صيحةُ الجنرال "بيجو" الأنموذج الكامل للإنسان الثائر في شخصية الفلاّح العربي بالجزائر هو الذي جعل الجنرال "بيجو" يصيح صيحةً مِلْؤها الإعجاب قائلا: "آه لو لم يُوجَد العربُ في الجزائر، أو لو كانوا يُشبهون تلك الشعوب المائعة التي في الهند.. لما نصحتُ بلادي بأن تكون جاليةً إلى جانب العنصر العسكري، ولكن وُجود هذه الأمة التي بلغت من شدّة المراس والاستعداد للحرب حدًّا أرفعُ بكثير مِمّا هو عند الجماهير الأوروبية يضطرنا اضطرارًا إلى أن نضع أمامها وحولها وفي وسطها سُكانًّا يكونون على أوْفر ما يُمكن من القوّة". بطولةٌ أسطوريةٌ هذه الصّلابة، هذا الثّبات، هذا الإصرار، هذه البطولة الأسطورية التي امتاز بها الفلاّح الجزائري هي التي جعلت ضابطًا فرنسيًّا آخر اسمه "فيستي" يصرخُ بالإعجاب وهو يروي إلى جنراله، في أحد تقاريره، حادثةَ رجليْن اتّهمَهُما بقتل ضابط تركي يعمل في الجيش الفرنسي.. وحكمت عليهما السلطة الفرنسية بقطع يديهما، قال الضابط الفرنسي: "حُزِم ذراع كل منهما عند الزّند، وشُدَّ على شرايينهما بحبل، ثم وقع جَزّ اليد بتمهّل وبُطء، ثم رُميت اليدان على وجهيهما. ولكن يا سيدي الجنرال، لقد رأيتُ هذا بعيني، إنه لم يظهر على الرّجلين أثناء العمليّة أيّ شعور بالألم. لقد كان وجهُ كلّ منهما طبيعيًّا لا أثر فيه للتوتّر أو التقلّص. ثم تناول كل منهما يدَه الملقاة على الأرض بيده السّليمة، وسار الرجلان جنبًا إلى جنب يتحدّثان بهدوء عجيب.. إن رجالاً من هذا الطّراز قادرون على أن يفعلوا شيئًا عظيمًا ورائعًا". وبالرغم من أنّ جيش الاحتلال استعمل كل وسائل الرّعب والإبادة، والتّقتيل الجماعي، والتّعذيب، فقد بقيَ الفلاّحون صامدين لم يستسلموا أبدًا. قال ضابطٌ فرنسي يُدعى "كاروبير": "تجوّلنا كثيرا لكي نُحرق ونُتلف ونسحق القبائل بين البليدة والشّلف وفي ضواحي شرشال، وبالرغم من أنّ الرّعب الذي نشرناه كان عظيمًا، فإنّ الذي نريد تحقيقه وهو استسلامهم، ظلَّ بعيدًا". الثّورةُ إلى آخر الأنفاس وثورات هؤلاء الفلاّحين العُزّل، الذين أُحرِقتْ قُراهم وأُتلِفتْ مواشيهم وهُدِمت مزارعهم، هي التي أصبحت تهُدّد الجيشَ الفرنسيَّ ذي الماضي العريق في تاريخ العسكرية بالإبادة. قال الدُّوق "دوليان": "إن هؤلاء الرجال ذوي الحَميَّة والبَأْس قد أذاقوا الفرنسيين متاعبَ لم يعرفوها في كامل حروبهم الإمبراطورية، وساهموا أكثر من أيّ جيش نظامي آخر في تدمير الجيش الفرنسي.. لقد كانوا يمنعون الجيشَ أن يذوق للنّوم طعْمًا وإنّما يضطرّونه للبقاء على قَدَم التّحفّز الذي لا يهدأ". الحلُّ في استيراد مزارعين أوروبيّين! لقد فشلتْ كل الوسائل التي اتّخذها الفرنسيون زمنَ الاحتلال، لإخماد ثورات الفلاّحين. إذًا فما هو الحلّ الناجعُ لإيقاف هذه المُقاومة الجبّارة؟ لقد توصّل الفرنسيون أخيرًا إلى حلّ وهو كما يقول "موريسيار": "لكن نُحقّق تلك الغاية، يجب أن نستوردَ مزارعين أوروبيين، لأننا لا يُمكننا أبدًا، أن نثق ثقةً كافيةً بالأهالي الذين لن يتردّدوا في القيام بثورة عند سماعهم لأوّل بادرة للحرب، فبيْن الغزو والاحتلال الحقيقي، لا يكون استسلام العربي إلاَّ مرحلة لا بدّ منها. إنّ السّكان المسيحيين الفرنسيين المُزارعين هم وحدهم الكفيلون بأن يُحقّقوا أملنا في استقرارنا يومًا من الأيّام في الجزائر. يجب علينا أن نعمل على إحضار عدد كبير من الزارعين المُعمّرين، ونُشجِّعهم بأن نقتطع لهم الأرضَ ونُملّكهم إيّاها..". إذًا فالحلّ الذي توصّل إليه الفرنسيون للقضاء على مقاومة الفلاّحين هو تجريد هؤلاء من مصدر هذه القوة الجبّارة وهذا البَأْس السِّحْريّ. تجريدهم من الأرض التي كيّفتْ شخصيةَ الفلاّح وأبْرَزتها إلى الوجود كشحنات من الطَّاقة الثّوريّة الرّهيبة.. العقاب.. القطيعة بين الفلاّح وأرضه وهكذا صار العقابُ الذي يُسلّطُ على القبائل الثائرةِ، تجريدُها من أرضها وطردها منها. فمثلاً، فُرِضت على القبائل التي قامت بثورة سنة 1871 غرامةً كبيرة، مع تجريدهم من أملاكهم التي قدّرَها الفرنسيون بنصف مليون هكتار. ولجأ القادةُ الفرنسيون إلى إغراء المُجنّدين في جيش الاحتلال بمنْح كل جنديّ أو ضابط أوروبيّ حصّتَه من أرض القرية المقهورة. وهكذا صارت أرضُ القريةِ تُقتَطعُ للضبّاط الذين يُخمِدون ثورتها.. أمّا السُّكان فكانوا يُطردون إلى المناطق النائية عن العمران. قال أحدُ الضُّباط الفرنسيين: "أَمَا وقد عجزنا عن إخضاع الجزائريين، فلنرْم بهم بعيدًا كالوحوش الضّارية التي تُطرَد من الأماكن المأهولة. علينا أن ندفعَ بهم أمامنا، مع تقدّم العمران، حتى نرميهم في الصّحراء، ونُبقيهم هناك إلى الأبد". رسالةُ زوجة الجنرال "برو" وانتشرت المُضاربة بأراض القبائل السلِيبة بين الضُّباط الفرنسيين. قالت زوجة الجنرال "برو"، في خطاب أرسلته إلى أحد أصدقائها سنة 1834، "تسألُني أيها الصّديق عمّا وصلتْ إليه أعمال الاستعمار هنا، والحقّ أنها اقتصرت حتى الآن على الاستيلاء والمُضاربة بالمُمتلكات. النّاس يُضاربون على الأراضي كما يُضاربون في الأسواق المالية على النّبيذ والبُنّ. وقد تُدهَشُ إذا قلتُ لك أن أراضي "بليدة" قد بِيعتْ إلى آلاف الأفراد.. ويجدُ المُشترون مَسَرَّةً في تركيب نظّاراتهم المُقربِّة في أعلى الهضاب على بُعد ثلاثة فراسِخ من "بليدة"، لتنعم أعْيُنُهم بمشاهدة الأراضي التي دفعوا ثمنها قبل أن يستولي الجيشُ عليها، ويتوجّه الكثيرون إلى مكان التوثيق ويشترون مساحات على أساس الوعود فقط". وهكذا نجد أن سهْل "متّيجة" وهو مُستنقع يبلغ طوله خمسة وعشرين فرسخًا وعرضه نحْو اثنيْ عشرة فرسحًا، قد بِيع عن آخره مُقدّمًا، ولم يبْق للمشترين الجُدُد إلاّ أن يدفعونا إلى التقدّم نحوه، فنقتُل أو نُقتَل في سبيل الحصول عليه". سِرُّ الخصوبة في أيْدي الفلاّح لكن بعد مُدّة اكتشف الفرنسيون أنَّ هذه الوسيلة لم تُجْد مع صلابة الفلاّحين، مع هذا العُنصر الدينامي المُنتِج، فبعد أن يُطرَد الفلاّحون من أراضهم، يتوجّهون إلى مناطق أخرى يستقرّون بها ويستصلحون بُورَها ويستثمرونها بطريقتهم الجماعية التَعاونية، ثم سُرعان ما يتّخذونها قاعدةً للهجوم على جيش الاحتلال من جديد. لقد تكلّم "مالارمي" عن جماعات في شرق