت الجزائر تشهد مشهدًا مغايرًا تمامًا لما جرى تداوله في سجلات المنتصرين. ففي الوقت الذي كانت فيه الشعوب الأوروبية تنعم بزخم الفرح وترفع الكؤوس احتفاءً بـ "الحرية المستعادة"، كانت الجزائر ـ التي كانت حينها ترزح تحت نير استعمار دموي ـ تستقبل هذا الحدث بمرارة ووجع، يختلط فيه الشعور بالخيانة مع الإحساس المتجذّر بالغبن التاريخي.
لقد عمّت الأفراح شوارع المستوطنين الفرنسيين في المدن الجزائرية الكبرى، وكانت الأعلام الثلاثية الألوان ترفرف على الشرفات والنوافذ، فيما انطلقت المواكب الاحتفالية في أجواء صاخبة تعبّر عن نشوة النصر. لكن، في الجانب الآخر من المشهد، كان الوطنيون الجزائريون يقرؤون هذا "التحرر الأوروبي" من زاوية مختلفة: زاوية القهر الذي لم يُرفع عنهم، والمشاركة الدموية التي قدموها في الحرب، دون أن يُقابل ذلك بأي اعتراف بحقوقهم. فقد جُنّد عشرات الآلاف من الجزائريين قسرًا في صفوف الجيش الفرنسي، وساقهم الاستعمار إلى جبهات النار في أوروبا، حيث قُتل أكثر من ستين ألفًا منهم في معارك لم يكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل، سوى أنهم كانوا وقودًا لمعارك الغير، يدافعون عن "جمهورية" لم تعترف بهم يومًا كمواطنين كاملي الحقوق.
من رحم هذا التناقض، تولّدت فكرة استثمار هذه اللحظة التاريخية لتحويلها إلى منصة احتجاج رمزية، تفضح ازدواجية الخطاب الفرنسي، وتعبّر عن تطلع الجزائريين إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم. فقد رأت النخب الوطنية في الانتصار على الفاشية فرصة مواتية للضغط السياسي، من أجل كسر حاجز الصمت، وتأكيد حق الشعب الجزائري في التحرر والاستقلال، مستندين في ذلك إلى التضحيات الجسيمة التي قدّموها من أجل فرنسا، والتي استُثمرت إعلاميًا دون أن تُترجم إلى تغيير حقيقي في واقعهم الاستعماري.
وفي هذا السياق، جاءت المبادرة التنظيمية التي قادها أعضاء "أحباب البيان والحرية"، وهو تنظيم وطني كان يضم شخصيات متأثرة بخطاب فرحات عباس الداعي إلى المساواة والديمقراطية، رغم أنه لم يكن قد دعا حينها إلى القطيعة النهائية مع فرنسا. غير أن تفاعل الجماهير مع خطاب هذا التيار، وخصوصًا بين الشباب والكشافة، شكّل بوصلة للغليان القادم.
في مساء السابع من ماي، كانت مدينة سطيف تعيش حالة من الغليان المكبوت، خلف جدران صمتٍ ثقيل. كانت الشوارع تعجّ باحتفالات المستوطنين الفرنسيين، بينما كان الجزائريون يتهيؤون، في الخفاء، لما هو أكبر من مجرد احتفال. فداخل الأزقة، وفي الأحياء الشعبية، تجمّع مناضلون من مختلف الأعمار والانتماءات، يخططون لمسيرة سلمية تنطلق صباح اليوم التالي، تحمل في ظاهرها طابعًا تأبينيًا لضحايا الحرب العالمية، لكنها كانت في جوهرها تعبّر عن توق متصاعد للتحرر، ورسالة واضحة لرفض الاحتلال الفرنسي الذي طال أمده وأثقل كاهل البلاد بالعنف والتهميش.
رغم أن سلطات الاستعمار منحت تصريحًا للمسيرة، فقد جاء هذا الترخيص مشروطًا بما بدا من نواياها السلمية، والتي صيغت بحذر في الخطابات الرسمية للمنظمين. ومع ذلك، لم تستطع الإدارة الاستعمارية إخفاء توجّسها من أي تحرك شعبي، خاصة في مدينةٍ عُرفت بروحها الوطنية المتقدة. تقرر أن يكون الانطلاق من ساحة المسجد الواقع بمحطة القطار، المسجد الذي سيحمل لاحقًا اسم "أبي ذر الغفاري"، ويمرّ عبر شارع كان يُعرف حينها بجورج كليمنصو، قبل أن يُعاد تسميته بشارع 8 ماي 1945، ثم يواصل الموكب سيره نحو "نصب الموتى"، ليصل إلى كنيسة سانت مونيك، التي ستتحول لاحقًا إلى مسجد يحمل اسم الشيخ عبد الحميد بن باديس، أحد أعلام الإصلاح في الجزائر.
