2025.05.15
ثقافة

المعنى قبل الحرف.. تذوّقها بقلبك قبل أن تنطقها بلسانك


اتّفق العلماء بأنّ اللغة تموت عندما يموت آخر مُتحّدثٍ بها، وقد ماتت آلاف اللغات عبر تاريخ البشرية.. وتقول "اليونيسكو" بأنّ لغةً واحدة تنقرض كل أسبوعين، ما يعني أن حوالي 90 بالمائة من مجموع 7 آلاف لغة حيّة في العالم ستنقرض بحلول نهاية هذا القرن.

واختلف العلماء حول أصل اللغات ومنطلقها الأول، فانقسموا بين من اعتبرها اختراعا بشريًّا، وبين من اعتبرها هبة إلهية. فالفيلسوف الفرنسي "روسو" اعترف في رسالة ظهرت عام 1750 بأن اللغة أصلها إلهيٌّ، وقال: "لقد تكلّم آدم، وتكلّم جيدًا، والذي علّمه الكلام هو الله"، بينما العالم الألماني "هيردر" قال بأنه لا يُمكن للغة أن تكون هبة إلهية لأنها لا تخلو من العيوب ولم تبلغ الكمال!

ويُفترض أن تكون رؤيةُ العلماء المسلمين واضحةً جليّةً لا لبس فيها، استنادا إلى الآية 31 من سورة "البقرة"، قال الله تعالى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا". غير أن كثيرًا من العلماء المسلمين لم يقطعوا يقينًا بأن اللغة هبة إلهية مثل "ابن جني" و"السيوطي".. ولكن هناك من حاول تقديم البراهين الدينية والعلمية والمنطقية بأنّ اللغة هبة إلهية، بل قالوا إن العربية هي لغة آدم عليه السلام، وهي أمّ كل اللغات البشرية.

لستُ فقيهًا في علوم الدين ولا في علوم اللغة، ولكنني أزعم من باب التعصّب للعربية بأنها اللغة التي ابتدأ بها وجود الإنسان على كوكب الأرض، وستكون آخر لغةٍ يتحدّث بها البشر عند القيامة. ورسولنا الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، بُعث للناس كافّة ولم يُبعث للعرب وحدهم، وكذلك القرآن العظيم هو كتاب الله إلى كل الأمم والشعوب والقبائل، وليس كتابًا خصَّ به العربَ وحدهم.. وبانتشاره ستنتشر اللغة العربية وسوف تسود العالَم أجمع.

والحروب المُعلنة على الدين الإسلامي وعلى العربية ليست من أجل تغريب العرب فحسب بل هي خوفٌ من تعريب الغرب بكل ما يعنيه هذا الأمر من سقوطٍ للشيطان وعَبَدته! وهذا الأمر ليس مُستبعدًا من منطلق "علم صوتيات الحَرف" - علمٌ احتكره الغرب ولا يريد انتشاره - الذي يقول بأنّ كل اللغات الحيّة في العالم الآن تحمل بذور موتها وفنائها في ثناياها و"عِوَجها" إلا لغة القرآن الكريم - الواردة في المصحف - فهي لغةٌ كاملة، يقول الله تعالى: "قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (سورة الزمر، الآية: 27).

وقد تنبّه الشيخ العلاّمة الجزائري "عبد الحميد بن باديس" إلى هذا الأمر، فنشر بجريدة "الشهاب" في شهر جوان 1936 مقالا تحدّث فيه عن معنى الحديث النبوي "فمن تكلّم بالعربية فهو عربي". قال الإمام "ابن باديس": على أن العرب رشّحوا لهداية الأمم التي تدين بالإسلام، وتقبل هدايته، ستتكلم بلسان الإسلام، وهو لسان العرب فينمو عدد الأمة العربية بنمو عدد من يتكلمون لغتها، ويهتدون مثلها بهدى الإسلام. علم هذا فبيّن أن من تكلم بلسان العرب فهو عربي وإن لم ينحدر من سلالة العرب، فكان ذلك من عنايته بهم لتكثير عددهم لينهضوا بما رُشِّحوا له. بيّن هذا في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فما بال  هذا (يعني الفارسي والرومي والحبشي) ما يدعوهم إلى نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه، فقام إليه معاذ بن جبل (رضي الله عنه) فأخذه بتلابيبه (يعني ما على نحره من الثياب)، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بمقالته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا يجرّ رداءه لما أعجله من الغضب حتى أتى المسجد ثم نادى: الصلاة جامعة (ليجتمع الناس)، وقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، الرب واحد، والأب واحد، وأن الدين واحد، وليس العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي"، فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: "دعه إلى النار"، فكان قيس ممن ارتدّ في الرِّدة فقُتل.

ويُقال بأن "علم صوتيات الحَرف" توصّل إلى أن اللغة العربية هي التي ستسود العالم، وتنقرض باقي اللغات الأخرى، لذلك أقرّ الكونغرس الأمريكي باعتماد اللغة العربية أوّلا في الكتابة على حاويات النفايات النووية التي تُدفن في أعماق الصحارى، فعندما يصل النشاط البشري إليها قد تكون اللغة الإنجليزية انقرضت أو على وشك الانقراض! ولا عجب فمن المعاني التي تتضمّنها كلمة "العربيّة": الشباب الدائم الذي لا يهرم، والجمال المتدفّق الذي لا يذوي، والصفّاء الذي لا يعكّره التلوّث.. ولا نغالي إذا زعمنا بأن العربية هي اللغة التي تزداد قوة وثراء وغنى عندما "تقتحم" قواميسَها مفرداتٌ من لغات أخرى، عكس باقي اللغات التي تضعف وتفتقر وتشيخ!

إن اللغة العربية لم تكشف عن كل أسرارها بعد، ويُحكى بأن بعض الغربيين أسلموا عندما استمعوا إلى القرآن الكريم رغم أنهم لا يفقهون العربية، فقد تذوّقوها ولامس سحرُها أعماقَهم، ولعل هذا الأمر أحد أسرار لغتنا الساحرة!

لن نُثقل على القارئ أكثر، ونورد شهادة المستشرق الفرنسي "أرنست رينان" (1823 - 1892)، قال: "من ‏أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعُب حلُّ سرِّه، انتشار اللُّغة العربيّة، فقد كانت ‏هذه اللُّغة غير معروفة بادئ بدءٍ، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أيّ سلاسة، ‏غنيّة أيَّ غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أيُّ تعديل مهمّ، فليس لها ‏طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأوّل أمرها تامّة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن ‏تنبت تلك اللُّغة القوميّة وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرُحَّل، ‏تلك اللُّغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت ‏هذه اللُّغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم عُلمت ظهرَت لنا في حُلل الكمال إلى درجة ‏أنها لم تتغيّر أيّ تغيير يُذكر، حتى إنه لم يُعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا ‏شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى...".

ونضيف بأن العربية ليست نحوا وصرفا وبيانا.. فهذه علوم ظهرت بعد مجيء الإسلام، وكان من مراجعها شعراءٌ أميّون مثل "عنترة بن شداد" و"طرفة بن العبد" الذي قتلته أميّته وقال في معلّقته:

لَعَمْرُكَ مَا الأَيَّامُ إِلاَّ مُعَارَةٌ -- فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ

سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً -- وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ -- بَتَاتًا وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ

عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ -- فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي

العربيّة لغة نتذوّقها ونستلذّ تراكيبها ونهيم بجماليات صورها.. ومن يفتقد القدرةَ على تذوّق اللغة، فعلاقته بها غير صحيّة على الإطلاق، وتعامله معها لا يتعدّى التعامل مع أيّ أداة أو وسيلة! ولعل أزمة المقروئية والأميّة القرائية التي تعاني منها المجتمعات العربية سببُها افتقاد القدرة على تذوّق اللغة العربية، ولهذا الأمر أسبابه المتعلّقة بالتربية والتعليم والإعلام والصحافة..

في هذا السياق أو قريبا منه، توجّهت جريدة "الأيام نيوز" إلى نخبة من الكُتّاب الأفاضل بهذه الرسالة: تنفرد اللغة العربية بمميزات لا تُوجد في غيرها من اللغات، فهي لغة ذوقيّة - إن جاز التعبير - بقدر ما نمتلك القدرة على تذوّقها والإحساس بها، بقدر ما تفتح لنا عوالم جمالها وسحرها. ويُفترض أن يكون الأديب والكاتب والشاعر أقدر الناس على تذوّق اللغة والإحساس بجمالها إلى الدرجة التي تُبكيه أو تسعده أو تجعل جلده يقشعرّ.. وما إلى ذلك من مظاهر الانفعال والتفاعل باللغة.

فما هي علاقتكم باللغة؟ وكيف نشأت هذه العلاقة منذ الطفولة وإلى الآن؟ وهل يستطيع أن يبدع مَن لا يتذوّق اللغة؟ وهل هناك من طُرقٍ علّمتكم تذوّق العربية؟ تحدّثوا عن علاقة نشوء حب اللغة معكم وكيفية تمتين أواصر هذه اللغة في أرواحكم ومشاعركم... وهل تعتقدون بأن أزمة المقروئية في العالم العربي تعود في بعض أسبابها إلى افتقاد فئات كثيرة إلى أدوات تذوّق اللغة والإحساس بجمالها، مع كل ما تعنيه أزمة المقروئية من تأثير على الفكر والوعي، وتأثيرها على تذوّق الشعر وبعض الأجناس الأدبية الأخرى؟

وماذا عن علاقتك بلغتك العربية عزيزي القارئ، وهل تتذوّقها وتسحرك جمالياتها، أم أنك تعتبرها مجرّد وسيلة للتخاطب؟ لعلك ممّن صدّهم النحو والصرف عنها، لذلك أدعوك أن تجدّد علاقتك معها، وتحاول أن تتذوّقها فذاك أقصر طريق لتُدرك عظمة النّعمة الكبرى التي كرّمك بها الله.

حاول أن تعاملها على أنها امرأة صارخة الأنوثة، تغازلها فتتغنّج وتتمنّع عليك.. ستبدو لك هادئة مسالمة حينا وحينا تجدها لبؤةً مفترسة، وفي كل الحالات استسلم لها ففي اللحظة التي تعتقد بأنك روّضتها تكون هي التي قد روّضَتك. وإذا لم يُعجبك اقتراحي فاعتبر بأن حديثي عن التذوّق يتعلّق بطبخة في طنجرة قديمة واحترقَت!

وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

صرتُ إنسانًا من صرخات!

قَبلي هي كانت، لم أكن أُدرك أنّنا سنلتقي ذات يوم، لا لسببٍ معيّن، ولكنّني كجميع الذين وُلِدوا في الشّرق، وُجِدتُ وفي فمي ملعقةٌ من تناقضات.

في الشّرق يأتي الصّبيُّ مجبولًا بعنجهيّةٍ تغذّى عليها في رحلة الأشهر الظّلاميّة التّسعة، هو لا يدري من هو، لكنّه يعرف فيما بعد أنّ الذين ينتظرونه في الخارج كُثُر، يصفّقون في اللّحظة الأولى لأنّه ذكر، وللذّكر في إسعاد الآخرين - لحظة ولادته - مثل حظّ الأنثيَين أيضًا، يفرح الأب بأنّ اسمه سيُحمَل مجدّدًا، وأنّ هذا الصّبي هو وليُّ عهدٍ جديد لمملكةٍ لا يعرف سوى الله منشأها ومركزها وماهيّتها، ربّما كانت مملكةً من سراب، لكنّها في جميع الأحوال مملكة.

تُزغرد أعدادٌ من النّسوة الواقفات في الممرّات بأصواتٍ ما أنزل الله بها من سلطان لدى سماعهنّ صوت الصّرخة الأولى، من أتى بهنّ لمشاهدة هذا الحدث العظيم؟ حبّذا لو كان يدري أحد، لا بأس، إنّها أمورٌ تحدث بكلّ الأحوال.

الصّرخة الأولى، وليست الأخيرة، هي ما تُزرع ببال الشّرقي منذ نعومة أظافره، يمتصّ باقي الصّرخات من نهد الأمومة، فينشأ محمومًا بها، وتصبح شيئًا فشيئًا لغته الأولى الدّالة على طلباته؛ حين يجوع يصرخ، حين يعطش يصرخ، حين يضجر يصرخ، حين يمرض وحين يصحّ.. يصير الصّراخ لغةً لا سبيل لإسكاتها.

قَبلي هي كانت، ولم أكن لو لم تكن، ونشأتُ كجميع من هم في عمري، لا إرث لي سوى بطولاتٍ تمجّدها كتب التّاريخ وتصيب صدورنا بجنون العظمة، كِبارٌ نحن ولو لم نكن نملك شيئًا، زُرِعت برأسي بطولاتنا العربيّة وحفظتُ تاريخنا المجيد عن ظهر قلب، ارتعشت لذكر رجالاتنا العظماء في الكثير من المرّات ووددتُ لو أنّني عاصرتهم، لو أنّني حدّثتهم، لو كنت سقّاء ذاك العهد، الذي كان يمرّ مرور الكرام في سِيَرِهم، لكنّه بكلّ الأحوال كان يمرّ.

حملتُ كجميع الذين من عمري أفكارًا تكبرني، ولبستها كثوبٍ فضفاضٍ جميل، وبارزت بها طواحين الغرب الفولاذيّة وواقعهم، لسع عقلي البطل "دونكيشوت" وجنونه، فقلت: هذه بطولةٌ لا تحتاج إلى مقوّمات سوى الهرطقات التي أحملها في رأسي. وكما الجميع، اقتنعت بأنّنا أمّةٌ مُحارَبة، بل وآمنت بنظرية المؤامرة، الكلّ ضدّنا، الكلّ يحاربنا، الكلّ يريدنا في القاع، وهذه كانت أسلحتي في وجه طواحين الغرب التي لا شيء يوقفها عن الدّوران.

صرخةٌ أولى تَبِعتها صرخاتٌ عدّة، صرخةٌ على صوت المرأة بأنّه عَورة، وأُخرى عن مشاركة المرأة في صنع القرار بأنّها كارثة، وثالثة عن هجرة الأدمغة والكثير الكثير من الصّرخات الفارغة... ولكي أكون أكثر دقّة، صِرتُ إنسانًا من صرخات، لا بأس في ذلك، من يدري؟ لعلّ صرخةً ما تُحدث ثُقبًا في طبلَة الكون.

قَبلي كانت، تراني أكبر، لكنّها لم تشأ أن تعكّر بطولاتي، أو بالأحرى صرخاتي، لكنّها وعلى حين غرّةٍ أيقظتني، لستُ أدري كيف ومتى رشّت ماءها فوق وجهي وصاحت بي: استيقظ!.

حدّثتني كما تُحدّث أمٌّ طفلها، أعادت تشكيل هويّتي من جديد، فوجدت أنّني لم أزل جنينًا لا يفقه من لغة الأمور شيئًا، أيقنت بفضلها أنّ لا أحد يحاربنا، ولا أحد يعرفنا أصلًا، وأنّ المؤامرة وهمٌ استسغناه لكي نُظهر أنفسنا أنّنا لم نزل عظماء، وعلمت أنّنا في القاع مذ تركناها تراقبنا من بُعدٍ ونحن منبهرون بما يقوم به غيرُنا، لا لشيءٍ إلّا لكي نخلق لأفعالهم العيوب في العلن ونمارسها نحن في الخفاء، أصابتنا التُّخمة من مضغ كلّ ما يصنعونه بعد منتصف اللّيل، صرنا نبتلع الأشياء ونغفو، غير آبهين بما نستطيع هضمه أو لا، لكنّنا - والحقّ يُقال - برَعنا في محاضراتنا عن سيّئات كلّ ما يقدّمونه، وهجرناها لنركض وراء غيرها، متأفّفين ممّا صنعه الآخرون بنا، ولم نعِ أنّنا نحن من صنَع هذا بنا، وأنّ المؤامرة الكبرى هي من صُنعنا، وأنّ صرخاتنا الفارغة كانت على أشياء صغيرة متناسين القضايا الكبرى.

قَبلي هي كانت، وقَبلنا جميعًا، ولم نكن لو لم تكن، لغتنا التي هجرناها تدعونا كلّ يومٍ لكي نعود إليها، حبّذا لو نسمع الصّوت، حبّذا لَو...!

رسالة إلى لغتنا العربيّة الجميلة

 هند سليمان أبو عزّ الدين (باحثة وكاتبة من لبنان)

رسالة إلى لغتنا العربيّة الجميلة

تطلّ من قصرها الجميل لتزهو بأجمل العبارات، فتبدو مزيّنة بالتّشابيه والاستعارات، وترتدي ثوب الفصاحة والبلاغة، فيظهر جمالها جليًّا حين تحمل معجمًا غنيًّا بالكلمات، ومن كرم حضورها في يوميّات حياتنا، تمدّ يدها لتحتضن خطوتنا الأولى في دروب التّعبير، فيفوح العبير من ندى حروفها، لأنّها أوّل نافذة تواصلٍ تُفتح للإنسان العربيّ ليخاطب بها الآخرين، وليبني جسرًا من الحبّ يصله بالأهل والعائلة من خلال الكلام، فتنمو في حقول قلبه ورود المحبّة والحنان، وحكايات تُشعره بالدّفء والأمان، فتكبر في عينيه الرّغبة في الانتماء إلى لغته العربيّة الجميلة، والاحتماء بصدى ألفاظها العذبة، وتستعذب شفتاه حروفها العابقة بأريج نداء الأمّ وصوت الأب، وأحاديث الأصحاب والجيران.

 وهكذا تشكّل اللّغة العربيّة، في ذاكرتنا، عيد الكلمة الأولى التي يشعر الطّفل عند نطقها بفرح كبير، ويكتسب بعدها قدرة على التّعبير عن أحاسيسه وحاجاته، فيُحتفى به بين الأقارب والأصدقاء لأنّه قدّم إنجازًا لغويًّا يُسطّر في بداية إنجازاته، ويُرافقه في رحلة حياته، فيرقص الحرف على نبضات قلبه، وينطلق من لسانه مختالًا حين تضيء أمامه ابتسامات العيون، وتُصفّق الأيدي تشجيعًا له، فيتباهى الطّفل بإعادة كلماته مرارًا وتكرارًا في وسط أجواء الفرح والحبور، والفخر والإعجاب، وتُصبح اللّغة بداية تواصله مع محيطه، فيعشقها منذ الصّغر، ويطمئنّ إليها قلبه، فيخبرها أسراره، لتحمل عنه عبء همومه وأحزانه، ولتحتفل معه بلحظات نجاحه وفرحه.

فلغتنا العربيّة لها معَنا قصّة منسوجة من حرير المشاعر والذّكريات، ومطلّة على دروب المستقبل لتُنيرها بعزم وثبات، ومزيّنة بعطر الياسمين، وبأنغام الحنين، فهي هويّتنا التي نعتزّ بها، ونستمدّ منها قيمنا وعاداتنا وتاريخنا وثقافتنا، ونستقي منها النّثر الجميل الذي يُذكّرنا بحكايات الطّفولة، وبروايات حملت سمات الإبداع والجمال، فأثّرت فينا، وأخذتنا إلى عالمها الذي يحفل بالشّخصيات، لنعيش معها الأحداث المختلفة والمليئة بالمغامرات والعبر والقصص الإنسانيّة التي يمكننا الاستفادة منها في حياتنا اليوميّة، وفي فهم الآخرين واكتساب القدرة على التّعامل معهم.