محافظة "قسنطينة" وُقِّعت ضدّهم عقوبات، قال: "ثم أعاد أولاد يحيى تنظيم شملهم.. وسنعملُ على إفقارهم، لأن ذلك هو الضّمان الوحيد بالنسبة للمستقبل". التّشريع.. سلاحٌ للقضاء على الملكية الجماعية والحلّ الثاني الذي توصّل إليه الفرنسيون لإخماد ثورات الفلاّحين هو استعمال التّشريع كسلاح يسيرُ جنْبًا إلى جنب مع عمليات اغتصاب الأرض من الفلاّحين. ففي 31 جويلية 1872 صدَر أمرٌ يضُمّ إلى أملاك الدّولة مجموعَ الأراضي الخالية من العمران والتي لا يستطيع أصاحبُها تقديم سندات تُثبتُ ملكيتَهم لها قبل جويلية 1830، وبطبيعة الحال كانت الملكية الجماعية هي السائدة آنذاك، وهي لا تحتاج إلى سندات يحصل عليها الفلاّحون لتُثبت ملكيتهم للأرض. وما دامت الملكية الجماعية، ما دامت الأرضُ ملكًا للقبيلة وللفرد حق الاستثمار فقط وليس له حقّ البيع، وهو نظامٌ تعاونيٌّ يخلقُ جوًّا من الانسجام والتّعاون بين أفراد القبيلة، ويجعل منهم كتلةً متِينةً مُنسجمةً.. ما دام هذا النظام هو السّبب الرئيسي في قوة جبهة الفلاحين وتماسكها، فلْتُستنّ قوانينٌ تستهدفُ تفتيت هذا النظام الجماعي، وتُمزّق هذا التّكتّل المُنسجم، وتَقْلِب كتلة القبيلة أو القبائل المُنسجِمة إلى مجموعة أُسَر وأفراد مُتشاحِنين مُتخاصِمين، بالقضاء على الملكية الجماعية، وبتوزيع أرض القبائل بين أُسَرها وأفرادها ثم إجازة بيعها.. وصدَر قانونٌ بالاستيلاء على الأرض الجماعية هذا نصُّه: "أليْست الأراضي الشائعة التي تملكها القبيلة ملكيّةً جماعيةً، قبْل كل شيء ملكٌ لله، وإذن هي ملكٌ للبابليك (البايلك) أو الدّولة وهي تُمثّل الله على الأرض، أليستْ القبائل تملك هذه الأرض ملكيةً جماعيةً لاستيلاء العرب عليها بالقوة من قبْل؟ ومن جهة أخرى، ألاَ يجب أن تُنتج أكثرَ من إنتاجها وهي على هذه الحال؟ إذًا فلنعتبر القبائلَ مستأجرةً لهذه الأرض من الدّولة، وليس هناك ما يمنع الدّولة من أن تُقسّمها وتُديرها إدارةً حسنةً وتُصدِر فيها سندات ملكية". قانون 1873.. إعدامٌ للقبيلة إلاَّ أن أخطر قانون على جبهة الفلاّحين، كان قانون 1873، وتبدو لنا فظاعة هذا القانون من خلال تصريح لأحد فلاّحي قبيلة "أولاد رشّاش" عندما قال مُعلّقًا على تطبيق هذا القانون "إن الفرنسيين قد تغلّبوا في حقول السبيخة - أراضي هذه القبيلة التي طُرِدت منها – وقتلوا شبابنا وفرضوا غرامات.. لكن كل هذا هيّنٌ ولا يُعَدُّ شيئًا، والجراح لا بدّ لها أن تلتئم.. لكن إنشاء الممتلكات الفردية الخاصة، والتّرخيص لكل فرد ببيع الأراضي التي تكون من نصيبه بعد اقتسامها، معناه إصدار قانون بإعدام القبيلة. فبعد عشرين عامًا من بدء تنفيذ هذا القانون، سيكون "أولاد رشّاش" قد انقرضوا عن آخرهم". إن قائل هذا الكلام ليس هو بِخَبير اقتصادي ولا بِفَيلسوف اجتماعي، وإنّما هو فلاّحٌ جزائريٌّ بسيطٌ تعوَّد على الحياة الجماعية ورأى أنها الوحيدة التي حافظتْ على الفلاّحين من الانقراض أمام سياسة الإبادة والتّجويع التي اتّبعها الفرنسيون، وهي وحدها التي ستجعلهم يستردّون قِواهم ثم يأخذون أرضهم من أيدي المُحتلّين.