على امتداد تلك الليلة، لم يعرف المناضلون الراحة، إذ انطلقوا بين الأزقة والقرى والمداشر المحيطة، ينادون الناس سرًّا للمشاركة في هذا الحدث المصيري. كانت الدعوة واضحة رغم الغطاء الرمزي: المطلوب ليس فقط إحياء ذكرى، بل إعلان موقف، وتحطيم جدار الصمت، واستعادة الكلمة من بين أنياب الاحتلال. كانت الهمسات تتناقل بين البيوت: "لا تتركوهم يحتفلون وحدهم.. غدًا، سيكون صوت الجزائر حاضرًا". وبينما بدا الليل هادئًا، كان الحلم بالتحرر يتضخم كجمرة تحت الرماد.
وعند بزوغ فجر الثلاثاء، الثامن من ماي 1945، استقبلت المدينة صباحًا دافئًا وغريب السكون. كأن الطبيعة تحبس أنفاسها انتظارًا لما هو آت. تزامن هذا اليوم مع موعد السوق الأسبوعي، ما ساعد على تدفق أعداد هائلة من الناس إلى وسط المدينة، في مشهد يوحي بالاستعداد لانفجار شعبي غير مسبوق. وبحسب ما رواه –قبل نحو 10 سنوات- المجاهد الراحل محمد الهادي الشريف، المعروف باسم "جنادي"، فقد بدأت الحشود تتجمع منذ الساعات الأولى من الفجر، حتى بلغ عدد المتظاهرين زهاء عشرة آلاف شخص، اجتمعوا أمام المسجد وفي الشوارع المحيطة، قادمين من مختلف جهات المدينة، ومن مناطق ريفية مثل قجال، بوقاعة، عموشة، أوريسيا، وعين الروى. وقد ساهم هذا الامتداد الجغرافي في إعطاء المسيرة طابعًا وطنيًا يتجاوز حدود سطيف نفسها.
في طليعة المسيرة، تقدّم صفّ من حوالي 250 شبلًا من الكشافة الإسلامية الجزائرية، يرتدون بزاتهم الرسمية، وأوشحتهم المزينة بألوان العلم الوطني، الأخضر والأبيض، وقد اصطفوا في مشهد مُبهر يعكس الانضباط والتنظيم. دوّت الأناشيد الوطنية، يتقدّمها نشيد "من جبالنا"، الذي غدا نشيدًا مقاومًا يلخّص تطلعات الجزائريين نحو الحرية والانعتاق من الاستعمار. كل شيء كان يوحي بأن المسيرة ستحافظ على سلميتها وانضباطها، غير أن السلطات الفرنسية، كعادتها، لم تتوانَ عن اللجوء إلى العنف لقمع أي تعبير عن الذات الوطنية الجزائرية.
ففي حدود الساعة الثامنة والنصف صباحًا، حدث ما لم تكن الإدارة الاستعمارية تتوقعه، حين ارتفع العلم الجزائري لأول مرة في سماء سطيف، بلونيه الأخضر والأبيض، تتوسطه نجمة وهلال بلون أحمر، في مشهد شكّل استفزازًا مباشرًا للسلطة الفرنسية والمستوطنين. حمل العلم شاب جزائري يُدعى بوزيد سعال، لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، وقد رفعه عاليًا متحديًا رجال الشرطة الذين أمروا بإنزاله. وبكل شموخ، واجه بوزيد أعينهم الغاضبة، قبل أن يطلق المفوض الأمني، لوسيان أوليفييري، رصاصة قاتلة أصابته مباشرة، ليسقط على الفور مضرجًا بدمائه، ويصبح أول شهداء مجازر 8 ماي 1945.
عمّ الصمت المكان في لحظة مشحونة بالرهبة، قطعته زغرودة حادة انطلقت من إحدى شرفات البيوت، وكأنها إشارة لانطلاق ملحمة الألم والمواجهة. دبّ الذعر في صفوف المستوطنين، بينما بدأت قوات الشرطة في إطلاق النار عشوائيًا، دون تمييز بين متظاهر ومارٍ، لتتحول المسيرة السلمية إلى مسرح للقتل والقمع الجماعي. امتد الرعب ليشمل أحياء المدينة، ثم تخطّى حدود سطيف ليشمل مدنًا ومناطق أخرى، مثل خراطة، قالمة، العلمة، وحتى القرى الواقعة في أطراف بجاية، حيث خرجت مظاهرات متزامنة، جوبهت جميعها بردّ دموي عنيف من طرف السلطات الفرنسية.