وهي لغة القصائد والأشعار التي يحفل بها تاريخ الأدب العربي، فتُغني تراثنا الفكري والثّقافي، وتترك في نفوسنا تأثيرًا قويًّا بسبب جزالة ألفاظها وقدرتها على استخدام المحسّنات البيانيّة التي تخاطب المشاعر، وتجعلها قادرة على فهم التّجربة الشعريّة وتحليلها، والغوص في أعماق النّفس البشريّة، فهي لغة حيّة قابلة للاشتقاق والتّوليد، وهذا ما يساهم في زيادة غناها وتميّزها، ويجعلها دائمًا تلبس رداء التّجدّد والتّطوّر.

وهكذا نجد أنّها قادرة على إطلاق عنان الخيال، ليسرح بعيدًا في عالم من الصّور الجميلة، فيتحوّل فيها الأدب إلى حقول مرصّعة بالياسمين والورود، لأنّها تعزف على أوتار الفؤاد، لينطلق معها في حالة وجدانيّة يغوص فيها في أحاسيس الشّاعر، ويحيا معه الشّوق والحبّ والمدح والفخر، ويبكي معه رثاءه الأحبّة، فيغدو فيها الشّعر فارسًا يختال فوق حصانه الأبيض، ويُطرب الأذن بأنغام الإيقاع، فيسبح معه الإنسان في بحر من العذوبة والحنين، ليجد في أعماقه أجمل الجواهر المرصّعة باللّؤلؤ والمرجان.

واللّغة العربيّة التي نعتزّ بها ونفخر بالانتماء إليها، أبهرت الغرب، ونشرت فيه العلوم والمعارف، فساهمت في تطوّره، وجذبت انتباه الثّقافات المختلفة، فأفادت الآخرين، واستفادت من التّفاعل مع حضارات أخرى، فتفتّح فيها الفكر منطلِقًا إلى آفاق بعيدة، وهذا ما جعلها تقطف ثمار الرّقيّ لتغدو من اللّغات المهمّة والمنتشرة في العالم، فقد أُدخلت ضمن اللّغات الرّسميّة في الأمم المتحدة، وعُيّن تاريخ 18 كانون الأوّل/ ديسمبر يومًا عالميًّا للاحتفال بها.

فهي تعيش في وجداننا، وتحيا في قلوبنا، لأنّها تحثّنا على البرّ والتّقوى، وهي تستحقّ التّميّز لأنّها لغة الخير والعطاء، ولغة نؤدّي بها الصّلاة، وتملأ ألسنتنا بالاستغفار والدّعاء، وتدعونا إلى التمسّك بالفضيلة، وبالقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، فمآثرها كثيرة وعديدة، ولإظهار تميّزها ومكانتها السّامية يكفي أن نقول إنها لغة القرآن الكريم، فقد قال اللّه تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (القرآن الكريم، يوسف: 2).

عدوية موفق الدبس (باحثة وكاتبة سورية - لبنان)

ضُحى... قصّتنا مع الحياة!

ضحى، فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، تلازمني كظلي. لا تتركني في أي لحظة. ربما يمكننا القول إنها مربّيتي التي أحضرتها أمي، رغم أنها لا تتقاضى أجرًا، ولم تطلب يومًا مالًا. ضحى هي تلك الفتاة التي، كلما سألتها عن عمرها، أجابت: "28"، وحتى يومنا هذا، لم يزدد عمرها عامًا، ولم ينقص. لا أعلم لماذا أجدني أنا فقط من يكبر، بينما تبقى هي على حالها.

لا أدري إن كانت تملك عصًا سحرية، أم أن جمالها وحده يكفي ليجعل كل من يلقاها يقع في حبها. جمالها يفوق كل جمال، تحمل في ملامحها الأماني وأضدادها معًا. ضحى، هي المكوّن السّرّي لكلّ وصفات الإبداع، هي الغيث لأيّ أرضٍ عطشى توّاقةٍ للخلود. ضحى هي إكسير الحياة. هي قطعة سكّرٍ من سحر، تذوب في أكواب الشاي فلا يخطر ببال الفناجين أيّهما أحلى. مثاليةٌ حتى حدود الكمال، صعبة المنال، لكنها إن أحبّتك ومنحتك قلبها، أعطتك كل ما تملك، بلا نقصان.

سافرت إلى بلدانٍ عديدة، وتعرّفت إلى ثقافات وتقاليد شتّى. بل كانت وسيلة لنقل تلك الثقافات، ولسَفَرِ الحريّة في عالمٍ تقيّده القيود. لطالما وقفت مع الأبرياء، وسعت إلى إيصال صوتهم. حدثتني يومًا عن زيارتها لفلسطين، حيث وقفت شامخةً بين غصون الزيتون، لم تقبل بالهزيمة، صرخت بكل قوتها لتقول الحقيقة، رغم محاولاتهم العديدة لاغتيالها.

 إنها تحب بلاد الياسمين، هناك، حيث يتغزّل بها الشعراء، ويرسمونها بأجمل الأوصاف. جلست على عرش الأمراء والملوك، وكانت الوسيط الذي حلّ الكثير من النزاعات وأقام السلام. هي مفتاح القلوب بين الحبيب والمحبوب. حتى أعداء من يحبون ضحى ويعشقونها، لم يجدوا بدًّا من استضافتها في مجالسهم. بل وحتى في طغيانهم وغدرهم وإشعالهم للدمار والحروب..

لطالما أخبرتها عن أسراري التي أكتبها على تلك الأسطر، عن أشخاصٍ تعرفت إليهم، وعن مفارقة غريبة: أن كثيرًا منهم يعرفون ضحى أيضًا، ويتواصلون معها! ولا أنكر، بفضل ضحى، حظيت بأشخاص لا يتكررون. لكن، رغم كل هذا، يحزنني حالها... فرغم اسمها المميز، وجمالها، وذكائها، وتجردها، وعمرها الذي لا يشيخ، إلا أنني أخشى أن تموت... ليس لأنها عجوزٌ أنهكها الزمن، بل لأن العالم لا يُنصف الجميلات النقيّات.

رغم من يحبونها، هناك من يكرهها... يظنون أنها تسعى للسيطرة على العالم، بينما هم يجهلون حقيقتها؛ فهي أمٌّ منذ كان الكون طفلًا، وهي صوتُ آدم مذ كان في الجنّة الأولى. ورغم صعوبة نطقها في بعض البلدان، تظل ضحى ثابتة الجذور، محافظة على ذاتها، وهويتها، وتاريخها، وحضارتها. إنها لغة الأقوياء في وجه الخيبات.

تعرفت على الكثير من الأصدقاء، منهم مَن سمّى نفسه بحروفٍ هجينة، أسماء مزعجة في النطق، تكاد تُطرِق على رأسها كالمطارق: حروف إنجليزية بأرقام، تُسمّى "لغة الإنترنت". كادت تلك اللغة أن توجّه لضحى الضربة القاضية، أن تسلبها ذاكرتها، وتُنسيها من هي... كعجوزٍ على حافة الهاوية، رغم أنها ما زالت صغيرة.

ضحى لا تملك اسمًا واحدًا، بل أسماء كثيرة. يسمّونها: "لغة الأم"، "حبيبة الملايين"، "معشوقة الرجال"، أو كما يقولون، "معشوقة الشعراء". لكنّ اسمها الأقرب إليها، هو "لغة الضاد".

نعم، يا أحبّائي... إنها لغة الضاد. اللغة المتغلغلة في جذورنا، في أوطاننا، في أنفاسنا حين نطلب الحرية، وفي أصواتنا حين نقمع الظلم ونكشف الأكاذيب. هي ناقلة الحب، وراوية الحكايات، هي من توقعنا في الحُب، دون أن نرى المحبوب! نقع في حروف أحدهم، دون أن نلقاه يومًا... نحب من خلال الكلمات. وقد أحببنا نبينا محمّدًا صل الله عليه وسلم، من خلال الكلمات، قرأنا سيرته، وتفاصيله، وحكمته، وجماله... فوقعنا في حبّه، رغم أننا لم نره قط.

رافقتني هذه اللغة منذ نعومة أظافري، لطالما قال لي أستاذ العربي: "هيا يا ابن المقفّع، قف واقرأ ما عندك!" فتبدأ ضحى بمساعدتي، خطوةً خطوة، ونكتب معًا أجمل الكلمات. كانت تجعل المقاعد تنطق، والكراسي تعبّر عن رأيها، والسبّورة تئنّ من المعاناة! وفي كل مرة، كنت أحصل على العلامة الكاملة.

مضى الوقت، وبقيت ضحى ترافقني، حتى همست لي يومًا: "ما رأيك أن تأخذيني على محمل الجد؟ أن ندرس الأدب العربي؟".

لم أنكر أنني في البداية أخذتها للتسلية، لكن شيئًا فشيئًا، بدأت الحكاية... كبرت ضحى بداخلي، نضجت، وأصبحتُ معلمة... معلمة لغة الضاد. تستيقظ باكرًا، لتذهب إلى أجمل عمل، ثماني ساعات، لا تتكلم فيها إلا بالفصحى، حتى ظنّ من حولها أنها لا تجيد العاميّة! وقعت في حبها، ولا أستطيع التخلي عنها، أصبحت جزءًا مني، بل أنا منها.

مرت الأيام، وكبر حلمي مع ضحى، لكن في الأشهر الأخيرة، كبر هذا الحلم بشكل مختلف، أسرع، وأسرع... اتسعت دائرتي، وتعرّفت على من وقعوا في حب ضحى، وكعادتها، لم تتركني. عرّفتني إلى صديق، كان بمثابة "ضمادة" تُرمم العلاقة بيني وبينها.

حدثني عنها، وصفها بأجمل الكلمات، قال لي: "إنك تجيدين التعامل معها، وهي تحبك، عليك أن تستمري... أن تتشعبي في تعاملك معها، بين نثرٍ وشعر، واستماعٍ لذاك وذاك." كلماته أقنعتني، اتّسعت آفاقي، وبدأت أعمّق علاقتي مع ضحى، حتى تكبر وتكبر...

شعر أ. د. عبد الوهاب برانية - جامعة الأزهر- خبير لغوي بمعهد الوسطية وثقافة السلام بجيبوتي

من يمسح دمعك يا فصحى؟

جلست إلى جوار الضاد أُصْغِي *** لشكواها بذكراها النديةْ

أصخت السمع للفصحى كأني *** ركنت إلى معللتي الأبيةْ

رأيت الدمع رقراقا هطولا *** فقلت لها لماذا يا صبيَّةْ؟

فقالت قد جُفِيتُ وناء عني *** أمانٍ كنت أحسبها دنيةْ

أراني قد هُجِرْتُ بكل نادٍ *** ووادٍ رغم روضاتي الغنيةْ

وجفت في منابعها مياهي *** وقد كانت منابعها ثريةْ

ولاكت ألسنٌ لفظي لماما *** كأن مرابعي قَحْلَى خليَّةْ

ففي كل الشوارع قد جفاني *** جموع الناس واجتلبوا الأذيةْ

فصاغوا من لغات الغرب دوني *** عبارات التهاني والتحيةْ

وأسماءَ المباني والضواحي *** وألقابا هزيلاتٍ هفيَّةْ

ونادي بعض أبنائي بوأدي *** ليبتعثوا دعاوَى الجاهلية

مخافة أن ألاحقهم بعار *** إذا استبقَوْا لفصحاهم بقية

وما تعنيهمُ أبدا حياتي *** وما تعنيهمُ أبدا هُوية

فصـرت غريبة في عقر داري *** وصرت بغبن أصحابي شقيةْ

وحسبي أن ربي قد حباني *** على كل اللغات العالمية

فبالقرآن ينطق من يصلي *** أعاربُ أؤ أعاجمُ بالسوية

وذا شرف أتيه به فأعلو *** على كل النداءات الغبية

وهذي حكمة البارى تولت *** حِفاظَ الضادِ في تلك المعية

فقلت لها أيا لغتي وحبي *** وشغلي في الصباح وفي العشيةْ

عشقتك من شَغاف القلب حتى *** بذلتُ الحب لا أُبقي بقيةْ

فلا تهني لما تلقِين منهم *** فمن غبنوكِ هم شر البرية

ولكنْ بين أظهرنا أناسٌ *** ترقوا في سماواكِ العليةْ

أقاموا في مرابعَ مخصباتٍ *** ندياتٍ بريئاتٍ نقيةْ

يحبون الفصيحة حبَّ قيسٍ *** بِـتَهْيامٍ لليلى العامريةْ

فنحن بنوك يا فصحى أصخنا *** لشكواك المبللةِ الشجيةْ

فأوجعتِ الفؤادَ أثرتِ فينا *** كوامن مِنْ أسًى كانت خفيةْ     

سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

نصيحة "أخلاقيّة" من الشّيطان.. "أفيخاي" يحدّثكم!

من منّا لا يبدأ سلامه بكوكتيل لغوي؟ ثقافات عدّة في جملة بسيطة، وانسيابيّة في دمج الأبجديّة التي نقطفها من عوالم مختلفة، لوضعها في سلّة الكلام العام. خصوصًا نحن الدّول العربيّة التي خضعت للاستعمار الفرنسيّ أو البريطانيّ، فبين الفرنكوفونيّة والإنكليزية مدّت العربيّة خيوطها لتتشابك مع الصّراع اللّغويّ في العالم، حتى الغزل، فتعبير (يا بيبي) له وقع خاص في التّناغم العاطفيّ بين عشّاق هذا العصر.

نعلم تمامًا أنّ العربيّة بدأت تفقد شيئًا من أصالتها، ولكنّها في المقابل تجري وفق الاحتياجات الثّقافيّة لجيل العولمة والتّطور السّريع.

وليس هذا ما سنناقشه في هذه المقالة، إذ موضوع اللّغة وعلاقته بالعولمة وبالنّزاع الثّقافي إشكاليّة ليس ضبطها بالأمر السّهل. ولكن! دعونا نحيد قليلًا عن الطّريق المرسوم في دراسة اللّغة وأهميّتها في المجتمع وجماليتها في التّعبير والبعد الثّقافي، وسأسألكم: هل تعرفون النّاطق الرّسميّ باسم جيش العدوّ الصهيوني "أفيخاي أدرعي"؟

ومن مناّ لا يعرفه؟! هذا الرّجل الذي أصبح أشهر من نار على علم في ظلّ الحرب التي أعلنها العدوّ الصّهيونيّ على فلسطين ولبنان مؤخّرًا. فلماذا اشتهر في الأوساط العربيّة؟

في حديث شريف لرسولنا الكريم يقول فيه: "من تعلّم لغة قوم أمن شرّهم"، والغريب أنّ من طبّق هذا القول، هو العدوّ، فقد أتقن "أفيخاي" العربيّة بطلاقة، ليفهم جوانب ثقافتنا المختلفة، ويمتلك مفاهيمنا الفكريّة، فيتمكّن بالتّالي من الولوج إلى خصوصّية بيئتنا، ويجبرنا على متابعة تصريحاته بدون أيّ مجهود منه، وليضمن أنّنا لن نغيّر محطّة التّلفاز كلّما هلّ علينا بتصريح أو تهديد جديد بحجّة جهلنا للغتهم، حتى إنّه لم يستعض عن العبريّة باللّغة الإنكليزية العالميّة، وإنّما توجّه إلينا بلغتنا الأمّ، بإتقان وحرفيّة، وبين العربيّة والعبريّة مسك "أفيخاي" ملكة الاتّصال والتّواصل.

ولنعترف أنّ العدوّ قام بخطوة ذكيّة بتصدير "أفيخاي" بشخصيّته ولغته المتمكّنة إلى داخل كلّ بيت عربيّ، ليضعنا بذلك أمام الأمر الواقع في متابعة التّفاصيل الإخباريّة التي يريدنا أن نعرفها بطريقته، وبأسلوبه وبالكمّ الذي يريدنا أن نعرفه، لا أكثر ولا أقلّ. والجدير بالذّكر أنّ "أفيخاي" لم يحدّثنا بلغتنا كأبجديّة وحسب، وإنّما حدّثنا بثقافتنا الاجتماعيّة والدّينيّة، حتى يكاد الجاهل يظنّ أنّه عربيّ مسلم مخضرم في التّاريخ العربيّ - الإسلامي. فكم من تصريحات له استشهد فيها بآيات من القرآن الكريم، خصوصًا تلك المتعلّقة بالكّفار والمجرمين، وإحقاق الحقّ، ليظهر أمام عدوّه (أي نحن العرب)، بأنّه المنقذ، المخلّص، المنفّذ لكلام الله على الأرض. فبين الذّكاء والوقاحة فرَض هذا الرّجل نفسه على عروبتنا.

وعلى مبدأ: إن لم تستح فافعل ما شئت، لم ينس أن يبارك للمسلمين يوم الجمعة، بنصيحة وظّف فيها آية من القرآن الكريم: "وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" (سورة يونس، الآية: 82)، ليخبرنا بلغتنا، وثقافتنا، ومعتقداتنا، أنّهم أصحاب الحقّ، وأنّنا نحن المجرمون المعتدون.

لماذا تحدّثنا مطوّلًا عن "أفيخاي"؟ هذا الرجّل الذي تواصل معنا ليخبرنا أنّه سيقتلنا، سيحتلّ أرضنا، ويدمّر ثقافتنا، مستخدمًا عربيّتنا، جاعلًا إيّاها وسيلة لبثّ التّهديد في مختلف جوانب حياتنا، ورغم كرهنا الشّديد له، ولكن لا يسعنا إنكار ذكائه في التّواصل مع عدوّه، وهذه إحدى الميزات التي فقدناها نحن العرب في معرفة عدوّنا، وربّما هذه واحدة من الأسباب التي جعلتنا حتى اليوم غير قادرين في استباق خطوات الصّهيونيّة.

أعود بكم إلى المقدّمة، نحن الذّين أخذنا الدّمج اللّغوي في سبيل الفانتازيا الثّقافيّة، فالعربيّة أصبحت بالنّسبة إلينا لغة الشّعر، والإنكليزية رمز الثّقافة، والفرنسيّة لغة الشّياكة، والذّكاء اللّغويّ متعلّق بقدرتنا على تعلّم اللّغات الأخرى! ولكن، أين لغتنا في عالم الأسلحة التّواصليّة؟ فنحن لا نستخدم العربيّة إلّا لرثاء حالتنا الانكساريّة والتّمرّد على الواقع. ونسينا اكتشاف ما ورائيات العبريّة في سبيل حماية العربيّة، نحن نتعامل بمبدأ: أكرهه ولا أريد أن أعرف عنه شيئًا، والأجدر بنا أن نفكّر: أكرهه وأريد أن أعرف عنه كلّ شيء كي أحمي نفسي من غدره.

ذكاء الاستخدام اللّغوي، وعلاقة اللّغة في التّواصل مع العدوّ، أو ما يمكننا تسميته (اللّغة الحربيّة)، أصبحت من أهم الأسلحة في التّرهيب، ونشر الفكر العقائدي التي تتبنّاها الجهة الهجوميّة، وهنا يأتي دور المدافع في دراسة كاراكتير المهاجم، ومحاربته بطرقيته. إذ لا تكمن المشكلة في الأخذ والرّد، وإنّما في فهم الأبعاد الفكريّة للطّرف الآخر، ولا يتحقّق ذلك إلّا من خلال الغوص في البيئة المواجهة، بلغتها الأصليّة، فالحرب لا يمكن أن تسير في اتّجاه واحد، واللّغة الحربيّة إذا فقدت قوّتها، سقطت. فجماليّة اللّغة وأمانها، من أمان بيئتها، ولا يمكن أن يتحقّق الأمان إذا كانت البيئة تحت التّهديد.

وربّما لهذا السّبب ما زلنا متأخّرين خطوة في حربنا ضدّ العدوّ، فلماذا لا نكون نحن العرب على محطّاتهم العبريّة نواجه، ونحارب، بمبدأ الندّ بالنّد؟ وهنا لا بدّ لنا أن نعيد النّظر ببعض الطّرق الدّفاعيّة، وإعادة ضبط نقاط الضّعف والعمل على تقويتها في سبيل اكتشاف ما حجبته عنّا التّرجمات، وأخفته عنّا اللّغات الأصليّة، والتّواصل بلغة واحدة. فيُخطئ من يظنّ أنّ اللّغة هي حبل الودّ والتّواصل فقط، وإنّما هي واحدة من أخطر الأسلحة التي يعتمدها العدوّ، خصوصًا إذا كان يمتلك أدوات استخدامها، فأيّ التّعبيرّين قد يخرق مسامع العدوّ: (الأرض لنا) أم (هاريتس شلي)؟

سحر قلاوون (كاتبة من لبنان)

وجودنا.. سرٌّ من أسرار لغتنا

هل تخيّلتم يوما ماذا سيحصل لو أن اللغة اختفت ولو أن حروفها اندثرت ورحلت إلى غير رجعة؟ هل لكم أن ترسموا صورة لحياتنا وهي خالية من اللغة؟ هل تخيلتم الاختناق الذي ستشعرون به وأنتم عاجزون عن التعبير بالأحرف؟

قد نكون غارقين بالنِّعم ونحن لا ندري ذلك، هذا هو واقع كُثر منا. لدينا من النعم ما لا يُعدّ ولا يحصى، ومع ذلك لا نفكر سوى بما نفتقده أو بما يملكه الآخرون. ومن أجمل النعم التي ندوس عليها بأرجلنا، غير آبهين لها وغير مدركين لقيمتها الحقيقية: اللغة.

نعم، إن اللغة هي المفتاح الذي يفتح لنا أبوابا كثيرة من الراحة. نصرخ، نبكي، نعاتب، نضحك ونعانق الآخرين بأحرفنا. نتشاجر مع الحياة بكل تفاصيلها، الصغيرة والكبيرة، بواسطة الأحرف. نروي للدنيا عن خيباتنا وآلامنا وآمالنا، من خلال لغة قد نستهين بها.

جميعنا بدأ علاقته باللغة بشكل غير واع، من خلال علاقتنا بأهلنا ومن حولنا في طفولتنا، وربما تكون قد بدأت قبل ذلك، إذ ربما تكون علاقتنا بها قد بدأت تتشكل منذ وجودنا كأجنّة تنتظر لحظة الخروج من الرّحم لتسرح وتمرح في هذه الدنيا.

وشيئا فشيئا تبدأ علاقتنا بها تصبح واعية أكثر، فنقرأ ونصغي ونكتب، وكل ذلك يكون كنوع من اللعب مع اللغة بالنسبة لنا، ولكن الحقيقة هي أن التعبير من خلال اللغة يساعدنا على التخلّص من كل ما يؤلمنا، وإن لم يخلصنا بشكل كلي، فإنه بالتأكيد يساهم بالتخفيف من حدّته.

لماذا برأيكم يلجأ الشخص للمعالج النفساني؟ أليس لأنه بحاجة لمن يسمعه؟ أليس لأنه لم يجد من يصغي إليه، أو ربما لم يعثر على من يثق به ليرمي له كل أسراره؟ كيف يمكن للشخص أن يخبر المعالج بمشاكله إن لم يتكلم؟ كيف سيسرد له تفاصيل قد يراها الجميع مجرد تفاصيل سخيفة ولا قيمة لها، ولكنها تعني له الكثير؟ أوليست الكتابة شكلا من أشكال التعبير عن النفس من خلال اللغة؟ وهل يمكن للكاتب، مبتدئا كان أم محترفا، أن ينسج لنا الحكايات من دون اللغة؟ ماذا سنقرأ له حينها؟ هل نقرأ كتابا بأوارق فارغة؟

إن العالم بلا لغة، يبدو لي أشبه ببئر خالٍ من الماء، فلا يستطيع الناس الارتواء منه. اللغة هي أساس حياتنا، هي المترجم لكل ما يحصل معنا، من أفراح وأحزان، وبدونها نغرق في الصمت القاتل. إن اختفاء اللغة سيؤدي إلى اختفائنا، لذلك علينا إدراك أهميتها والعمل على تنميتها من خلال القراءة والإصغاء الدائمين.

د. شعبان عبد الجيِّد (كاتب وأكاديمي مصري)

ما ليس جميلاً فليس أدبا وما ليس واضحًا فليس عربيا!.. ملاحظات حول ذوقِنا الأدبي!

منذ سنواتٍ بعيدة، حضرت ما يُسمَّى عندنا بمؤتمر اليوم الواحد، وهو مؤتمرٌ أدبيٌّ إقليمي، يُدعى إليه في الغالب بعض رموز الأدب والثقافة في إحدى المحافظات، ويشارك فيه نفرٌ من الشعراء والكُتَّاب. وحين جاء دورُ أحدِ النقاد المعروفين اعتدلت في جلستي، ومنَّيتُ نفسي بأن أجد عنده ما يُمتعُني وينفعني. قدَّمَه مديرُ الجلسة بكلمات التقدير والتوقير، فأقبلت بوجهي إليه، وأرهفت سمعي إليه، وما أن انتهى الرجل من المقدمة التقليدية لأي كلمة، وهي في الغالب من محفوظ القول ومكروره، وأخذ يعالج الموضوع الذي أراد ، حتى سمعتُ منه ما يُغضِبُ سيبويه ويُزعِجُ الخليل، وحرَصتُ على أن ألا يَظَهرَ عَلَيَّ شيءٌ من الغضب أو الاستياء، فتكلفت الابتسام، وأقبلت عليه مضطَّرًا، ولشدَّ ما كانت دهشتي حين صفَّق له الحضور بعد أن فرغ من إلقاء كلمته، وهتف له بعضهم بصيحات الإعجاب والاستحسان. لقد كانوا يكافئونه على أخطائه ويشجعونه على تقصيره!

لم أستجب لرغبتي في الانصراف، وقلت في نفسي: لعلي بالغتُ في حكمي وتقديري، ولعلَّ الرجل استثناءٌ في القاعدة، وأن عند غيره ما يطرب أو يعجب، وأكرَهت نفسي على البقاء، واتخذت قرارًا بالحضور إلى النهاية، على الأقلِّ حتى أكون موضوعيًّا فيما يمكن أن أكتبه أو أصرِّح به. وجاء أكثرُ ما سمعته مُخيِّبًا لما انتظرتُه، وكانت أخطاء الرجل في النحو والعروض، مع فُحشها وشناعتها في رأيي، أهون مما تأذَّيت به ممن جاءوا بعده؛ حيث خلطوا الفصحى بالعامية، ووسعوا للزّجل على حساب الشعر، وهو ما يفعلونه في أكثر ملتقياتهم. وبعيدًا عما غاظني من المجاملات المقيتة والنفاق البغيض، وما عرفته فيما بعد من أن من سمعتهم ورأيتهم هم في معظم الأحيان من يحضرون مثل هذه المهارج ويُدعَون إليها، فقد أسِفت كثيرًا على ما انتهى إليه أمرُ الإبداع والنقد في بلادي، وما أصبح عليه مستوى اللغة على ألسنة من يُفترض فيهم الحرصُ عليها والتمكنُ منها. وخشيتُ أن يكون هذا هو حالنا في حياتنا الثقافية والأدبية كلِّها، وسألت نفسي عن السبب الذي أدَّي بنا إلى هذه الخاتمة، واستقر في نفسي أن أبحث عن الجواب.

لقد كنت أعرف أن كلَّ شيءٍ يتغير، وأن الأمورَ لا يمكن أن تثبت على حالةٍ واحدة، وليس من الطبيعي أن نطالب أدباء اليوم بأن يكونوا مثل أدباء الأمس، في ثقافتهم وتمكّنهم ومستوى إبداعهم. لكنني على يقين من أن الإبداع هو الإبداع، وشروطه الجمالية لا جدال فيها، حتى لو تطورت أشكالُه وتنوّعت موضوعاتُه. ثم إنني أتحدث عن الحد الأدنى مما يجب أن يكون عليه الناقدُ أو الأديب أو المتلقِّي؛ ولا أعتقد أنه من المقبول أن يخطئ شاعرٌ في قراءة قصيدته، فيفسد نحوها وعروضَها، فلا يبقَى فيها من الشعرِ شيءٌ، ثم لا يجد من الجمهور من ينبّهه إلى خطئه، ولا مِن النقاد مَن يوقفه عند حَدِّه. فما الذي حدث؟ ألهذه الدرجة لم يَعُد عندنا ذوق؟!

انهيار دولة الشعر

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وتحديدًا في ديسمبر 1996، كتب أستاذنا الدكتور "الطاهر أحمد مكي" مقالًا في مجلة "الهلال" عن "شمس الشعر الغاربة"، ذهب فيه إلى أن وراء ذلك عدة أسباب، يأتي في مقدمتها أن الذكاء المصري بعامةٍ بدأ يفقد بريقه، وأن مستواه هبط درجاتٍ في مجالات العلم والإبداع على السواء. أمَّا العاملُ الثاني فهو انخفاض مستوى التعليم بقدرٍ مخيف، وتضاؤل ثقافة من يتصدَّون للشعر بزعم أنه موهبة، وأنه إلهامٌ يهبط عليهم من السماء. ويجهل أكثرهم، أو يتجاهلون، أن "أبا تمام" كان يحفظ، فيما يحفظ، سبعة عشر ألف أرجوزة، والأراجيز من أصعب الشعر العربي، لأنها تحوِي غريبه ونادرَه، وكان "أبو العلاء المعري" يحفظ ديوان "المتنبي" ويسمّيه "معجِزَ أحمد"، وكان "ابن عبدون الأندلسي" يحفظ كتاب "الأغاني" كاملًا، بكل أشعاره ونثره ومصطلحاته الموسيقية، وذلك كان بعض زادهم لقول الشعر.

إننا نعاني أزمةً خانقةً في الإبداع والتلقي، ولن يصلح الأمرُ في كليهما الآنَ إلا بما صَلُحَ به في أوَّلِه: أن نردَّ حياتنا التعليمية إلى تراثنا ردًّا جادًّا؛ فنقرِئَ تلاميذَنا في المدارس ما كان يقرؤه أندادُهم في الثلاثينيات والأربعينيات، كانت الوزارة توزع على تلاميذ المدارس الثانوية مجموعةً مختارةً من أشعار "شوقي"، وكتاب "المنتخب من شعر العرب"، في جزئيه، يضم روائع الشعر من العصر الجاهلي حتى وقت ظهور الكتاب. ويقرأون في النثر كتاب "المكافأة" لـ "ابن الداية"، و"حضارة الإسلام في دار السلام" لـ "جميل نخلة"، و"مهذَّب رحلة ابن بطُّوطة"، و"كليلة ودمنة"، و"مختار الأغاني"، و"مهذَّب الكامل"، وغيرها. أمَّا في الجامعة فكانت الدراسةُ تقوم على العودة إلى الأصول ذاتِها، فلا تصرُّفَ ولا تلخيصَ ولا تهذيب ولا مذكرات.

وكان التلاميذ في المرحلتين الابتدائية والثانوية يحفظون قدرًا كبيرًا من الشعر في شتَّى عصوره، وفي الوقت نفسِه كانت دار الكتب المصرية إلى جوار مطبعة بولاق، تصدر أمّهات كتب التراث شعرًا ونثرًا، في طبعات محققة جيِّدًا، وشكلٍ جذَّاب، مل ديوان زهير بن أبي سُلمَى، ومهيار الديلمي، إلى جانب كتب الأغاني، وعيون الأخبار، وصبح الأعشَى، ونهاية الأرَب، وتفسير القرطبي، وتقدّمها للقارئ بأسعارٍ مناسبة، فترتفع بمستواه في القراءة والاختيار. ولا يعني هذا أن هؤلاء الطلاب صاروا متساوين في درجة ثقافتهم أو أو طبيعة إبداعهم أو طريقة تلقِّيهم؛ فقراءات الناس للأدب، أيًّا كان نوعُه، لا تجيء على نمطٍ واحد، ولا تجري إلى غايةٍ لا تختلف، وإنما تحكمها دوافع متنوعة، وأمشاجٍ عديدةٍ من أشواق القارئ وتقنية المبدع، وضواغط اللحظة.

تجربتي في القراءة  

وأذكر أن شيئًا من هذا قد حدث معي أنا شخصيًّا، مع مراعاة فروق التوقيت؛ فلقد كان القرآن الكريم في لغته العليا وبلاغته الرفيعة، هو أول نص تربَّى عليه سمعي وذوقي ووجداني في السنوات الأولى من عمري. ولا أزال أذكر – كما لو كان ذلك بالأمس – كيف كنا ونحن أطفال صغار، نردد في نغمة سريعة وأصوات هادرة آيات سورة "الغاشية"، بإيقاعها المتلاحق وفواصلها البديعة، وكأننا ودون أن ندري أو نقصد، كنا نصور مشهد القيامة الرهيب بأهواله وشدائده، ونتصور صُنوف العذاب التي أعدّت للكافرين، وألوان النعيم التي تنتظر المؤمنين.

   منذ تلك الفترة البعيدة وحتى الآن وأنا لا يُطرب أذني ولا يُعجب عقلي ولا يحرك مشاعري إلا الكلامُ الذي فيه أثر القرآن أو قبس منه، وضوحاً في الألفاظ وروعة في التصوير وعمقاً في المعاني وحلاوة في الموسيقى. ولا يجذبني من الكُتَّاب إلا أصحابُ الأساليب الأدبية الجميلة والعبارة المبينة المشرقة، وهؤلاء هم الذين أعود إليهم دائماً لألتذَّ بقراءتهم وأفيد من بيانهم وأجدد معهم دماء عقلي. أما من عداهم من أصحاب الأساليب المائعة والصور الباهتة والرنين الخافت، فإني لا أقربهم إلا مضطرا، ولا أعود إليهم إلا وقت الحاجة. والحقَّ أقول لكم: ما ليس جميلاً فليس أدباً، وما ليس واضحًا فليس عربيًّا.

   وفيما بعد مع تقدّم العمر واتساع الثقافة عرفت أن "الأسلوب" هو الرجل كما يقول الفرنسيون، وهو طريقة الكاتب في نظم الجملة ورصف العبارة وتركيب الكلام، وبدهي أن يتفاوت الأدباء في أساليبهم ويتباينوا في طرائق تعبيرهم، والفرق بينهم هنا كالفرق بين الفواكه الكثيرة المتنوعة، كلها مرغوبة ومشتهاة، وإن كانت تختلف في مذاقها وطعمها ونكهتها.

   وفي المرحلة الثانوية، وبالتوازي، كنت أقرأ بنهم شديد وعزيمة عجيبة لثلاثة من أكبر الكتاب الصحفيين في تلك الفترة: أنيس منصور، مصطفى محمود، خالد محمد خالد. وهم متقاربون في أساليبهم وإن كانوا لا يتشابهون أو يتطابقون، وأستطيع القول بأنهم الامتداد اللغوي والتطور الفني لمدرسة البيان في النثر العربي الحديث، التي رادها المنفلوطي، وكان الرافعي والزيات وطه حسين أبرزَ أعلامها .

   لم أكن أكتفي بما ينشر لهم من مقالات في الصحف والمجلات، إنما كنت أقرأ كتبهم الكثيرة، وأقتني منها كل ما تقع عليه عيني ويطيقه جيبي. ولم أكن أشترى لواحد منهم كتاباً إلا وأتيت عليه من الألف إلى الياء، وأذكر أنني كنت أذرع بعض كتبهم الصغيرة من أولها إلى أخرها في جلسة واحدة .

   يعينني على ذلك أنني كنت مفرغاً للقراءة والمطالعة، ولا يشغلني عنهما أيّ شيء آخر، ولم يكن والدي - رحمه الله - يحاسبني على نتائج امتحاناتي في المدرسة، وكان يكتفي مني بالنجاح آخر العام، وهو ما كان أمراً ميسوراً جداً بالنسبة لي. وكنت بسبب طبيعتي القلقة الملول، وخيالي المتوثّب الجموح، أنفر من الكتب المقررة والمناهج المحددة، وقد وقر في رأسي أنها وُضعت للمذاكرة والامتحان وليس للمتعة والتفكر، فضقت بها ذرعاً وجعلتها على هامش اهتمامي وتركيزي، وانصرفت عنها إلى ما كان يمتع نفسي ويوسع أفقي ويعمق معارفي.

أثرُ الصحافة

كان أثر الصحافة في لغة الكتابة قوياً وظاهراً، فبينما كان الأدباء القدامى يؤثِرون اللغة المزخرفة والأساليب المنمقة، فيكثرون من أشكال البديع، ويتكلفون ألوان البيان، كان الكُتّاب المحدثون يفضّلون اللغة السهلة الطيِّعة، ويميلون إلى الأساليب البسيطة الواضحة. وبينما كان الأولون يتصنّعون في نظم القول، ويستعرضون فنون البلاغة المعقدة، كان المعاصرون يكتبون بعفويةٍ وتلقائية، لا يعاظلون ولا يتفيهقون!

 كان القدماء يؤلفون كتبهم وينشئون رسائلهم لطائفة محدودة من المتأدّبين، ممن يفهمون عنهم وتعجبهم طرائقهم، فكانت المفردات الجزلة والعبارات الرصينة والبناء الفخيم، أما كُتّاب الصحف فإنهم يتوجهون للقارئ العادي، الذي تناسبه المفردات السهلة والعبارات الواضحة والبناء البسيط!

 وفي الفترة التي أخذت أتابع خلالها الجرائد اليومية والأسبوعية ــ أواخر السبعينيات من القرن العشرين ــ كانت لغة الصحافة قد وصلت إلى أعلى درجات السهولة والتّيسير، وإن كانت، في الوقت نفسه، قد بدأت تهوِي إلى أولى دركات الميوعة والتسطيح.

 أيامها أيضاً ــ فما بالك الآن؟ ــ كانت كتب المدرسة، في مجملها، سقيمة اللغة فقيرة الخيال، كأن أصحابها قد تعمّدوا صياغتها في قوالب لغوية جافةٍ وباردة، وبصورةٍ عقليةٍ ومنطقيةٍ صارمة، يذهبون في ذلك إلى أن لغة العلم لا بدَّ أن تكون مُحكمَةٌ وقاطعة، ولا يؤمنون أنها يمكن أن تكون في الوقت ذاته مثيرةً وممتعة.

  وأنا أزعم أن مؤلِّفي تلك الكتب، أو معظمَهم على الأقل، لم يكونوا من الأدباء، ولا من ذوي الحس الأدبي، وكنت أشعر أن كلامهم كالماء المائع، لا طعم له ولا لون ولا رائحة، أو أنه مثل أكل المستشفيات، قد يصلح للمرضى الضعفاء المهازيل، ولكنه لا يصلح ولا يكفي الأصِحَّاء الأشدَّاء ذوي العافية.

 وأذكر أن "ليسينج"، الأديب الألماني الكبير، كانت قد ظهرت عليه علامات النّجابة منذ الصغر، وكان يقرأ ويبحث على نحوٍ لا يُصدَّق، وقال عنه أحد أساتذته عندما كان تلميذاً: إنه جَوَادٌ شابٌّ، ينبغي أن تُضاعَفَ له حصته من الشعير؛ كان يرى أن كل ما هو مطبوعٌ صالح للقراءة. ويجب أن يقرأ المرء ما لا يُجبر على معرفته بخاصةٍ وما لا يعرفه الآخرون .