فرضت الإدارة الاستعمارية حالة طوارئ شاملة، تبعها حظر تجول صارم، وقطعت سبل التنقل، وبدأت حملة اعتقالات مكثفة، شملت المئات من المشاركين والمشتبه في تعاطفهم مع الحركة الوطنية، خصوصًا من صفوف الشباب وأعضاء الكشافة، الذين اعتُبروا بمثابة البذور الأولى للتمرّد الشعبي. الإعدامات الميدانية صارت مشهدًا مألوفًا، ونُفّذت بدم بارد على مرأى من الناس.
تولّى الجنرال دوفال قيادة العمليات العسكرية في المنطقة، متسلحًا بأوامر صارمة من حكومة الجنرال ديغول، التي رأت في ما يحدث تهديدًا مباشرًا للهيمنة الفرنسية على الجزائر. سُخّرت كل أجهزة القمع: الجيش، الدرك، الميليشيات، وحتى الطيران الحربي، الذي نفّذ غارات على قرى بأكملها، دُمّرت عن آخرها بذريعة القضاء على "التمرد". كانت القرى تُحاصر، تُحرق، ويُباد سكانها دون تمييز، في واحدة من أبشع صور العنف الاستعماري في تاريخ الجزائر.
النتيجة كانت كارثية بكل المقاييس. الإحصاءات الوطنية تشير إلى استشهاد ما يقارب 45 ألف جزائري خلال تلك الحملة الإجرامية، في واحدة من أبشع الجرائم الاستعمارية التي سُجّلت في القرن العشرين. لم يتحرك ضمير العالم، ولم تُفتح تحقيقات دولية، بل ساد صمت دولي رهيب، يُضاف إلى سجل التواطؤ الذي لطالما أحاط بالقضية الجزائرية. غير أن هذه الدماء، التي أُريقت في سطيف وخراطة وقالمة، لم تكن عبثية، بل تحوّلت إلى نهرٍ خفي يغلي في وجدان الشعب، وينذر بالانفجار الآتي، الذي تحقق فعليًا في فجر الأول من نوفمبر 1954، حين دقّت ساعة الثورة، وبدأ العد التنازلي لنهاية الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
الإبادة المخطط لها وسقوط قناع "الاستعمار التنويري"
مجازر 8 ماي 1945 لم تكن نتيجة انفعال عابر أو رد فعل غير محسوب، بل شكلت عملية إبادة جماعية مدروسة، نُفِّذت وفق آليات حرب حقيقية ضد شعب أعزل. لقد سخّرت فرنسا طائراتها ومدافعها وسفنها الحربية، وحاصرت المدنيين الجزائريين في مناطق بعينها، لتنفيذ عمليات قتل جماعي ممنهج، تشكّل في جوهرها جريمة ضد الإنسانية يُعاقب عليها القانون الدولي، وتستوجب المساءلة الجنائية على أعلى المستويات.
بهذه المجازر الوحشية، سقط القناع عن أسطورة "الاستعمار التنويري"، واتضح جليًا أن فرنسا لم تحمل إلى الجزائر سوى أدوات القمع: السلاح والنار والسجون. أما خطابها حول «تمدين الجزائر» فلم يكن سوى غطاء لنهب الأرض ومحو الهوية الوطنية. وعوض أن تنتهج فرنسا طريق الاعتراف بالذنب أو المصالحة بعد هذه الفظائع، اختارت التمادي في إذلال الجزائريين، فكرّست دستور الجمهورية الرابعة وضعهم كمواطنين من "الدرجة الثانية"، في تجاهل صارخ لإنسانيتهم، ورفض مطلق لأي تطلعات سيادية. ولم تختلف مواقف الجمهورية الخامسة التي أعقبتها، إذ واصلت هي الأخرى سياسة الإنكار والقمع، مستهدفة كل صوت وطني يرمز للحرية والاستقلال.
ورغم هذا القمع الدموي، لم تُخمد نيران النضال الوطني، بل ازدادت اشتعالًا. فقد مثّلت مجازر 8 ماي 1945 لحظة مفصلية في مسيرة التحرر، طوت صفحة الأوهام السلمية، ورسّخت لدى جيل جديد من المناضلين القناعة بأن الاستقلال لا يُوهب بل يُنتزع بالقوة. كانت تلك المجازر الشرارة التي مهدت لانطلاق ثورة أول نوفمبر 1954، التي أعادت تشكيل المعادلة النضالية على أسس الكفاح المسلح، من أجل تحرير الوطن من نير الاستعمار.