 ثم تأكد لي ذلك فيما بعد، حين قرأت ما كتبه الدكتور "أحمد زكي"، وهو من كبار علمائنا ومفكرينا، ومن أصحاب الأساليب الطلية الرائعة. وكتبه الأصيلة القيِّمة: "مع الله في الأرض"، "مع الله في السماء"، "قصة الميكروب"، تُحَفٌ علمية وأدبية في آنٍ معاً: فكرٌ عميق وأسلوبٌ مشرق، وتمكّنٌ راسخ من حقائق العلم ولطائف الأدب على حدٍّ سواء.

وحزنت كثيراً لأنهم لم يبسِّطوا لنا المعارف العلمية والفلسفية، والنظريات الفيزيائية والرياضية، ولم يكن من بينهم واحدٌ مثل "كارل ساجان"، أو "إسحاق عظيموف"، وهما اثنان من أكبر علماء القرن العشرين الذين قدّموا العلمَ للقارئ العادي، وجعلوه في متناول الجميع، بفضل أسلوبهم الممتع البسيط، وتشبيهاتهم البيانية الطريفة. ولا أزال أفيد وأستمتع بكتب "ساجان" عن "الكون" و"كوكب الأرض نقطة زرقاء باهتة" و"رومانسية العلم"، وأعود كثيرًا إلى ما كتبه "عظيموف" عن اكتشافات العلم العظيمة، والعلم وآفاق المستقبل.

  وكان أساتذتنا ــ سامحهم الله وغفر لهم ــ يضيِّقون واسعًا، ويقتصرون فى كلامهم معنا على شرح ما هو مُقرَّر فى كتب الوزارة، وهي مثل الخَرُّوب: قنطار خشب ودرهم   حلاوة، وشذّ منهم من كان يحدثنا عن قصة قرأها، أو مقال طالعه، أو قصيدة أعجب بها. لقد حبسونا فى سجن ضيق، وحجبوا عنا نور المعرفة، وحرمونا من متعة القراءة الحرة ولذة التأمل الطليق، وجعلونا نظن أن العلم كله إنما هو ما يدرِّسونه لنا وأن الله لم يخلق كتباً أخرى غير الكتب الدراسية ــ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

أمَّا كتب اللغة العربية، بما فيها من شعر ونثر وقصص وروايات، فقد كانت نقطة فى بحر وغرفة من محيط، وفقدت هي الأخرى قيمتها الفنية وتأثيرها الجمالى حين جعلوها مادة للاستظهار والامتحان، ولم يحسنوا كثيراً انتقاء موضوعاتها واختيار أساليبها، فجاء أكثرها مهلهَلَ النسج مُفكَّك البناء، أشبهَ شيء بثوب البهلوان، كله بقع من متنافر الألوان وغريب الأقمشة.

وعجبت كثيراً حين قرأت منذ سنوات كتاب المطالعة الذي كان مقرراً على تلاميذ السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية، في أربعينيات القرن الماضي، ورأيت مافيه من غزارة المادة وتنوّع الموضوعات وإشراق الأساليب، وحسن الإخراج، وزاد عجبي حين علمت أن طلاب المدارس الثانوية في تلك الفترة كانوا يتسلمون كتاب "الشوقيات المختار "، وفيه أروع وأمتع ما نظم أمير الشعراء، لا يُمتحنون فيه، ولا يُسألون عنه سؤال الملكين، وإنما يقرءونه للمتعة الأدبية الخالصة، واللذة الفنية المحضة، حتى يسمو ذوقهم، وترتقي أساليبهم، ويثرى معجمهم .

 لم أجد نفسى كثيرًا فى كتب المدرسة، ولم أحس بمتعة ولا راحةٍ  مع علم يقترن بالتخويف والترهيب، ويرتبط بالإجبار والإكراه، ويذكِّرني بالأدوية المُرّة التي كنا نتجرّعها مرغمين، بحجة أنها سوف تُشفي أمراضنا وتعالج أسقامنا، فضقت ذرعاً بكل ماهو معقَّد ومُربِك، وأدرتُ ظهري لما كان يَغمُض عليَّ أو يستشكل على عقلي، وكنت أكتفي من المدرسة بما يلذني ويمتعني، وقليلٌ ما هو، وانطلقت أبحث عن الكلام السهل الواضح الجميل، وأعدو وراء كل ما يمتع العقل ويبهج النفس ويثير الخيال، وأزعم أن ذلك كلَّه كان وراء ما يمكن أن أسمّيه بذوقي الأدبي، وهو ما يحتاج مني إلى شيءٍ من التفصيل.

كيف يتكون الذوق الأدبي

ثمة مقولةٌ ذائعة، لا أعرف على وجه التحديد من صاحبها، مؤدَّاها: "عن الذوق لا يوجَد شيءٌ مكتوب". وهي تعني أن الذوق ذاتيٌّ وليس موضوعيًّا، وتأثريٌّ وليس منهجيًّا، لا تحكمه قاعدةٌ ولا يجري عبر ضفاف. يراه بعضهم لونًا من ألوان البدهة، ونوعًا من الهبات اللدنِّية يمنحها الله من يشاء من عباده، بل إنهم يرفعونه إلى مرتبة القوة الغامضة القدسية.

وصعوبة أمرِ الذوق الأدبي أننا قد نستطيع تفيرَه وتعليله، ولكننا ما زلنا عاجزين عن إخضاعه للقواعد الحاسمة والقوانين الصارمة، وقد حمل ذلك بعض الناسِ على إنكار الذوق الأدبي عى الإطلاق. ويحدث كثيرًا أن يكون هناك عملٌ أدبيٌّ ممتاز، يبدعه أديبٌ فَذّ، لكنه لا يصادف من عامة القراء إلا إعراضًا عنه ونفورًا منه، فإذا ما سألت واحدًا منهم عن سبب إعراضه وقلة نفوره، أجابك بأن ذوقه لا يسيغه ولا يتقبله، هكذا بلا تبريرٍ ولا تفسير.

ويرى الأستاذ "علي أدهم" أن الذوق الأدبيَّ مكوَّنٌ من عنصرين: حساسية طبيعية متفوقة وشعور بالأحوال الجمالية للأشياء، ثم معرفة صحيحة بالأعمال الفنية وملابساتها، تمكِّن من الموازنة بينها والمفاضلة بين مزاياها ومحاسنها. وهذا كلام قريبٌ جدًّا مما ذهب إليه "شوبنهاور" حين قال إن الذوق الأدبي أو الفني حاسةٌ تكِّننا من التوصّل إلى ما هو صوابٌ من الناحية الجمالية، أو مجرد التعرّف عليه، دون ما اعتبار لأية قاعدة. وهو بهذا يكون أعَمَّ من النقد الذي يأتي بعده ليعلله ويبرر أحكامه؛ وقد يَستغني الذوقُ عن النقد، ولكن النقد لا يمكنه أبدًا أن يستغني عن الذوق.

الذَّوقُ الأدبيُّ جَمُّ التكاليف

 وتكوين الذوق ليس من المسائل الهيّنة، لأنه يحتاج إلى عاملَين وهما بذل الجهد والمثابرة والمصابرة، وفي الوقت نفسِه الاطمئنان إلى هذا الجهد المبذول واستساغة هذه المصابرة المتطاولة، وشعور بالارتياح في القيام بأعبائها والوفاء بأغراضها. وليس الذوق الأدبيُّ هبةً تتنزَّلُ على المرء من السماء، ولا مجرد ملَكةٍ من الملَكات تنمو وتعظُمُ وتؤتي ثمارَها بغير تعهُّد ولا رعاية. ومِلاكُ الأمرِ قوة العزم وشدة التوفُّرِ على الدرس.

ويرى الأستاذ "أحمد أمين" في مقالٍ له عن "الذوق الأدبي" (مجلة الثقافة، 7أغسطس 1945) أن عماد الذوق الفني إدراكُ الجمال في كل صورة، من جمال منظرٍ، وجمال وجمال أزهارٍ، وجمال طبيعة، وجمال نظافة، وجمال نظام، فإذا شاع هذا الإدراكُ ورُبِّيَ في البيت والمدرسة والمجتمعات، أمكننا بخطوةٍ يسيرةٍ أن ندرك بذوقنا جمال المعاني، فلا نضحك إلا من النادرة المؤدَّبة، وننفر من السياسي المهرِّج، ومن الصحف السبَّابة، ومن كل شيءٍ قبيحٍ مادةً أو معنى. وإذا رُقِّيَ ذوقُ الجمهور رُقِّيَت السياسةُ ورُقِّيَ الأدبُ والفن.

ومن رأي الأستاذ "أحمد أمين" أيضًا أن لكلِّ عصرٍ ذوقَه، وهذا الذوق يتحكم في أدب الأدباء من شعراء وكُتّاب إلى حدٍّ بعيد، فذوق العرب في الجاهلية غير ذوقهم في العصر الأموي والعباسي، وغير ذوقهم اليوم، ولذلك كان أدبهم مختلفًا؛ جاء عصرٌ كان الذوق العامُّ لا يستنكر التعبير عن العلاقات الجنسية بأصرح لفظٍ حتى في مجالس الخاصة والخلفاء، وذوقنا اليوم يستهجن هذا كل الاستهجان، ويتطلب في التعبير عن هذا الإشارةَ البعيدةَ والإيماءةَ الخفيَّة.

إن ما نقرأ من الآثار الأدبية لكل عصرٍ هو ظلٌّ لذوق هذا العصر وأثرٌ من آثاره، ونتيجة لتقدير ذوقه للأشياء. حتى مظاهر الأسلوب من مَيلٍ إلى السّجع أو الترسُّل، والإفراط في أنواع البديع أو التخفف منها، والاستطراد وعدمه، كل هذا متأثِّرٌ ـ إلى حدٍّ كبير ـ بذوق العصر.

ويفصِّل الدكتور "عبد الحميد إبراهيم" هذا الرأي تفصيلًا وافيًا في دراسته الموجزة عن "مفهوم الذوق الأدبي بين القديم والجديد"، (مجلة إبداع، العدد الثاني، فبراير 1985) فيقول إن الأدب العربي المعاصر لم يكن امتدادًا للذوق القديم؛ فقد أطلق القدرُ سهمَه، وانتصرت الحضارة الأوروبية، وانتشر الاستعمار، وإذا بالعالم العربي يتّجه نحو تلك الحضارة، ويقلّدها في كل شيء، وحدثت قطيعة مع التراث القديم؛ فالقصة لم تكن امتدادًا للأشكال العربية أو الشعبية، بل كانت تقليدًا للأشكال الأوروبية، وتقليدًا أمينًا ومجتهدًا، فإذا ما ظهر الشكل التقليدي، أو الشعوري، أو العبثي، أو الوصفي، ظهر نظيره في الأدب العربي. والمسرح أيضًا تحمّس للقضايا الخارجية والأفكار العلمية الفلسفية حول الزمن والخلود والقلب والعقل، فلم يجعل توفيق الحكيم مثلًا ـ كما ذكر مالك بن نبي ـ عزَّ الدين بن عبد السلام يتحدث بلغة الشرع، بل جعله يتحدث بلغة القانون، كأي محامٍ صغيرٍ في باريس.

والشعرُ وهو يضرب بجذورٍ عميقةٍ في التراث العربي، قد انقطعت صلتُه مع تلك الجذور؛ وأصبح شباب الشعراء لا يقرأ امرَأَ القيس أو لبيدًا أو جميلًا أو البحتري أو المتنبي أو المعرِّي، ويفضِّل أن يقرأ إليوت وكيتس وأراجون وشيللي. ولم تعد موسيقاه امتدادًا للإيقاع العربي الواضح، الذي يخاطب الحواس ويرتفع بها، ويتّشح بجوٍّ من السَّكِينة تمنحه الرضا. وصوره ورموزه لم تكن عن الخَضر وأهل الكهف والبراق والمعراج، بل كانت عن سيزيف وبروميثيوس وكيوبيد ومارس. وإحساسه بالغربة لم يكن تعميقًا للغربة العربية الإسلامية، التي تقلل من الارتباط بالدنيا، وتجعل المرء غريبًا يحنُّ إلى دارٍ أبقى وأحسن، والتي هي غربة هادفة تؤدِّي إلى اليقين والسكينة؛ بل كانت امتدادًا للغربة الأوربية التي لا تعرف هدفَها، والتي هي نتيجة الإفراط في الواقع، وتجاهل المناطق العليا، وطرد الروح القدُس من الأقبية على حدِّ تعبير "سارتر" في كتابه "الكلمات". ومن ثمَّ فرض غربة تتّسم بالحيرة والضبابية، والتذمّر الذي يصل إلى حدِّ اليأس.

وقد أدَّى كل هذا إلى تشكّل الذوق المعاصر بطريقة خارجية. وهذا أمرٌ خطير، لأن استيراد الذوق لا يعني استيراد سيارة أو مصنع، بل يعني تشكيل التوجهات، وتضمر فيه ملَكة الإبداع والتعبير عن الذاتية بصورة تلقائية.

ذوقُنا في خطر  

إن ظروفًا تَجِدُّ، وحوادث تطرأ، تغيِّرُ أذواقَ الناس، وتبدِّلُ اهتماماتهم وأولوياتهم؛ وفي زمنٍ كالذي نحنُ فيه، شُغِل أكثرُ الناسِ بمُتَعِهم الحسيّة، وأخذتهم مطالبُ الحياة اليومية الرخيصة من أنفسِهم، وصار المأكلُ والملبس والمسكن أكبرَ همّهم ومبلغ علمهم؛ فلا قراءة ولا تأمّل، ولا رغبة في معرفة حكمة الخلق وأسرار الوجود. ومثل هؤلاء لا يطالعون غير ما هو سطحي وتافه، ولا يتابعون إلا ما هو سيئٌ ورديء. وإذا أضفنا إلى ذلك تلك السرعة المجنونة التي تجعل الناس يلهثون وراء لقمة العيش، لا يكاد الواحد منهم يجد وقتًا لينظر حولَه أو يتلفَّت وراءه، عرَفنا سببًا مهِمًّا من أسباب انصرافهم عن القراءة الجادَّة العميقة، وأدركْنا عاملًا من عوامل استخفافهم بالأعمال الأصيلة القيِّمة وسوء تقديرهم لها.

إن طموحات كثيرٍ من الناس وتطلعاتهم أصبحت ماديةً خالصة، فهم يبحثون عن الثراء الفاحش السريع، من أيّ طريقٍ يجيء، لا يعنيهم في زمن الهواتف الذكية شعرٌ ولا فكر، ولا يهمّهم في عصر الذكاء الاصطناعي فنٌّ ولا فلسفة، وهم يُنَشِّئون أبناءَهم على ما هم عليه، وبدهيٌّ والأمرُ كذلك أن يكونوا هم الآخرون على عجلةٍ من أمرِهم، يخطفون الأشياء خطفًا، دون نظرٍ أو تحليل، فلا يبقى في أعماقهم شيء، ولا تستقر في ضمائرِهم قيمة.

إن الذين يَجرُون، يلتقطون صُوَرَ الأشياء، ولكنهم لا يُدركون جوهرَها، وقديمًا قلوا: إن الحَجَر الدوَّارَ لا يَنبُت عليه العُشب!  

د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر)

علاقتنا باللغة العربية.. وكيف نتذوّقها ونشعر بجمالها؟

تنفرد اللغة العربية بمميزات لا تُوجد في غيرها من اللغات، فعلاوة على كونها لغة الضاد، فهي لغة اشتقاقية مما يكسبها ثراء لغويا كبيرا، كما أنها لغة موسيقية حتى قال عنها "العقاد" إنها لغة شاعرة وأطلق على كتابه في خصائص اللغة العربية "اللغة الشاعرة"، وقال إنها شاعرة لا لكثرة الشعراء فيها وهم كثر ولا لكثر الشعر وهو كثير، بل لبناء الكلمة والجملة والفقرة فيها بناء موسيقيا منسجما، كما هو الحال في الشعر الذي يقوم على الموسيقى وينظم على الأوزان والقوافي بصورة تسهل حفظه واستيعابه وتذوقه.

وهي لغة ذوقيّة - إن جاز التعبير - بقدر ما نمتلك القدرة على تذوّقها والإحساس بها، بقدر ما تفتح لنا عوالم جمالها وسحرها، فتمنحنا أسرارها وتفيض علينا ببلاغتها الآسرة، كما فعلت بأربابها من الشعراء والخطباء والحكماء في العصر الجاهلي، حتى لقد عقدوا لها أسواقا بجانب أسواق التجارة كعكاظ ومجنة وذي المجاز، وتبارى الشعراء والخطباء فيما بينهم وكان النابغة الذبياني يحكم بين الشعراء، كما حكمت أم جندب يبن زوجها امرئ القيس وعلقمة بن عبدة الفحل، وقد حكمت لعلقمة بالتفوق في وصف الفرس على زوجها فاتهمها بالتحيز لخصمه وقال لها: "إنك له وامق" أي عاشقة، وطلقها فخلفه عليها علقمة فلقب بالفحل.

واستمرت المباريات الشعرية والمعارضات في عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، بين شعراء الرسول الكريم وهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة من جهة، وشعراء المشركين كعبد الله بن الزبعري وكعب بن زهير قبل إسلامه وتوبته ومدحه للرسول صلى الله عليه وسلم بقصيدته المشهورة ذات المطلع الغزلي "بانت سعاد" ومطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول -- متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلت -- إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة -- لا يُشتكى قصر منها ولا طول

فخلع الرسول صلى الله عليه وسلم بردته، مع ما بدأت به القصيدة من غزل كان من تقاليد القصيدة العربية في العصر الجاهلي.

وكذلك كان للنبي خطباء يخطبون بين يديه حين تفد عليه وفود القبائل التي كانت تصطحب خطباءها وشعراءها، واستمر الحال على ذلك في العصر الأموي حيث ازدهرت الخطابة بأنواعها المختلفة، وتراجعت في العصر العباسي لصالح الكتابة التي ازدهرت ازدهارا كبيرا، فكان عندنا عبد الحميد الكاتب وعمرو بن بحر الجاحظ وعبد الله بن المقفع وغيرهم.

وقد كان للقرآن أثره الكبير في اللغة العربية ممّا كَتب فيه الباحثون رسائل علمية، ومن أشهر الكتب ما خطّه يراع الشيخ الشاعر والأديب "أحمد حسن الباقوري" في كتابه: "أثر القرآن الكريم في اللغة العربية"، وما كتبه علماء اللغة العربية مثل أستاذنا المرحوم "عبد الصبور شاهين"، وأستاذنا المرحوم "رمضان عبد التواب" الذي خصص في كتابه القيّم "فصول في فقه العربية"، الذي درّسنا في الفرقة الثالثة بقسم اللغة العربية جامعة عين شمس في مطلع ثمانينات القرن العشرين، خصص فصلا بعنوان "لولا القرآن ما كانت عربية".

ويُفترض أن يكون الأديب والكاتب والشاعر أقدر الناس على تذوّق اللغة والإحساس بجمالها إلى الدرجة التي تُبكيه أو تسعده أو تجعل جلده يقشعرّ.. وما إلى ذلك من مظاهر الانفعال والتفاعل باللغة العربية، وهذا ما يحدث لي شخصيا حين أقرأ نثرا فنيا لكبار كُتّابنا كالمنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات وغيرهم من أساطين الكتابة النثرية في العصر الحديث، فضلا عن أمثال عبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع والجاحظ من كتاب العصر العباسي.

أما الشعراء، فحدّث ولا حرج عن تأثّري بقراءة شعرهم واستمتاعي بتذوّقه بدءا من شعر الصعاليك في العصر الجاهلي، وبخاصة لامية العرب للشنفرى الأزدي، وشعر عنترة العبسي، مرورا بالشعر في عصر صدر الإسلام وبني أمية، ويلقانا شعر العصر العباسي بما فيه من تجديد وإجادة، أما الشعر الأندلسي فحدّث عنه ولا حرج بكل فنونه وأغراضه، وقصائده ومُوَشّحاته، والشعر في الشام ومصر وما فيه من رقة وعذوبه.

وترجع علاقتي باللغة العربية لستّين عاما خلت حين التحقت بالكُتّاب لحفظ القرآن الكريم في سن الطفولة المبكرة، ويرحم الله شيخي الشيخ "عبد الرحمن عبيد"، الذي علّمنا قراءة القرآن والخط، وكذلك المرحوم الشيخ "عبد الحميد دحروج"، الذي كان مقيما للشعائر ومتعلما وكان صديقا لوالدي يرحمه الله، فقد كان للقرآن الكريم أثر أيّ أثرٍ في تقويم لساني وحسن خطي، وإجادتي للقراءة في الكتب والصحف على صغر سني، وكذلك تذوّق اللغة والأساليب القرآنية البليغة، التي كنت أستعين بها في كتابة موضوعات التعبير، وفي الإذاعة المدرسية، وصحف الحائط بالفصل والمدرسة، فضلا عما كنا ندرسه من نصوص أدبية متنوعة في كتب القراءة والنصوص والتربية الإسلامية، طوال المراحل الدراسية من الابتدائية حتى الثانوية العامة، وما كنا نطالعه من قصص الأطفال في مكتبة الفصل ومن كتب في مكتبة المدرسة.

فلما التحقت بالجامعة، غلب عليّ حبي للغة العربية فتركت كلية العلوم الزراعية، والتحقت بكلية التربية قسم اللغة العربية في الدفعة الأولى عام 1977م/ 1978م، وتخرجت عام 1981م، وكان من حسن حظي أن درّس لي مجموعة من الأساتذة الفضلاء عليهم رحمة الله، استقدمهم لنا المشرف على القسم الدكتور "فتحي أبو عيسى"، وكان أزهريا يعشق اللغة العربية وكان ينطقها ـ حسب ظني ـ كما كان ينطقها العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكنت أجلس أمامه في الصف الأول دائما منبهرا بعذوبة منطقه وبلاغة حديثه وحسن بيانه، وكنت أراقب فمه وهو ينطق الكلمات نطقا سليما، وقد درس لنا الأدب العربي في سنوات الدراسة الأربع، وكذلك النقد الأدبي القديم والحديث، ومناهج البحث الأدبي، فصنعنا على يده واستخلصنا للغة العربية جنودا مخلصين نسير على نهجه ونسلك مسلكه، وسعدنا بأن درّس لنا الأستاذ الدكتور "محمد أبو موسى" أستاذ البلاغة بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ودرّس لنا فقه اللغة المرحوم الدكتور "محمد حسن جبل" الرجل الصالح المخلص الباحث في لغة القرآن الكريم وقد صار عميدا لكلية اللغة العربية بالمنصورة، كما درّس لنا الفلسفة الإسلامية الدكتور "عبد الله الشاذلي" وقد صار عميدا لكلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية، أما الدراسات الإسلامية فقد درّسها لنا المرحوم الدكتور "محمد بلتاجي حسن" عميد كلية دار العلوم جامعة القاهرة ـ فيما بعد ـ  ودرّس لنا المرحوم أ. د. عبد الرحمن هيبة، والمرحوم الشيخ عبد العزيز شلبي والمرحوم الشيخ أحمد منصور.. جزاهم الله عنا خيرا، وكنا نكلف بالبحوث الأدبية والبلاغية فنطالع الكتب سواء في مكتبة الكلية أو في مكتبة قصر الثقافة بشبين الكوم أو مكتبة مديرية التربية والتعليم أو المكتبة العامة (مكتبة الأمير فاروق)، وكنا نمتحن امتحانا جادا في مادة البحث، وأذكر أنني قمت بعمل بحثين أحدهما عن الخطابة في عصر صدر الإسلام وبني أمية: ما لها وما عليها، والآخر عن أديب مصري ومؤلف من العصر المملوكي وكان عنوانه: شمس الدين النواجي أديبا، وقد ضمنتهما كتبا لي بعد ذلك.

وقد كتبت القصة القصيرة في هذه الفترة إلى جانب الشعر، وفازت قصتي "رحلة إلى الله" بالمركز الأول على مستوى كلية التربية وما زلت أتذكر تعليق أستاذي عليها فيما يشبه فن التوقيعات حيث قال: "تستحق قصة (رحلة إلى الله) المركز الأول لجودة الفكرة واصطفاء العبارة، ووضوح الرؤية وتلاحم البناء القصصي"، ولكني لم أجد نفسي في القصة ونمّيت موهبتي في الشعر، بكثرة القراءة وعرض الشعر على أساتذتي لتقييمه وتقويمه، ومنهم الدكتور "فتحي أبو عيسى" وقد كان شاعرا ولكنه لم ينشر شعره، والدكتور "محمود فتحي لاشين" يرحمهما الله.

ثم انتقلنا لنكمل دراستنا في كلية الآداب جامعة عين شمس فرزقنا الله بأساطين اللغة العربية والأدب العربي مثل المرحوم الدكتور مهدي علام نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والمرحوم الدكتور رمضان عبد التواب عميد الكلية وعضو مجمع اللغة العربية بالعراق، والمرحوم الشاعر والناقد الكبير الدكتور عز الدين إسماعيل، والمرحوم الدكتور عفت الشرقاوي، والمرحوم الدكتور إبراهيم عبد الرحمن، والدكتور إبراهيم عوض بارك الله في عمره وعلمه، ونفع به اللغة العربية وآدابها، والثقافة العربية والإسلامية، فهو من أبرز المنافحين عنها، كما أشرف على رسالتي في الماجستير أساتذة فضلاء ونقاد كبار هم المرحوم الدكتور "علي الحديدي" عضو مجمع اللغة العربية والدكتور "يوسف نوفل" الشاعر والناقد الكبير والدكتور "حسن البنداري" الروائي البلاغي والناقد الكبير، بارك الله فيهما، وناقشني فيها أستاذان جليلان هما المرحومان الدكتور "حسين عبد اللطيف" والدكتور "أحمد سيد محمد" عمل بالجزائر وتزوج من سيدة جزائرية.

أما الدكتوراه فأشرف عليها المرحوم الدكتور "محمد زكريا عناني" الشاعر والناقد الكبير، والمرحوم الدكتور "عصام بهي" الناقد الكبير، وناقشني فيها المرحوم العلامة "الطاهر مكي" عضو مجمع اللغة العربية والمرحوم الدكتور "منير سلطان" البلاغي المجدد ورئيس قسم اللغة العربية بكلية البنات جامعة عين شمس، حيث حصلت على الرسالتين من هذه الكلية العريقة.

ولي ملاحظة هنا وهي أن أربعة ممّن درّسوا لي كانوا أعضاء بمجمع اللغة العربية ولا شك أن هذا مما جعلني أهيم عشقا بهذه اللغة المباركة، لغة القرآن الكريم، لما كانوا يتمتعون به من إجادة للغة العربية وبلاغة في الكتابة والحديث وخبرة في توصيل ما لديهم من علم بطريقة محببة لطلابهم، وكنت أجلس أمامهم مستمعا ومستمتعا، كما كنت أحرص على حضور مناقشاتهم للرسائل العلمية في الكلية وفي الكليات الأخرى.

وملاحظة أخرى أحبّ أن يعرفها القارئ وهي أننا كنا ندرس سنة دراسية كاملة من ثمانية أشهر نلتقي فيها بأساتذتنا كل أسبوع وندرس كتبا تراثية وحديثة دراسة جادة تطلعنا على أسرار اللغة العربية وبلاغتها، وتجعلنا نتذوّق جمالياتها ونقدّر أدبها وأدباءها، على عكس ما يحدث اليوم فلم يعد الأستاذ هو أستاذ الأمس ولا الطالب كنظيره بالأمس، ولا المناهج الدراسية التي صارت تكتفي بالقشور ورؤوس الموضوعات، والمذكرات والملخصات، كما أن المناخ الدراسي والاجتماعي والثقافي قد تغير إلى الأسوأ، وإلى الله المشتكى، حتى صار الجادون من الأساتذة قلة قليلة والمخلصون ندرة، وكذلك الطلاب.

هكذا نشأت العلاقة الحميمة باللغة العربية منذ الطفولة وإلى الآن، في ظلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والأدب العربي في عصوره المختلفة شعرا ونثرا، ومن هنا كان التفوق في اللغة والتذوق للأدب على أسس سليمة، ومن هنا جاء الإبداع الشعري الذي هو هبة من الله تصقلها الدراسة وتنميها كثرة القراءة ومداومة الاطلاع وإدمان النظر في النصوص الأدبية للوقوف على مكامن القوة وعلامات الإبداع واستكشاف مواطن الضعف وأمارت الإخفاق في هذه النصوص.

وأرى أنه لا يستطيع أن يبدع مَن لا يتذوّق اللغة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولابد للكأس من الامتلاء حتى تفيض، وقديما قالوا: احفظ تقل إن الكلام من الكلام، كما قالوا: لولا أن الكلام يعاد لنفد، وقديما قال الشاعر:

ما أرانا نقول إلا معارا -- أو معادا من قولنا مكرورا

وهكذا تعلّمنا تذوّق اللغة العربية بالمران والدربة على مدى عقود وما زلنا نتعلم حتى اليوم وسنظل نتعلم حتى نلقى الله تعالى خدّاما للغة القرآن الكريم، كما قال الإمام أحمد، مع المحبرة إلى المقبرة، مستلهما الأثر الشريف: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، واطلبوا العلم ولو في الصين.

هكذا كان نشوء حب اللغة معنا وتلك كانت كيفية تمتين أواصر هذه اللغة في أرواحنا ومشاعرنا...

ونحن نعتقد بأن أزمة المقروئية في العالم العربي تعود في بعض أسبابها إلى افتقاد فئات كثيرة إلى أدوات تذوّق اللغة والإحساس بجمالها، مع كل ما تعنيه أزمة المقروئية من تأثير على الفكر والوعي، وتأثيرها على تذوق الشعر وبعض الأجناس الأدبية الأخرى، ذلك أن اللغة وعاء الفكر، ومن لا يحسن تذوق اللغة لن يحسن الفهم وسيفتقر لأهم عناصر الفكر.

ومما ساعدنا على تنمية الذوق الأدبي ما كنا نسمعه في الإذاعة من برامج هادفة باللغة العربية الفصحى مثل: "قال الفيلسوف"، و"قطوف الأدب من كلام العرب" و"شاهد على العصر" و"زيارة لمكتبة فلان"، و"قل ولا تقل" للتصويب اللغوي، وحتى التعليق على مباريات كرة القدم كان يقدمه الأستاذ "فهمي عمر" بلغة أدبية جميلة وراقية وربما تأثر به المعلق الرياضي الدكتور "علاء صادق"، فكانت لغته سليمة وتشبيهاته موفقة.

بالإضافة إلى ما تبثه إذاعة القرآن الكريم من برامج باللغة العربية لكبار الشيوخ والعلماء، أما التلفاز فكنا نشاهد برامج "العلم والإيمان"، و"عالم الحيوان" و"عالم البحار" و"جولة الكاميرا"، والمسلسلات الإسلامية، وحديث الشيخ "محمد متولي الشعراوي" الذي كان يبسّط التفسير تبسيطا يفهمه المتعلمون والعوام مستفيدا بقدرته اللغوية ومستعينا بالبلاغة العربية فقد كان متخرجا من كلية اللغة العربية جامعة الأزهر، وقد كان رئيس بعثة الأزهر في الجزائر عام 1967م، ودرس بعد ذلك في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ثم صار وزيرا للأوقاف، ولم يطل مكثه بالوزارة وتفرغ لتفسير القرآن الكريم والبرامج الدعوية في الإذاعة والتلفاز حتى لقي الله.

يرحم الله شيخنا الإمام "محمد متولي الشعراوي"، وقد تشرفت بلقائه والجلوس معه مرتين وقلت فيه أبياتا ألقيتها بين يديه في لقائنا الأول في سيناء الحبيبة، عند افتتاحه مسجدا بقرية سما العريش بشمال سيناء، وكان اللقاء الثاني في العام التالي مباشرة في مسجد بقرية هورين مركز بركة السبع، وقد سلمته القصيدة مكتوبة بخط جيد وفي إطار جميل، وعنوانها "إمام دعاتنا"، وقد كتبتها صباح يوم الجمعة 18 من ربيع الأول 1417هـ، الموافق أغسطس/ أوت 1996م، قلت فيها:

إمام دعاتنا إني مشوق -- لرؤيتك الكريمة من زمان

لأنهل منك يا مولاي علما -- وأنعم في جوارك بالأمان

مولاي، دين محمد جددته -- وأبنته بالعقل والبرهـان

وغزوت بالإيمان ساحة أمة -- فخرجت منصورا من الميدان

وسلاحك الميمون سنة أحمد -- أنعم بها وكذاك بالقـرآن

صارت خواطرك الذكية حوله -- نورا يشع على مدى الأزمان

يسرته للطالبين لهديــه -- بلاغة غلبت على سحبان

ودمغت أهل الزيغ منك بحجة -- حين انبروا بالزور والبهتان

أبقاك ربك يا إمام لديننا -- درعا حصينا عبقري الشان

لي دعوة بشراي إن أظفر بها -- يوم اللقاء بساحة الرحمن

إن أحظ منكم يا إمام بعطفة -- هتف اللسان بحجتي وبياني

ناشدتك الله العظيم شفاعة -- ومودة في جنة الرضوان

وقد كتبت من قبل عن اللغة العربية وأهميتها وكونها هوية الأمة وعن وسائل النهوض بها في ضوء مشروع قانون حماية اللغة العربية الذي أعده مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ أكثر من خمس سنوات وضل طريقه في مجلس النواب فلم يصدر حتى كتابة هذه السطور فقلت:

"الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه الكتاب ولم يجعل له عوجًا، أنزله بلسان عربي مبين، وتكفل بحفظه إلى يوم الدين، فقال عزَّ من قائل: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، والصلاة والسلام على أفصح العرب أجمعين، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وأرسله رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا.

أما بعـد:

فمما لاشك فيه أنَّ اللغة - أية لغة - عنصر مهمٌ من عناصر هوية الأمة - أية أمة - ولهذا نجد الأمم تهتم بلغاتها وتسعى للارتقاء بها وتعمل على نشرها بكافة السبل والوسائل، وتبذل في سبيل ذلك كل ما تستطيع من جهد علمي ومادي ومعنوي، فتنشئ المعاهد والأقسام اللغوية والكراسي العلمية للغاتها في أنحاء العالم وتشجع الدارسين لها بالمنح الدراسية، لأن اللغة هي وعاء الفكر وحاملة العلم وناقلة الحضارة، ومن هنا كان اهتمامنا باللغة العربية، هذه اللغة الشاعرة كما سمّاها العقاد، والتي مُنيت بأرزاء كثيرة من جهل أبنائها من جهة، وكيد أعدائها وحقدهم عليها من جهة أخرى، لعلمهم أنها اللغة الخالدة لارتباطها بالقرآن الكريم، فهي أطول اللغات الحيّة عمرًا، فنحن نقرأ الشعر الجاهلي الذي مضى على إنشائه ستة عشر قرنًا أو يزيد فنفهمه ونستوعبه، كما نقرأ القرآن الكريم والشعر والنثر العربي على مرّ العصور، بينما نجد لغات أخرى ماتت أو حنطت ودخلت إلى متحف التاريخ، والأمثلة على ذلك واضحة لكل ذي بصر وبصيرة.

ومع أهمية اللغة العربية في الحفاظ على هوية الأمة العربية في عصر العولمة الثقافية، وضرورة حمايتها والاهتمام بها وتقويتها على ألسنة أبنائها ـ وهي جديرة بهذا الاهتمام ـ فإن واقع اللغة العربية في حياتنا يوحي بانعدام هذا الاهتمام، مما يسهم في الضعف اللغوي الذي نعاني منه، حتى كادت اللغة العربية أن تكون غريبة علينا، وصار الجهلاء يتندّرون على مَن يلتزم الحديث باللغة العربية الفصحى، ويرجع ذلك إلى عوامل كثيرة، تناولها علماء اللغة في كتبهم، ولعل أبرزهم المرحوم د. إبراهيم أنيس، والمرحوم د. رمضان عبد التواب، والمرحوم د. عبد الصبور شاهين، والمرحوم د. تمام حسان، والمرحوم د. كمال بشر والأستاذ الدكتور إبراهيم عوض وغيرهم، الذين تناولوا أسباب الضعف اللغوي ممثلة في الاستعمار الذي أراد السيطرة على الوطن العربي والإسلامي، فعمل على صرف العرب عن لغتهم التي هي أحد أهم أسرار قوتهم وتماسكهم، وشجّع على استخدام اللغة العامية وبخاصة في مصر ولبنان، ومن أبرز الكتب التي تناولت الدعوة إلى العامية كتاب (تاريخ الدعوة إلى العامية، وآثارها في مصر) للدكتورة نفوسة زكريا عام 1964، وقد عني بالجانب التاريخي للقضية وعالجها معالجة تفصيلية، وكتاب (أباطيل وأسمار للعالم المحقق) الأستاذ محمود محمد شاكر، وقد نشر منجمًا في مجلة الرسالة عامي 1964 - 1965م، وطبع بعد ذلك، وقد توخّى الكاتب أن يدفع عن الإسلام والعربية غائلة بعض عملاء المبشّرين من أمثال سلامة موسى ولويس عوض ومدرستهما، ومن خلاله نتبيّن البعد السياسي والعقدي لهذا الصراع بين دعاة العامية ودعاة الفصحى، وكتاب (الزحف على لغة القرآن) لأحمد عبد الغفور عطار، عام 1965م، وقد أحسن مؤلفه عرض القضية واستقصى جوانبها في مصر ولبنان، وفي سائر البلدان العربية، وتتبع سعي بعض أعداء الفصحى في سيرهم وفي نشاطاتهم".

ونتفق مع د. سليمان الشطي في أن اللغة العربية تستحق منا الكثير، ونحن نعطيها القليل، بل نتهاون حتى في هذا القليل الذي لا يكاد يُذكر، إذا نظرنا إلى الواجب المطلوب، وإذا قارنّاه باهتمام الأمم بلغاتها.

ولما كانت اللغة تحتاج إلى من يراعاها ويخطط لها ويحميها، فلا بد من تضافر جهود العرب جميعًا مؤسسات وحكومات وأفرادًا للنهوض باللغة العربية من كبوتها، حتى تكون سبيلاً لنهضة الأمة وارتقائها، فالأمران متلازمان، وصدق حافظ إبراهيم: "وكم عزّ أقوام بعز لغات".

ولا ينبغي أن يقتصر اهتمامنا باللغة العربية الفصحى على اليوم العالمي لها في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، فنقيم الاحتفالات في المدارس والجامعات واتحادات الكُتّاب، ثم ننفض أيدينا من الفصحى لنتكلم العامية في بيوتنا وأسواقنا ومدارسنا وجامعاتنا ودواوين الحكومة ومؤسسات الدولة وهيئاتها المختلفة.