لقد أثارت هذه الجرائم حينها موجة تنديد دولي واسعة، ووثّقت عدة تقارير دبلوماسية شهادات حية تكشف بشاعة ما ارتُكب. من أبرزها ما أورده القنصل البريطاني في الجزائر، جون إيريك ماكلين، في تقريره لحكومته، حيث وصف ما جرى بأنه "جريمة حرب ضد الإنسانية"، مؤكداً أن السلطات الفرنسية ارتكبت إبادة جماعية ضد شعب أعزل طالب بحقه في الحرية. ومع ذلك، ظلّت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تلتزم الصمت، أو تكتفي بتبريرات واهية، في محاولات مكشوفة لتلميع سجلها الاستعماري الأسود.
في هذا السياق، شكّلت مبادرة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، بترسيم يوم 8 ماي يوماً وطنياً للذاكرة، خطوة ذات دلالات عميقة ورمزية راسخة. فهي محطة سنوية لاستحضار تضحيات "شهداء الكرامة والحرية"، وتجديد العهد مع الأجيال على مواصلة درب النضال الوطني. ولا يختزل هذا القرار في بعده الرمزي فحسب، بل يعكس كذلك إرادة سياسية صلبة لترسيخ ثقافة الاعتراف، وتمجيد المقاومة، وتثبيت الحقائق التاريخية في وجه محاولات الطمس والنسيان.
وقد أكد الرئيس تبون في أكثر من مناسبة أن ملف الذاكرة الوطنية يمثل أولوية لا تقبل التنازل أو المساومة، مشددًا على أن الدولة الجزائرية ماضية في الدفاع عن الحقيقة التاريخية بكل جرأة ومسؤولية، في مواجهة محاولات التحريف التي لا تزال تصدر عن بعض الدوائر الرسمية في فرنسا.
ويحمل قرار ترسيم 8 ماي يوماً وطنياً للذاكرة أبعادًا تتجاوز الاستذكار العابر، إذ يُعدّ إحياءً لذكرى الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن الكرامة والحرية، كما يشكل مناسبة وطنية للاعتزاز بفصول المسيرة النضالية المتواصلة عبر الأجيال. إن نُبل الرسالة التحررية، وجسامة التضحيات التي بذلت في سبيل استعادة السيادة الوطنية، تجعل من هذا الملف قضية حية لا تبهت بمرور الزمن، ولا تقبل التسويف أو الإهمال.
ولهذا، شدد رئيس الجمهورية على أن معالجة ملف الذاكرة تتم بمنهجية موضوعية وشجاعة، بما يُنصف الحقيقة التاريخية، ويضع حداً لمحاولات التعتيم والتزييف التي لا تزال تمارسها السلطات الفرنسية إلى اليوم، في محاولات يائسة للتملص من تاريخ استعماري يندى له الجبين.
لقد كانت حصيلة المجازر التي ارتُكبت في 8 ماي 1945 مأساوية بكل المقاييس؛ إذ تجاوز عدد الشهداء 45 ألف ضحية، كما دُمّرت قرى وعروش بأكملها، في مشاهد همجية أثارت حينها صدمة واستنكاراً على الصعيد الدولي. وقد وثّق القنصل العام البريطاني في الجزائر آنذاك، جون إيريك ماكلين، تلك الفظائع في تقرير رفعه إلى حكومة بلاده، وصف فيه ما جرى بأنه "جريمة حرب ضد الإنسانية"، مؤكداً أن ما ارتُكب كان إبادة جماعية ضد مواطنين عزّل.
غير أن الجريمة لم تقف عند حد القتل الجماعي؛ إذ تواصلت في شكل تعتيم ممنهج مارسته السلطات الفرنسية، من خلال تهريب الأرشيف الجزائري، بما فيه سجلات الحالة المدنية لسنة 1948، وإصدار قوانين تحصّن المجرمين وتمنع الاطلاع على الوثائق الأرشيفية المرتبطة بالحقبة الاستعمارية. ويرجّح العديد من المؤرخين أن عدد الضحايا يفوق بكثير ما أُعلن عنه رسمياً، لغياب التوثيق الدقيق في ظل هذه السياسة الممنهجة للإخفاء.
ورغم مرور ثمانين عاماً على المجازر، لا تزال الراية التي ضحّى من أجلها الشهيد سعال بوزيد خفّاقة، حاضنة لنضالات الشعب الجزائري، وملهِمة لثورة أول نوفمبر 1954. واليوم، تُحفظ هذه الراية شامخة في متحف المجاهد بسطيف، شاهدة على وفاء الأجيال المتعاقبة للعهد، وعلى صونها لأمانة الشهداء، في ذاكرة وطن لا تنسى ولا تغفر.