ومن هنا قام مجمع اللغة العربية بالقاهرة، بوصفه أقدم المجامع اللغوية العربية، بإعداد مشروع قانون حماية اللغة العربية، وقد قام بإنجاز المشروع لجنة مكتب المجمع برئاسة د. حسن الشافعي، وتمت مناقشة المشروع بقطاع التشريع بوزارة العدل تمهيدًا لمناقشته بمجلس الوزراء، ثم اعتماده من مجلس النواب ليكون تشريعًا واجب التنفيذ، وذلك انطلاقًا من مسؤولية مجمع اللغة العربية وحرصه الشديد على لغتنا الأمّ (العربية الفصحى) واستجابة للحاجة اللغوية والثقافية والمجتمعية الملحة، تجاه ما أصاب اللغة العربية من تدهور على ألسنة أبنائها، وما نراه من ظواهر لغوية جديدة ومصطلحات غير معهودة، وقد سبق هذا المشروع قوانين مصرية أولها عام 1942م وثانيها عام 1958م وثالثها عام 1959م والرابع عام 1976م، وكلها قوانين ملزمة بوجوب استعمال اللغة العربية، وقد اطلعت اللجنة على قوانين الدول العربية وأبرزها قانون حماية اللغة العربية في الأردن عام 2015م.

تعقيب ومقترحات

ـ كنت أتمنى أن يتضمن القانون إشراف مجمع اللغة العربية على وضع المناهج التعليمية ومراجعتها من الناحية اللغوية في المراحل التعليمية كلها، وخصوصا منهج اللغة العربية، بحيث يكون المنهج مرغِّبًا في تعلّم اللغة العربية الفصحى، ومشجِّعا على ممارسة اللغة والحديث بها في الروضة والمدارس حتى الجامعة، وعمل مسابقات، ومكافأة المجيدين في اللغة العربية كتابة وحديثا شفويا لتشجيعهم، لأن في ذلك حفاظا على الهويّة العربية للمجتمعات العربية.

ـ وكذلك محاصرة العامية في المؤسسات التعليمية من الروضة حتى الجامعة، وتجريم المعلمين وأساتذة الجامعات الذين يستخدمون اللهجة العامية في تدريسهم للطلاب، لأن العاميات العربية ـ للأسف أصبحت هي وسائل التدريس في كافة الجامعات العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه. وكان من نتائج ذلك انتشار المتعلمين الذين لا يقدرون على قراءة نص عربي فصيح بدون أخطاء لغوية ونحوية وصرفية لا تكاد تحصى.

ـ ضرورة الاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم من الروضة مرورًا بمراحل التعليم المختلفة لأنه من أهم الوسائل في إتقان اللغة العربية واستقامة اللسان بها منذ الطفولة.

ـ ضرورة الاهتمام بانتقاء مُعلّم اللغة العربية، والاهتمام بإعداده إعدادا لغويا راقيا، من حيث المناهج الدراسية، والتدريبات العملية، والممارسة اللغوية طيلة فترة الدراسة بالجامعة مع أساتذة الكليات المعنية بتخرج طلاب اللغة العربية وأقسام اللغة العربية في الكليات.

ـ الاهتمام في مناهج التعليم المختلفة باختيار النصوص الجيدة من التراث العربي وضرورة تقديمها للطلاب مضبوطة ضبطا كاملا نحويا وصرفيا لاستقامة اللسان منذ الصغر، وتعوّده على سلامة النطق باللغة العربية.

ـ ضرورة قيام مجمع اللغة العربية بواجبه في سرعة التعريب وملاحقة مستجدّات الحضارة، ومخترعات العلوم وطرحها مع أسمائها المشتقّة من اللغة العربية، أو المُعرّبة لضمان سيرورة الاسم مع المُسمّى، بدلا من الانتظار حتى يشيع الاسم الأجنبي، ثم يوضع له اسم عربي فيولد هذا الاسم العربي ميتا لا يستخدمه إلا القلة من الغيورين على اللغة العربية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.

ـ تشجيع البحوث العلمية والاختراعات حتى نسهم في صُنع الحضارة وبالتالي في ارتقاء اللغة العربية كما نهض بها أسلافنا حين استوعبت العلوم والفنون والآداب إبان ازدهار الحضارة العربية والإسلامية، وكما استوعبت من قبل حركة الترجمة في عصر الدولة العباسية التي نقلت علوم الأمم القديمة إلى اللغة العربية ولم تضق عنها.

ـ تشجيع الترجمة من لغات العالم المختلفة وذلك لمواكبة التقدّم العلمي والتواصل الحضاري مع الأمم الأخرى، ولغتنا العربية قادرة على استيعاب هذه العلوم وهضمها إذا وجدت همما عالية من أبنائها الغيورين عليها.

ـ أوصي بمحو الأمية بين أبناء الشعوب العربية، وبخاصة في مصر، فمن العار علينا أن تكون نسبة الأمية على هذا النحو المخيف، ونحن أمة "اقرأ".

هذه بعض الملاحظات على قانون حماية اللغة العربية الذي أعدّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة مشكورا، ونأمل أن يجد طريقه للتطبيق الجاد، وأن نجتمع في العام القادم ولغتنا العربية أحسن حالا ومآلا بفضل جهودكم وجهود المخلصين من أبنائها الغيورين عليها.

ويطيب لي أن أختم هذه الكلمة بما سطّره أحد المهتمين باللغة العربية وواضعي مناهجها على مستوى العالم العربي وهو أخي الأكبر وأستاذي وصديقي الأستاذ الدكتور "عبد العزيز نبوي"، أستاذ الأدب العربي المتفرغ بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية التربية جامعة عين شمس، عن أسباب كراهية الطالب العربي للغته القومية حيث قال منذ ثلاثة أعوام على صفحته بالشبكة العنكبوتية، يوم 3 من نوفمبر عام 2015م:

من أسباب كراهية الطلاب لغتهم القومية، ثلاثة أمور:

أولها: الاهتمام في الكتب المدرسية بما يعسر تحصيله أو فهمه، وفي الوقت نفسه يسهل نسيانه بعد اﻻمتحان.

وثانيها: اﻷخذ بطريقة قطر في تأليف الكتب المدرسية (وقد اشتركت في تأليف خمسة كتب للغة العربية للمرحلة الثانوية)، ومجمل هذه الطريقة ـ كما طلبوا ـ أﻻ يشرح المؤلفون شيئا.. بل يقدّم النص وتليه اﻷسئلة مباشرة؛ ليبحث الطالب بنفسه عن الإجابة عليها في المصادر المختلفة وفي الإنترنت، والدليل على هذا الإعجاب ما نجده مثلا في كتاب اللغة العربية للصف الأول الثانوي الذي جاء في أوله نص من أصعب نصوص الشعر الجاهلي وهو للمثقب العبدي، ومن أبياته السبعة قوله:

فسل الهم عنك بذات لوث -- عذافرة كمطرقة القيون

تقول إذا درأت لها وضيني -- أهذا دينك اليوم وديني

إذا ما قمت أرحلها بليل -- تأوه آهة الرجل الحزين

ثم يأتي بعده مباشرة هذا النشاط: بالرجوع إلى معجمك، فسِّر معاني الكلمات التي تحتها خط (قلت: ﻻ يقال فسِّر معاني الكلمات، وإنما يقال: فسِّر الكلمات أو وضِّح معاني الكلمات.. يقال تفسير القرآن أي توضيح معانيه).. والكلمات التي تحتها خط هي: لوث ـ عذافرة ـ القيون ـ درأت ـ وضيني ـ الرصين ـ فاطرحني ـ غثي.. ولست أدري من الجهبذ الذي اختار هذا النص؟

إن في الشعر الجاهلي كثير من النصوص أيسر وأمتع.. ويقولون لك إننا ندرب التلاميذ على البحث عن المعلومة بنفسه.. وهنا ﻻ ترهق نفسك في السؤال عن الوقت الذي سيجده التلميذ ولا عن التلميذ هل هيئ لذلك؟... لأن الكتاب الخارجي سيقدّم له كل ما يطلبه منه الكتاب المدرسي على سقمه.. وبمناسبة الكتاب الخارجي فقد سبق أن أصدر الدكتور "فتحي سرور" - حين كان وزيرا للتعليم - قرارا بإلغاء الكتب الخارجية، ثم لعبت الملايين بألباب الرجال فاضطر إلى إلغاء القرار.. كنا نتحدث عن غثاثة الكتاب المدرسي في محتواه وفي عرضه للدروس واختيارها.. وهنا يحضرني قول الدكتور "زكي مبارك" (توفي سنة 1952م): "إن تعقيد المناهج عندنا كان أثرا لمحاكاة التعليم الفرنسي ثم اعترف الفرنسيون أخيرا بخطئهم.. فمن الواجب أن نقلع نحن في مصر عن خطإ كنا فيه مُقلّدين.. لقد رأى الفرنسيون فداحة الخطب في إثقال مناهج التعليم، ورأوا كيف يفرض على الطلبة كل شيء، ولا يظفرون بشيء".

وثالثها: تصوّرَ كثيرٌ من واضعي اﻻمتحانات أن اﻻمتحان فخّ ينبغي أنْ ينصب للطالب.. وما هكذا يكون اﻻمتحان.. يجب أن يُسأل الطالب فيما سيبقى في ذهنه وما سيفيد منه في مستقبل حياته أيًّا كان تخصصه.. هنا نحبّب الطلاب في لغتهم القومية.

وهذه الخاطرة الصرخة مهداة لواضعي المناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية ومثيلاتها في الدول العربية، وكذلك لأساتذة اللغة العربية في الجامعات العربية، لكي ينهضوا بواجبهم في وضع المناهج التي تُحبِّب الناشئة في لغتنا العربية التي هي أساس هويّتنا ومصدر عزتنا وعماد نهضتنا، ويرحم الله شاعر النيل الذي دوّت صرخته على لسان اللغة العربية منذ أكثر من قرن من الزمان لتقرع أسماعنا وتحذّرنا من ضياع عزتنا بتضييع لغتنا الضاربة في عمق الزمن والمتصلة بالكتاب الكريم والمحفوظة بحفظ الله للقرآن الكريم، والتفريط في حقها لحساب لغات أخرى لم تتّصل برُواة:

رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي -- وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي

رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني -- عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي

وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي -- رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية -- وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ-- وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن -- فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني -- ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي

فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني -- أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي

أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً-- وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ

أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً -- فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ

أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ -- يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي

ولو تَزْجُرونَ الطَّيرَ يوماً عَلِمتُمُ -- بما تحتَه مِنْ عَثْرَة ٍ وشَتاتِ

سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً -- يَعِزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي

حَفِظْنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتُه -- لهُنّ بقلبٍ دائمِ الحَسَراتِ

وفاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ -- حَياءً بتلكَ الأَعْظُمِ النَّخِراتِ

أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً -- مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناة ِ

وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّة ً-- فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين نُعاتي

أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ -- إلى لغة ٍ لمْ تتّصلِ برواة ِ

سَرَتْ لُوثَة ُ الإفْرَنجِ فيها كمَا سَرَى -- لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ

فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعةً -- مشكَّلة َ الأَلوانِ مُختلفاتِ

إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ -- بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي

فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى -- وتُنبِتُ في تلك الرُّمُوسِ رُفاتي

وإمّا مَماتٌ لا قيامَة َ بَعدَهُ -- مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ بمماتِ

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".

ليا الترك (طالبة إعلام في جامعة بيروت العربية - فلسطينية/ لبنان)

أُصغي إلى قلبي... ينطق بالعربية!

منذ نعومة أظفاري، كانت اللغة العربية بالنسبة لي الوطن الأول الذي احتواني قبل أن أعرف شكل العالم وحدوده. كانت نافذتي الصغيرة إلى أفق واسع، وعين الروح التي أبصرت من خلالها جمال الأشياء الخفية.

كنت أنصت لصوت المعلّمة وهي تُلقي الشعر، فتتبدّل نبرتها، ويعلو صوت الحرف كأنه قلب آخر ينبض بداخلها. كنت أراها تتحوّل أمامي؛ تغدو قصيدةً تمشي، وعطرًا يتسلل بين الكلمات. في داخلي، كان هناك شعور مبهم، مزيج من الانبهار والخشوع، كلما تسلّلت الكلمات إلى قلبي. كانت اللغة تملك هذه القدرة الغريبة على أن تلمس أوتارًا دفينة لا أعلم اسمها، لكني كنت أشعر برنينها في روحي طويلًا بعد أن ينتهي الدرس.

كبرتُ، وكبر هذا الحب معي. أدركت أن العربية لم تكن مجرد دروس نحفظها أو قواعد نراجعها، بل كانت صوتًا داخليًا، صدى لحزنٍ دفين وفرحٍ خجول، وأملٍ يزهر رغم كل ما ينكسر من حولنا. كنت أرى الحروف رفقاء، كل كلمة كانت يدًا تُربّت على كتفي في عزلتي، وكل نصّ كان سفينة أنجو بها من ضجيج العالم. حين كتبت أول حرف بيدي، شعرت وكأنني أُعيد اختراع نفسي، وكأنني أخطّ ملامحي بأبجدية تخصّني. اليوم، حين أعود إلى طفولتي وأتذكّر تلك اللحظات الأولى، أدرك أن علاقتي بالعربية لم تكن مصادفة، بل كانت قدرًا ينسج تفاصيله بلطف خفي. كانت اللغة حبل النجاة الذي انتشلني من خوفي، والمصباح الذي أضاء لي الدرب حين أظلمت الطرقات.

اللغة كائنٌ حي

لم تكن العربية في طفولتي مجرد حروفٍ مرصوفة أو جملٍ محفوظة، بل كانت كائنًا حيًّا يتنفّس معنا، يعيش بيننا، يتخفّى في تفاصيل أيامنا وينبض في قلوبنا دون أن نشعر. كانت تسكن ملامح بيتنا بصمتٍ حنون: في دعوات أمي آخر الليل، في تلاوة أبي للقرآن بخشوعٍ يملأ الغرفة نورًا، في الأمثال الشعبية التي تتردد على لسان جدّتي كحِكَمٍ مصقولة بالزمن، في الأغاني القديمة التي كانت تنبعث من مذياع صغير يخبّئه الزمن تحت وسادته، وفي القصص التي كانت أمّي تهمس بها إلينا قبل النوم، كأنها تزرع الحلم في رؤوسنا بالكلمات.

كل هذا، دون أن أدري، شكّل في داخلي مخزونًا سمعيًّا عاطفيًّا، حفر في القلب قبل الذاكرة، وجعل من العربية امتدادًا حيًّا للروح، لا أداة جافة تُستخدم ثم تُنسى. كانت اللغة تمسك بيدي دون أن أطلبها، تربّت على كتفي حين أحتاج السلوى، وتهمس لي بأنني أنتمي إلى شيء أكبر من نفسي.

في سنواتي الأولى، لم أكن أفهم البلاغة أو النقد أو علم البيان، ولم أكن أعرف شيئًا عن أسرار الأساليب أو مذاهب التعبير، لكنني كنت أتذوّق اللغة كما يتذوّق الطفل قطعة سكر ذابت فجأة في فمه، تاركة أثرها العذب في قلبه.

أتذكر ذلك اليوم البعيد حين قال لنا المعلّم: "بكى البيتُ"، فرفعتُ يدي الصغيرة، وسألته بدهشة بريئة: "وهل تبكي البيوت؟"، ابتسم، وانحنى نحوي وكأنه يُلقي إليّ بسرٍّ من أسرار الكون، وقال: "حين يرحل عنها من يحبّها، تبكي". منذ تلك اللحظة، أدركت أن اللغة ليست مجرد ناقل للوقائع، بل هي حامل للمشاعر، ومفتاح لأبواب التأويل، وجسرٌ يوصلنا إلى عوالم لا تُرى بالعين ولا تُمسك باليد. تعلمت أن العربية لا تصف العالم فقط، بل تبنيه من جديد، تعطي الجمادات قلبًا، والصمت صوتًا، والحزن ملامح، والحب ألف لون وظلّ.

التذوّق شرطٌ للإبداع

لم أؤمن يومًا أنّ من لا يتذوّق اللغة قادرٌ أن يُبدع فيها. اللغة ليست آلة صمّاء تُدار بأزرار العقل وحده؛ بل آلة موسيقية سرّية، لا تبوح بألحانها إلا لمن أصغى إلى أنينها الخفيّ. من لا يسمع نغمتها الداخلية، لن يُخرج منها لحنًا نابضًا بالحياة. الكتابة ليست حرفة ميكانيكية، ولا الشعر عملية تركيبٍ باردة، بل هي انصهارٌ بين الكائن واللغة، تماهٍ كامل حتى يغدو الكاتب مرآة لحروفه، وتغدو الحروف نبضًا لجسده وروحه.

المبدع لا "يستخدم" اللغة كما يستخدم الحرفي أدواته؛ بل يسكن اللغة وتسكنه. يحيا بها وتحيا به. يكابد الكلمات، يحاورها، يعاتبها أحيانًا، ويرجوها أن تُنقذه من عجزه حين تضيق به العبارة. لهذا ترى الكاتب يعيد كتابة الجملة عشر مرّات، وربما مئة، بحثًا عن ذلك الوقع الداخلي، ذلك الطَّرق الخافت الذي لا يسمعه سواه، لكنه يعرفه متى طرق بابه. وترى الشاعر يحذف بيتًا عذبًا رقراقًا لا لأن الوزن اختلّ، ولا لأن القافية نشزت، بل فقط لأنه لم "يشعر" بالبيت، لم يهتز له شيءٌ في داخله، وكأن اللغة ترفض أن تُباع بجمال الظاهر وحده دون أن يكون لها جذرٌ في القلب.

تذوّق اللغة لا يُعلَّم بالطُّرق الجافة التي اعتدناها في مدارسنا، ولا يُكتسب عبر حشو الرأس بقواعد وشروحٍ دون روح. اللغة الحيّة تُعلَّم كما تُعلَّم الموسيقى: بالاستماع العميق، وبالمحاكاة العاطفية، وبالغوص مع النصوص الحيّة، حيث يلتقي الطالب بالقصيدة وجهًا لوجه، لا كمتلقٍّ مكسور العينين، بل كعاشقٍ يمدّ يده ليرقص مع الكلمات.

نحن لا نحتاج إلى أن نملأ عقول أبنائنا بحفظ الجمل وإعراب الكلمات وحصر الأساليب البلاغية في قوالب باردة؛ بل نحتاج أن نعلّمهم أن اللغة كائنٌ ينبض، أن الكلمة طائرٌ في القلب قبل أن تكون حرفًا على السطر. أن يفهموا الجملة بعقلهم، نعم، لكن الأهم أن يحسّوها بأرواحهم، أن يرتجفوا طربًا حين يمرّ بهم بيتٌ شعريٌّ أو عبارةٌ نثرية تحرّك شيئًا في أعماقهم لا اسم له، لكنه حيٌّ يتنفس.

أدوات تذوّق اللغة

من التجارب التي حفرت علاقتي باللغة حفراً عميقاً، تلك اللحظات التي كنت أقرأ فيها القرآن بصوتٍ عالٍ، أتذوّق كلّ آية وكأنها نبعٌ صافٍ يسري في عروقي. كان الإيقاع، والنَفَس، والسكوت بين الآيات، يصنعون موسيقى لا تسمعها الأذن فقط، بل تصغي لها الروح أيضًا.

كنت أستمع إلى الشعر العربي المُلقى بأصوات مبدعين كبار كأدونيس ونزار قباني، فأشعر أن الكلمة إذا نُطقت من قلب شاعر، تصبح كائناً آخر: لها جسدٌ ونفسٌ وإيقاعٌ ينبض. كنتُ أطالع كتب الجاحظ، وأتنقّل بين أبيات المتنبي، وأغرق في عوالم محمود درويش، فأجد في كل نصّ مرآةً جديدة لرؤية العالم والذات. ثم جاءت الكتابة اليومية، كرياضة خفيّة لا يراها أحد. كنت أمارسها كما يمارس الزارع طقوسه مع الأرض، أكتب كل يوم، أحرّك اللغة بين أصابعي كما يُحرّك الموسيقي أوتار عوده، فأكتشف أسرارها بالتجربة، لا بالتلقين.

ولم أكتفِ بالعربية وحدها؛ بل فتحت النوافذ على النصوص الأجنبية، أقرأها مترجَمة، ثم أعود إلى العربية، فأقارن، وأتأمل الفوارق الدقيقة بين روحين. هذه المقارنات كانت تعيد لي الوعي بجمال أدواتي الأمّ، كما يعود المغترب ليُدرك دفء بيته القديم بعد طول غياب.

أزمة المقروئية وفقدان التذوّق

نعم، إن أزمة المقروئية التي نعانيها اليوم لا تعود فقط إلى زحف التكنولوجيا أو ضعف مناهج التعليم، بل تمتدّ إلى جرحٍ أعمق: غياب العلاقة الذوقية الحميمة بين القارئ واللغة. حين يُنتزع الفنّ من اللغة، تبقى الكلمات جافةً، بلا نكهة، بلا ضوء، بلا طيفٍ يحرّك خيال القارئ. ومن لا يمتلك ذائقة اللغة، سيجد قراءة الشعر أو النثر الثقيل عبئًا، عملاً شاقًا بلا متعة، تمامًا كما لا يطرب للموسيقى من لا يمتلك أذنًا موسيقية تلتقط الأنغام الخفية.

أن نُربّي أبناءنا على تذوّق اللغة هو أن نفتح لهم نوافذ التأمل في العالم، أن نعلّمهم الإصغاء للصمت بين الكلمات، وأن نُنمّي فيهم الحسّ الجمالي القادر على الفهم العميق للذات والآخر. فاللغة ليست فقط مرآةً للواقع، بل هي الأداة التي تشكّله وتعيد صياغته. والمجتمعات التي تهمل هذا الحسّ، تهمل جزءاً من قلبها وهويّتها، وتخسر بذلك قدرتها على الإبداع والتجدد.

اللغة العربية في القلب

اليوم، تخوض اللغة العربية معركتها على أكثر من جبهة: أمام زحف التقنية الباردة، أمام التبسيط المُفرط الذي يقتلع منها جذورها، أمام العاميّة المتطرفة التي تغلق عليها باب التطور السليم، وأمام المُعجم الذي غدا في بعض جوانبه غريبًا عن نبض الحياة اليومية.

ومع ذلك، لا يزال هناك قلوب تؤمن بالعربية، وتحبّها كما تُحب الحبيبة، وتحرسها كما يُحرس العطر النادر في قارورة زجاجية عتيقة. لا خوف على لغة، ما دامت هناك أقلامٌ تكتب لها بدمع العين قبل مداد القلم، وما دامت هناك أرواحٌ تتألّم لخذلانها، وتفرح بانتصاراتها، وتراها أكثر من وسيلة: تراها وطنًا، وهوية، وعشقًا ممتدًا لا يموت.

اللغة العربية ليست في الكتب وحدها، بل في القلب، في الذاكرة الجماعية، في ذلك الارتجاف الذي يصيبنا حين نسمع بيت شعر يهزّنا من الداخل. ما دامت العربية قادرة أن تحرّك فينا هذا الرجفان الخفيّ، فهي باقية، تتجدّد، وتُورق، وتُزهر.

سمر توفيق الخطيب (كاتبة وباحثة فلسطينية – لبنان)

اللغة العربية... يكفيها فخرًا أنها لغة القرآن

يكفينا فخرًا أن اللّغة العربية هي لغة القرآن الكريم، الذي أنزله الله، عز وجل، على سيدنا محمد، صل الله عليه وسلم، طالبًا منه أن يقرأ، يقول تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ" (القرآن الكريم: العلق: 1). فكيف لنا ألّا نتذوّق جمال لغتنا الأم التي بها نسمو ونفتخر.

إنها لغة متجذّرة فينا، فهي مرآة لهويتنا ووعاء لثقافتنا؛ فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل كونها تمتدّ في عمق التّاريخ. فبتراكيبها الفنية أصبحت مرآة الحضارات التي عبرت العصور، إنها لغة الشعراء والأدباء، الذين أبدعوا بلوحاتهم الشّعرية والأدبية، فحُفرت في ذاكرة الأمم وجسّدت هويتهم، إذ إن النّغمة والإيقاع والموسيقى الدّاخلية للكلمات تفتح بابًا للوجدان قبل أن تفتحه للذهن.

إنها ليست كأيّ لغة، إنها لغة تنبض بالحياة، نظرًا لغزارة مفرداتها ودقة معانيها، فهي كالبحر إذا ما تم الغوص فيه، فإنه لا يمكن للمرء أن يدرك خفاياه وكنوزه. فعندما نقرأ الكلمات العربية نستشعر بإيقاع الحروف، كونها لغة تفيض بالصور والتّشابيه، بحيث يمكننا التّعبير عن أرقّ الأحاسيس وأدقّ الانفعالات، فها هو الإمام "الشافعي" (767 - 820م)، مؤسس أحد المذاهب الفقهية الإسلامية، اشتهر بشعره الحكيم إضافة إلى تأمّلاته في الدّنيا والدّين، فمن خلال قصائده تمكّن من نشر العدالة وتكريس المحبة بين النّاس، فظهر نبوغه في إرثه الثّقافي الذي بقي مصدر إلهام أجيال لاحقة، ومما قاله في الصّبر:

دع الأيام تفعـل مـا تشـاء -- وطب نفساً إذا حكم القضـاء

ولا تـجزع لحادثـه الليالـي -- فما لحوادث الدّنيا بقـاء

 وكن رجلاً على الأهـوال جَلدا -- وشيمتك السماحـة والوفـاء

فمن جمال اللّغة العربية قدرتها على أن تكون بسيطة وقريبة من القلب، وفي الوقت نفسه تكون فصيحة وراقية. إنها لغة الفخر والحماسة، كما أنها لغة الدّعاء فتحمل في ثناياها الشّجن والأمل والحنين والدّفء؛ وعندما يحسن المتلقّي الاستماع إلى هذه اللّغة والتّفاعل مع مفرداتها، تبدأ رحلة التذوّق الحقيقي. فإننا نعبر إلى زمن آخر من خلال الشعر العربي الأصيل، وعندما نسمع الخُطب الدّينية فإننا ننبهر ببلاغة اللّغة والبيان.

فها هو "أبو تمام" ( - 845م)، شاعر "الحماسة"، يبرع في وصف قصص البسالة والشّهامة حين يقول:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ -- في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في -- مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً -- بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما -- صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

تتًخَرُّصًا وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً -- لَيسَت بِنَبع إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ

وها هو "المتنبي" ( - 965م)، شاعر العرب يبهرنا بشعره الحماسي، عندما يقول:

الخيلُ واللّيلُ والبيداءُ تعرفُني -- والسّيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ

صحبتُ في الفَلَوات الوحشَ منفَرِدًا --       حتى تَعَجّبَ مني القُورُ والأكَمُ

ومن جمال اللّغة العربية أن جميع حروف هذين البيتين غير متصلة الحُروف والمنسوبة إلى "المتنبي":

زُر دارَ وُدٍّ إن أردتَ وُرُودًا -- زادوكَ وُدًّا إن رأوكَ وَدُودًا

أما أمير الشعراء "أحمد شوقي" (1868 - 1932م)، فإنه يلوح بقلمه الرّاقي في سماء اللّغة، ليرسم لنا لوحات فنية جميلة ورومانسية تظهر براعته في التّعبير عن تجاربه ومشاعره، بكلمات تعبّر عن الحُبّ والشّغف، فيقول في قصيدة "خدعوها":

نـظـرة، فابـتـسامـة، فـســــلامُ -- فكلام، فموعــد، فـَلـِـــــــــــقــاءَ

يـــوم كنا ولا تســـــل كيف كـنـــا -- نـتهادى من الـهـوى مـا نشــــــاءُ

وعلينــا من العفـــــــــاف رقـيــــبُ – تعبت في مراسه الأهواء

ويظهر جمال اللّغة العربية في هذا الأبيات التي أنشدها الشّاعر والفيلسوف "السهروردي" (1154 - 1191م) الذي يحمل الجناس:

أَرى قدمي أَراقَ دَمي -- وَهانَ دَمي فَها نَدَمي

فالكُتاب والشّعراء، قادرون على التّأثير بنا والتّحكم بمشاعرنا من خلال كتاباتهم وإبداعاتهم، كونهم أقدر النّاس على تذوّق لغتنا العربية، فنحن ومنذ الصغر نتأثر بهم وبمشاعرهم الفيّاضة التي تُغدق علينا عبر النّصوص الأدبية. فشعورهم الدّاخلي هو الذي يحول مفرداتهم من مجرد حُروف إلى نغمة وإحساس، فمن لا يتذوّق اللّغة العربية لا يمكنه أن ينقل أو يكتب الأفكار المبدعة، كونه يفتقد إلى الخيال وتلك اللّمسة التي تحرّك المشاعر.

فلغتنا العربية ذات طبيعة موسيقية بتراكيبها الغنيّة، تُغدق على متذوّقها ممّن يعشق ويغوص ويُنصت، فتمنحه كنوزها بحيث يُبدع ويتألق. فمن يبدع باللّغة كمن يبدع بالعزف، فالعازف يتدرّب ليزوّدنا بلوحات موسيقية جميلة، وكذلك الأمر بالنسبة للمبدع في اللّغة العربية التي ينمّيها بالإصغاء، وبالقراءة، وبالاستماع ومخالطة جماليات هذه اللّغة. فتذوّق هذه اللّغة رحلة محبّة، إنها تجربة عقلية وقلبية تنضج بالتأمل، وتُثمر عندما تتحوّل اللّغة من أداةٍ إلى رفيقة درب، فمع الوقت تزداد دهشتك باللّغة لأنك دائم الاكتشاف لجمالياتها.

فمن جماليات تذوّق اللّغة العربية سماع الآذان، إيذانا بمواعيد الصّلاة، والاستماع إلى القرآن الكريم لما لذلك من أثر بالغ في النُفوس، نظرًا لإعجازه بلغته وفصاحة مفرداته ودقة تعابيره وحسن بيانه.

ولكي نتأثر باللّغة يجب علينا أن نقرأ بتأنٍّ، ونتوقف عند الجُمل التي تعجبنا، كي نتأمّل في صياغتها وبصورها البلاغية من تشبيه واستعارة... إلخ، ما يجعل هذه اللّغة تجربة ذوقية.

والجدير بالذكر أن سبب أزمة المقروئية في العالم العربي يرجع إلى افتقار عدد كبير من النّاس إلى أدوات تذوّق اللّغة العربية، فهي ليست لغة تواصل وحسب، بل هي مفتاح لفهم جماليات النّصوص وتذوّقها، لاسيما الشّعر الذي يعتمد على الرّموز والصّوَر والإيقاع واللّغة المكثفة. كما أن اختزال تعليم اللّغة على تمارين نمطية وقواعد جافة، دون ربطها بالحياة والموسيقى الدّاخلية للكلمة أو بالخيال، ما يفقدنا الوسيلة الأهم لصناعة القارئ المتذوق. وهذه الفجوة تخلق نوعاً من الانفصال بين الإنسان والنّص الأدبي، فيتحوّل إلى شيء غير مفيد، بدلاً من أن يكون تجربة غنية بالمعنى والدّهشة.

والأزمة لا تقف عند حدود التذوّق الجمالي، بل تمتد لتؤثر على الفكر والوعي. فالقراءة العميقة، وخاصة في الأدب، توسّع الأفق، وتنمّي القدرة على التأمل، والتفكير النقدي، والتعاطف، وهي كلها عناصر جوهرية لتشكيل وعي ناضج.

أما على الصعيد الشّخصي، فإنني أتعمّق أكثر وأكثر بلغتنا الجميلة التي شرّفنا الله تعالى بأن جعلنا من النّاطقين بها، ورويدًا رويدًا لا بدّ أن يثمر هذا التّعمق كتابات متواضعة ومتتالية، بإذن الله تعالى، على أمل أن تلقى أذانًا صاغية من المتلقي الذّواق.

فالكتابة تجعلنا نُجرب، ونختار ونعيد الصياغة؛ وحتى لو كانت محاولاتنا بسيطة، فهي تمرين روحي يقرّبنا من جوهر التّعبير، وكلما تعرّفنا على مفرداتٍ أكثر تصبح للغتنا الكثير من النّكهات والألوان. وعليه، فلا خيار لديّ إلا أن أحُبّ لُغة القرآن، وها أنا ذا جاهدة أحاول أن أمتّن علاقتي بها لأغني بها روحي قبل فكري ووعي.

منيرة جهاد الحجّار (كاتبة وباحثة من لبنان)

لغتي على الحافّة

حروفٌ تدلّت من السّماء، قطفتُها منذ نعومة أظفاري، كنت أخبّئها في دفتر، كلّ صفحة منه كانت نجمة من حياتي، لم أكن أحبّ الثّرثرة، لكنّني كنت أحبّ ذلك البَوح المرصّع بلُغتي على صفحات ذكرياتي، بَوح شفيفٌ يريح النّبض، يغلّف القلب، ولا يخون أبدًا...

حروفٌ بيني وبينها حكايات طويلة، كنت أحيك ثمارها بصمت، أرصّعها بأبهى ما لديّ، أخطّطها، أرسم تفاصيلها بدقّة، ألوّنها، أخلق منها عالمًا جميلًا لي وحدي! كانت هوايتي، وشغفي، ألتقي بها في كلّ يوم على أوراقي، وفي رحاب المقاعد الدراسيّة كنت ما إن أسمع أستاذ اللّغة العربيّة يلقي علينا بيتًا شعريًّا حتّى أنسج من كلماتي بيتًا على منواله، لكن بصَمْت على كتابي، كنتُ أحيا بين حروفي وألواني...

واليوم، ومع وجود عالم رقميّ ينهش عالم اللّغة العربيّة بأنيابه، وفي ظلّ عقوق أبنائها، إلّا من رحم ربّي، وانجراف الكثير نحو عالم المادّة، كبرت مسؤوليّتي، وأنا التي ما زالت طفلتها التي ترعرعت على يديها، مدينة لها بوجودي، وهُويّتي، أخشى عليها منّي، من تقصيري، ومن غيري، ومن هوى التشرّد حيث تعجّ أزقّة العالم الإلكترونيّ بالمتسوّلين، فلو أنّنا نستخدم سحر التّكنولوجيا لإزالتهم!

بيدين من ضباب أحاول أن أرتّب هُويّتي، هُويّتنا التي رميناها في الدّرج الأخير من الحياة، فتآكلت بغبار الأيّام، هويّتنا التي جعلناها في مبارزة مع اللّغات الأخرى فقوّينا تلك الأخيرة على حسابها، فكيف أرتّبها، بل نرتّبها؟ كيف نبثّ فيها روح الحياة الّتي سُرقت منها؟ هي ليست دعوة لمن يرغب، إنما دعوة لواجب علينا تأديته تجاه لغتنا ووجودنا، فإذا كنّا نحن، أصحاب اللّغة، نقتلع جذور هويّتنا، فماذا تركنا للغريب؟ وماذا تركنا للجيل الجديد الذي زُرع في عقله أنّ اللّغة العربيّة ليست مهمّة، وليست على "الموضة"! من يستخفّ بهذه اللّغة المقدّسة، لغة القرآن الكريم، لغة الهويّة العربيّة والوجود، فليراجع نفسه، أو أنّه مجهول الهويّة؟ والدّعوة أيضًا إلى أصحاب الاختصاص الذين رفعوا هذه المسؤوليّة عن أكتافهم، والتحقوا أيضًا بتيّار التخلّف، إلّا من رحم ربّي، والأغرب من ذلك هو استخدامهم للغة الإنترنت، فنحن لسنا ضدّ الانفتاح، ولا ضدّ تعلّم اللّغات، بل على العكس فهذا مطلوب، ولكن ليس على حساب لغتنا، والتّواصل يكون إمّا باللّغة العربيّة أو باللّغة الأجنبيّة، لكن ليس بمزيج من الرّموز الجديدة التي تضرب كلّ اللّغات، وليس فقط العربيّة.

أحبّ لغتي؟ نعم. أهيم بها، وأغار عليها، وأكره التعصّب، لكنّني في لغتي لا أساوم، وتستفزّني كلّ محاولات الطّمس لها، وخصوصًا تلك الموجّهة من أبنائها، لغة السّحر والجمال والخيال والإبداع، لغة الوجود تعلن استغاثتها بعد أن أصبحت على الحافّة، أفلا نكون عَونًا لها ونحن الذين بحاجة إليها؟

وفاء داري (كاتبة وباحثة من فلسطين)

جماليات الوجدان اللغوي.. إحياء الذائقة العربية بين أزمات القطيعة وتجارب الوجود

تنفرد اللغة العربية بخصوصية تتجاوز كونها وعاءً للتعبير والتواصل، لتلامس منطقة الذائقة الجمالية الرفيعة إنها لغة حسيّة، تستثير في المتلقي قدرًا من الانفعال والوجد بقدر ما يمتلك من أدوات تذوّقها والإحساس بمكنوناتها الجمالية. يتشكّل من تفاعل الأصوات والدلالات والانزياحات البلاغية. تُقدّم العربية نفسها كلغة "ذوقيّة" بامتياز؛ حيث تتجاوز وظيفتها النفعية إلى عوالم الدهشة الشعرية والفلسفية. لكن كيف نعيد بناء علاقتنا مع هذه اللغة كـ (تجربة وجودية)، لا كمجرد نظام قواعدي؟ وكيف يؤثر افتقاد التذوّق اللغوي على أزماتنا الثقافية، مثل أزمة المقروئية؟

هذا المقال يحاول الغوص في تشريح العلاقة بين الذات واللغة، من الطفولة إلى الوعي النقدي، بحثًا عن إجاباتٍ تُعيد للعربية حضورها كـ (جسدٍ حيّ) في الوجدان والعقل. في محاولة لتفكيك أزمة العلاقة مع العربية، لا كظاهرةٍ لغوية، بل كـ "أزمة وعيٍ جمعي". فالأديب والشاعر، بحكم احترافهما التعامل مع هذه المادة الخام الثرية، يفترض فيهما أن يكونا في طليعة المتذوّقين، قادرين على التقاط أدق التفاصيل الجمالية التي قد تمرّ على غيرهم مرور الكرام. هذا التفاعل العميق مع اللغة يصل حد الانتشاء أو الحزن العميق.

لقد ترسّخ في يقيني أن الإبداع الحقيقي لا ينفصل عن التذوّق العميق للغة. فكيف يمكن للرسام أن يبدع لو كان فاقدًا لحاسة البصر وتمييز الألوان؟ وبالمثل، كيف يمكن للكاتب أو الشاعر أن ينقل إحساسًا أو فكرة بصدق وتأثير إذا كان قلبه وعقله غير قادرين على الإحساس بجمال اللغة وقوّتها الكامنة؟ وهنا نفكر بجمالية اللغة العربية: بين التذوّق الوجودي وأزمة القطيعة الإدراكية.

إن اللغة ليست مجرد أدوات جاهزة للاستخدام، بل هي كائن حي يتنفس جمالًا وسحرًا، ولا يمكن للمبدع أن يتعامل معها بفاعلية إلا إذا كان قادرًا على استشعار هذا الجمال والتفاعل معه.

الطفولة والنشأة.. اللغة كحكاية أوّلية 

علاقتي بالعربية بدأت كـ (حكايةٍ مزدوجة): أمٌّ كانت تنثر قصائدَ محمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني قبل النوم، وأبٌ يصرّ على ترديد أبيات المتنبي أثناء التعليم. هنا، لم تكن العربية مجرد لغة، بل طقسٌ عاطفي يربط بين الحروف والمشاعر. في المدرسة، تحوّلت القواعد النحويّة إلى كوابيس كنت أعشق اللغة العربية وامقت بناتها النّحو والصّرف، ولكن تعلّقَت الروح بالشعر الحر الحديث، أنقذَت العلاقة من الجمود. السؤال الجوهري: هل يمكن أن تنشأ علاقةٌ حميمة مع اللغة دون أن تكون مغروسةً في الذاكرة العاطفية منذ الصغر؟ الإجابة تكمن في أن تذوّق العربية، لا يبدأ من فهم "إنّ وأخواتها"؛ بل من ذلك الارتعاش الغامض عند سماع قافيةٍ متكررة، أو التقاطِ جناسٍ في آية قرآنية.

في رحلة استكشافي للغة العربية، لم تكن هناك طُرق منهجية تقليدية بقدر ما كانت هناك محاولات ذاتية واعية لتنمية هذه الحاسة الذوقية. القراءة النّهمة والمتنوّعة كانت هي البوصلة التي أرشدتني في هذا الطريق. لم أقتصر على قراءة النصوص الأدبية الكلاسيكية والمعاصرة فحسب، بل تعدّيت ذلك إلى قراءة كتب النقد الأدبي التي كانت تضيء لي جوانب جديدة من جماليات اللغة وأساليب التعبير. كما أن الاستماع المتأمِّل للشعر والموسيقى العربية الأصيلة ساهم في تنمية إحساسي تجاه إيقاع اللغة وجرس كلماتها. بالإضافة إلى ذلك، كانت محاولات الكتابة والتعبير عن أفكاري ومشاعري باللغة العربية بمثابة تدريب عملي على تذوّقها واستكشاف إمكاناتها التعبيرية.

إن نشوء حب اللغة كان عملية تدريجية، بدأت بالإعجاب ثم تطوّرت إلى شغف عميق. لقد وجدت في اللغة العربية ملاذًا فكريًا وجماليًا، وعاءً قادرًا على استيعاب أدقّ تفاصيل الروح وأعمق تساؤلات العقل. وقد عملت على تمتين أواصر هذه العلاقة من خلال الممارسة المستمرة للكتابة والقراءة، والانخراط في نقاشات لغوية وأدبية تثري فهمي وتقديري لجمالياتها.

أعتقد جازمًا أن أزمة المقروئية في العالم العربي تعود في جزء كبير منها إلى ضعف القدرة على تذوق اللغة العربية والإحساس بجمالها لدى فئات واسعة من الناس. فعندما تصبح اللغة مجرّد أداة وظيفية خالية من أيّ بعد جُمالي أو حسي، فإن الدافع للقراءة والتفاعل مع النصوص الأدبية يتضاءل بشكل كبير. إن النصوص الأدبية، وخاصة الشعر والشعر الحر، تعتمد بشكل أساسي على قدرة المتلقّي على التقاط الإشارات الجمالية والإيقاعية الكامنة في اللغة. وعندما يفتقد القارئ هذه الأدوات، يصبح النص الأدبي مجرد مجموعة من الكلمات والجمل التي لا تثير فيه أيّ انفعال أو متعة.

الإبداع والتذوّق.. هل ينجو أحدهما دون الآخر؟ 

يقول "أدونيس": "اللغة تصنعنا كما نصنعها". هذا التفاعل التبادلي يطرح إشكاليةً جوهرية: هل يمكن للمبدع أن ينتج نصًّا أدبيًّا دون أن يكون (متذوّقًا) للغة؟ التاريخ الأدبي يشهد أن عظماء العربية - من الجاحظ إلى محمود درويش - كانوا "صوفيين لغويين"، يعيشون الانزياحات الدلالية كحالاتٍ وجدانية. عندما يكتب الشاعر دون تذوّقٍ، تتحوّل القصيدة إلى مجموعة جملٍ ميتافورية جوفاء. مثالٌ على ذلك: كتاباتُ بعض الشعراء الحداثيين الذين يلهثون وراء الانزياحاتِ اللغوية دون فهمٍ لـ "الموسيقى الداخلية" للكلمة، فتفقد النصوصُ قدرتَها على إثارة القشعريرة التي تحدّثَ عنها السؤال. إن إحياء الذائقة اللغوية في مجتمعاتنا العربية يمثّل مدخلًا أساسيًا لمعالجة أزمة المقروئية وتداعياتها على الفكر والوعي. يجب أن تبدأ العملية من المراحل التعليمية الأولى، من خلال التركيز على تعليم اللغة العربية بطريقة شيّقة ومُحفّزة، تبرز جمالياتها وقدرتها على التأثير في المشاعر والأحاسيس. كما أن تشجيع الأنشطة الثقافية والأدبية التي تحتفي باللغة العربية وتبرز كنوزها يمكن أن يساهم في تعزيز الوعي بأهمية تذوّق اللغة وتقديرها.

تذوّق العربية.. بين التلقين والتلقائية

تعلمتُ تذوّقَ العربية عبر مسارين:

- المسار الأول: عبر (الانزياح نحو التلقين الجمالي): في مرحلة الدراسة الجامعية، اكتشفتُ أن تحليلَ النص الأدبي - كما في كتابات طه حسين - ليس عمليةً عقليةً بحتة، بل هي "ممارسةٌ تأويلية" تدمج بين العقل والوجدان. 

- المسار الثاني: عبر "التلقائية العفوية": كقراءة ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" لـ "أدونيس" دون محاولةِ فهمٍ، بل لاستشعار الإيقاع والصور. 

هنا، نصل إلى مفترق طرق: هل يمكن تعليم التذوّق؟ نعم، لكن عبر تحويل الدروس اللغوية إلى (حواراتٍ جمالية)، حيث يُسأل الطالب: "كيف تشعر عندما تسمع كلمة (سندس) في القرآن؟"، بدلًا من سؤاله عن موقعها الإعرابي.

أزمة المقروئية.. هل نقرأ بأعينٍ عمياء؟  

تشير إحصائيات اليونسكو إلى أن متوسط القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 6 دقائق سنويًّا للفرد. قد نلوم الأسباب الاقتصادية أو التكنولوجيا، لكنّ الجذرَ الأعمق هو (القطيعة مع جمالية اللغة). عندما تُقدَّم العربية للناشئة كلغةٍ جامدةٍ مليئةٍ بالحركات الإعرابية، وليس كلغةٍ قادرةٍ على وصفِ لون الغروب، فإن القراءة تصبح عبئًا.

النتيجة: عزوفٌ عن النصوص الأدبية التي تتطلب تفاعلًا ذوقيًّا، مثل الشعر الصوفي أو السرد التراثي أو الشعر الحر الحداثي. حتى الروايات الحديثة - رغم انتشارها - تفتقدُ غالبًا إلى "الحِسّ اللغوي" الذي يجعل القارئَ يعيد قراءة الجملة أكثرَ من مرّةٍ لشدة جمالها. فنحن بحاجة وبكل شفافية الى إعادة تشكيل الذائقة.. نحو لغةٍ تعانق الوجود. علاقتنا بالعربية ليست مسألةً تعليميةً فحسب، بل هي (قضيةٌ وجودية).

إن إحياءَ التذوّق اللغوي يتطلب: تفكيكَ التراتبية التعليمية التي تفصل بين "الفصحى" و"العامية"، وتقديم العربية كنسقٍ مُتّصلٍ من اللهجات إلى الشعر. كما نحتاج الى دمجَ التكنولوجيا في تعليم الجماليات، مثل استخدام تطبيقاتٍ تفاعليةٍ لتحليل النصوص الأدبية.  وأيضًا نحتاج الى إعادة الاعتبار للقراءة كـ (متعةٍ)، عبر تشجيع ورش الكتابة الإبداعية التي تركّز على "اللعب باللغة" قبل التقييد بقواعدها. 

في الختام..

يمكن القول إن علاقتنا باللغة العربية يجب أن تتجاوز مجرد كونها وسيلة للتواصل إلى مستوى أعمق من التذوق والإحساس بالجمال. إنها دعوة إلى إعادة اكتشاف الكنز اللغوي الذي نمتلكه، والعمل على تنمية أدوات تذوّقه في نفوسنا وأجيالنا القادمة. فبقدر ما نتمكّن من استعادة هذه الحساسية الجمالية تجاه لغتنا، بقدر ما نفتح لأنفسنا ولأجيالنا القادمة أبوابًا واسعة نحو عوالم الفكر والإبداع والوعي. أخيرًا، لن تشعرَ العربيةُ بالدفء إلا إذا تحوّلت من لغةِ الماضي إلى لغةِ (الحاضر المُعاش)، حيث تصبح الكلماتُ أنفاسًا نتنفّسها، لا رموزًا نُجيد فكَّ شفرتها.

مروى فتحي منصور (روائية وكاتبة من جنين – فلسطين)

العربية.. ليست مجرد وسيلة تواصل بل هويّة وجمال!

تعدّ اللغة العربية من أغنى اللغات وأكثرها تنوعًا وثراءً على مستوى العالم، فهي لغة القرآن الكريم، ولغة العلم، والفكر، والثقافة العميقة. لكن في واقعنا المعاصر، تواجه اللغة العربية تحديات متعددة، خصوصًا في ظل الانفتاح على لغات أخرى، واستخدام وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكننا أن نتذوّق جمال اللغة العربية ونعيش في عمقها؟ وهل يمكن أن نعيد اكتشاف سرّها الذي لا يزال حيًّا فينا، بعيدًا عن النظرة التقليدية التي تقيدها في قوالب جامدة؟

في عالم يتسارع فيه انتشار اللغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية، تظل اللغة العربية تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا وجمالًا أخّاذًا يجعلها أكثر من مجرد أداة للتواصل اليومي. فهي لغة القرآن الكريم، وحاضنة التراث الأدبي والعلمي لأمة امتدت حضارتها عبر القرون.

اللغة العربية بين الماضي والحاضر

اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي نافذة لروح الأمة وثقافتها وهويتها. إنها تجمع بين الفصاحة والبلاغة، بين المفردات المتعددة والمضامين العميقة. تمتاز بثراء المفردات ومرونتها الاشتقاقية وأساليبها الجمالية التي تتيح لها تغطية جميع المضامين، وتراكيبها تحمل صورًا جمالية وثراء ثقافيًا يصعب إيجاده في كثير من اللغات الأخرى.

عاشت اللغة العربية عصورًا ذهبية كانت فيها لغة العلم والأدب والفلسفة، حيث كانت دمشق وبغداد والقيروان وقرطبة مراكز إشعاع ثقافي تُترجم فيها أعمال اليونان والفرس، ويُؤلف فيها ما لا يُحصى من الكتب في شتى المجالات. اليوم، ومع تغير الظروف السياسية والاجتماعية، أصبحت العربية في بعض الأحيان تُستخدم بشكل سطحي، وكأنها مجرد وسيلة للتعبير العابر دون الاهتمام بجماليتها أو عمقها.

ومع ذلك، تبقى العربية لغة قادرة على التكيّف والتطور، إذ نراها تواكب العصر من خلال المصطلحات الحديثة، وتظل قادرة على التعبير بأسلوب بديع سواء في الشعر أو النثر أو حتى في وسائل التواصل الاجتماعي. الفرق بين الماضي والحاضر ليس في اللغة نفسها، بل في طريقة تعاملنا معها.

كيف نتذوق جمال اللغة العربية؟

يُعتبر الأدب العربي أحد أبرز مظاهر جمال اللغة، لا سيما في الشعر العربي بجميع أشكاله القديمة والحديثة، فقد كانت اللغة العربية في أيدي الشعراء أداة قادرة على تجسيد الأفكار والمشاعر بأشكال بديعة. نرى في الشعر العربي كيف أن للكلمة وزنًا موسيقيًا، وكيف أن الصورة الأدبية يمكن أن تأخذك إلى عوالم أخرى من التأمل والشعور العميق.

ورغم أن الشعر قد يكون الشكل الأدبي الأكثر تعبيرًا عن جمال اللغة، فإن الرواية والمسرح والنثر العربي جميعها تقدم فرصًا لقراءة لغة تتسع لإظهار كل تعبيرات الإنسان، بمشاعره وحالاته النفسية والفكرية. في الرواية العربية، نجد أن اللغة يمكن أن تكون أكثر من مجرد وسيلة سرد، بل هي جوهر العمل، تتنقل بين الشخصيات والأحداث، وتستحضر صورًا ومشاهدًا حية تعكس الواقع والمخيلة على حد سواء.

لذا علينا أن نغير طُرق التلقي لهذه النصوص العربية، ليصبح التلقي تأمليا واعيا وليس تلقينا مجردا، فلا يكفي أن نقرأ العربية، بل يجب أن نقرأها بتمعّن، لاكتشاف كنه الشحنات الشاعرية والإيقاع الموسيقي الكامن وراء الصور البلاغية الرقراقة، القراءة الواعية تعني أن نتوقف عند الجمل، أن نبحث عن جماليات التشبيه والاستعارة، وأن نستشعر العاطفة التي يريد الكاتب نقلها.

إذا أردنا أن نعيش جمال اللغة العربية ونتذوّقها، علينا أولًا أن نعيد اكتشاف الكلمات والعبارات التي تعكس أصالة الثقافة العربية. يجب علينا أن نغمس أنفسنا في الأدب العربي القديم والحديث على حد سواء، وأن نستمع إلى الشعر العربي بأصواته المختلفة، ونشاهد الأفلام والمسلسلات التي تبث الحوارات بأصوات عربية فصيحة.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نتذوق اللغة العربية من خلال فنونها المتنوعة: الخط العربي، والموسيقى، والحديث الفصيح. اللغة ليست مجرد حروف وأصوات، بل هي لوحة فنية تُرسم على صفحة الزمان والمكان.

اللغة العربية والفكر

تتسم اللغة العربية بقدرتها على التعبير عن أفكار مجردة ومعقدة بشكل مميز. فهي تمنح المتحدث أو الكاتب إمكانيات لا محدودة في الصياغة والتمثيل. ففي جُمل قليلة قد تحتوي على مفاهيم عميقة، تختصر مئات المفردات الأخرى. في كل كلمة تترسّخ فكرة، وفي كل جملة ينبثق شعور.

من خلال هذا الإبداع اللغوي، تصبح اللغة العربية وسيلة للتفكير العميق. في الفلسفة العربية القديمة، كما في الأعمال الحديثة لمفكرين مثل طه حسين وجورجي زيدان، كانت اللغة مجالًا خصبًا لاستكشاف الذات والعالم من حولها. هذا ما يجعلها أكثر من مجرد أداة للتواصل، بل هي أداة للتفكير والنقد والتحليل، وفي أحيانٍ كثيرة، هي طريق للبحث عن المعنى الحقيقي للحياة.

كما أن القراءة المفتوحة للنصوص الأدبية تُعدّ من الطُّرق الممتازة لتذوق الجمال اللغوي. قراءة الأدب العربي ليست مجرد تمرين لغوي، بل هي رحلة إلى عالم فكري وثقافي عميق. في كل كتاب، أو رواية، أو قصيدة، يجد القارئ فرصته لاكتشاف كيفية استخدام اللغة ليس فقط للتواصل، بل للتعبير عن فلسفة الحياة، والأمل، والتحدي.

اللغة العربية وعلم الآلة اللغوي

ينفر الناشؤون من اللغة العربية لأنها تقدم لهم على شكل قواعد نحوية وصرفية وبلاغية جامدة جافة مكثفة وتقويمية في المدرسة، في الوقت الذي يجب أن نتعامل معها كأدوات لفهم جمال اللغة وتذوقها، عندما نعرف أن تقديم وتأخير الكلام في الجملة العربية يمكن أن يغير المعنى أو يضيف بلاغة، أو أن الاستعارة تجعل الوصف أكثر حيوية، سنبدأ في رؤية هذه القواعد كسرٍّ من أسرار إعجاز اللغة.

التحديات وكيفية تجاوزها

رغم كل هذا الجمال، تواجه العربية تحديات حقيقية، أبرزها:

- التحديات في عصر العولمة: رغم الجمال الهائل للغة العربية وقدرتها الفائقة على التعبير، فإن الواقع المعاصر يشهد تحديات تواجهها. أضحت اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، تحتل مكانة بارز بارزة في وسائل الإعلام، والتعليم، والتكنولوجيا.

- في بعض المجتمعات العربية، يتم تبنّي الكلمات والمفردات الأجنبية بشكل متسارع، مما أدى إلى فقدان بعض من جمال اللغة العربية الأصلية وثرائها. وهذا ما ينعكس في تراجع استخدام الكلمات التقليدية واستبدالها بأخرى أبسط أو مستعارة.

ومن أبرز المشكلات المعاصرة التي تواجه مستخدمي اللغة العربية:

- الازدواجية اللغوية: فالكثيرون يتحدثون بالعامية ويكتبون بها، مما يُضعف ارتباطهم بالفصحى.

- ضعف القراءة: معدلات القراءة في العالم العربي متدنّية مقارنة بدول أخرى.

- الهجوم الثقافي: بعض الشباب يعتبرون العربية لغة "قديمة" ولا تواكب العصر.

لكن هذه التحديات يمكن تجاوزها إذا أعطينا العربية مكانتها الحقيقية، سواء عبر التعليم الإبداعي، أو دعم المحتوى العربي الراقي في الإعلام والإنترنت، والتشجيع على الاستماع إلى العربية الفصيحة لتغذية الأذن اللغوية، لبرمجتها على الفصاحة وتطوير إحساسها بالجمال، كالخطابات التاريخية، أو الاستماع إلى القرآن الكريم بتلاوات متنوعة.. حتى في عصر اليوتيوب، هناك قنوات تقدم محتوى عربيًّا فصيحًا بأسلوب شيق، مما يساعد على ربط الجيل الجديد بلغته.

ومن السبل لمواجهة التحديات التي تواجه التفاعل الجمالي مع اللغة العربية هو التشجيع على الكتابة الإبداعية، سواء في كتابة النصوص أو حتى منشورات على وسائل التواصل، فنبدأ في استشعار ثقل الكلمات ومدى دقتها. الكتابة تجبرنا على البحث عن المفردات الأجمل، والتراكيب الأكثر سلاسة، مما يعمّق ارتباطنا باللغة، فالمطلوب هو إعادة العربية إلى الحياة، لأن العربية لغة حية تحتاج منا أن نحياها.

 ربط اللغة بالهوية والعاطفة 

اللغة ليست فقط كلمات، بل هي وعاء للهويّة والذاكرة الجمعية. عندما يشعر الإنسان أن العربية جزء من كيانه، سيبحث عن الطرق لإتقانها والتعبير بها بفخر. الأغاني الوطنية، الأشعار الحماسية، وحتى الأمثال الشعبية، كلها أشكال تعيد ربطنا عاطفيًا باللغة.

اللغة العربية ليست ماضٍ نحمله كعبءٍ، بل هي حاضر يمكن أن نصنعه بأيدينا. كل كلمة نتعلمها، كل نص نقرؤه، كل جملة نكتبها بجمال، هي خطوة نحو إحياء هذه اللغة في قلوبنا قبل ألسنتنا. عندما نتذوّق العربية، لا نتعلم لغة فقط، بل نتعلم كيف نرى العالم بعين الجمال، بعين الأدب، بعين الهويّة التي تستحق أن نعتز بها.

فهل نعيد للعربية مكانتها؟ الجواب يبدأ منا..