2025.06.12
د. حنفي بن عيسى.. القراءةُ النَّفسيَّةُ للتَّاريخ الثَّوري الجزائري (الجزء الثالث)
نوستالجيا

د. حنفي بن عيسى.. القراءةُ النَّفسيَّةُ للتَّاريخ الثَّوري الجزائري (الجزء الثالث)


لم يدَّخر الاستعمارُ الفرنسي وسيلةً في الحرب النَّفسيَّة ضدَّ الشعب الجزائريِّ، من ذلك أنَّه وضَع أحاديث تخدُم مصالحه وتزعمُ بدوام سيطرة فرنسا على الجزائر، ثم نسَبها إلى النبيٍّ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، وكلَّف أحدَ الحُجَّاج بأنْ يَضعها "تحت حجارة، عند ضريح محمد". وهذه الفكرة الخبيثة اعتمَد فيها الاستعمارُ على أحاديث المُنجِّمين الذين زعموا بأنَّ السيطرةَ الاستعماريَّةَ الكاملة على الجزائر إذا لم تتحقَّق خلال قرنٍ من الزَّمان فإنَّ "الفردوس" سيَضيع من فرنسا. ومن مظاهر الحرب النفسيَّة الأخرى هي تهويلُ الأحداث في الدِّعاية الحربيَّة، فقد عَمَد الاستعمارُ إلى تصوير هدْمِ دُكَّانٍ صغيرٍ من الحجر والطّين على أنَّه هدْمٌ لمركزٍ عسكريٍّ جزائريٍّ، إضافةً إلى اخْتلاق المعارك الوهْمِيَّةِ ونسْج حكاياتٍ حول بطولات الجنود فيها، وقد كَتَب أحد جنود جيش الاحتلال قائلا: "لقد ضاعتْ مِنَّا الأخلاقُ والشِّيمُ وأصْبحنا إلى حدٍّ ما، من ذوي الادِّعاء، إذْ كثيرًا ما سمعتُ عن طريق البلاغات، بانتصاراتٍ كُبرى في معارك لا أعتقد أنَّها وَقعَتْ أبدًا". جاء في كِتاب القُبطان "شارل ريشار": "قرنٌ من الزمان! إنَّه أمَدٌ طويل. ولكننا إذا عرفنا كيف نتصرَّف خلال هذا القرن، فسوف نُخْمِد الثوراتَ نهائِيًّا في منطقة التَّلِّ، ولن يخطر ببال الأهالي العرب المتواجدون آنذاك، ولن يكون في مَقدورهم أنْ يطردوا المُعمِّرين الفرنسيين الذين سوف ينتشرون في كل مكان". يُفهَم من هذه العبارة أنَّ استقدام المُعمِّرين من مختلف أنحاء أوروبا ليستَوْطنوا في الجزائر ويتملَّكوا فيها، هو مشروعٌ بُنِيَ على "رؤية" المُنجِّمين" بأنَّ الاستعمارَ كان أمامه مائةُ سنةٍ ليطْمس هويَّة الجزائر و"يُفرْنِسَ" أهلها ويجعلها قطعةً أوروبيَّةً في إفريقيا.. إنَّ التطوُّر العلمي الغربي: الأوروبي والأمريكي، ومستوى رٌقِيِّه في مظاهر التمدُّن ووسائل الحياة، يُخْفي خلفه حفاظ هذا الغرب على اعتماده على التَّنجيم والمُنجِّمين في بسْط سيطرته على العالم، وتدمير الأوطان والإنسان على خارطة الأمَّة العربيَّة. وإنْ يكن الاستعمارُ الفرنسي قد اعتمدَ على "رؤية" المُنجَّمين في جرائم الإبادة والتَّعذيب والتَّدمير ضدَّ الجزائر وشعبها، فإنَّ الأمر قد تكرَّر خلال العُقود الثلاثة الماضية في بلدان عربيَّةٍ أخرى، وما زال مُستمِرًّا في الحرب على غزَّة وفلسطين.. وما زالتْ الحربُ النفسيَّةُ متواصلةً ضدَّ الفلسطينيين خاصة والشعوب العربيَّة عامَّة لحَبْسِها في زنازين اليأس والانهزاميَّة والرَّهبة من قوَّة هذا الغرب الذي لا يُقهر.. الغربُ "المُحضِّر" الذي يعتمد على التَّنجيم والمُنجِّمين. وإذا كانت الحربُ النَّفسيةُ، قبْل قرنيْن من الزَّمان، قد ارتبطتْ بقترة الحرب، واعتمدَتْ على الأوراق والصُّور والمطبعة ومُروِّجي الأخبار والحكايات في المقاهي والأسواق الشعبيَّة.. فإنَّ الحربَ النَّفسيةَ اليوم مُعلنةٌ على مَدار اللَّيل والنَّهار، وفي كلِّ ظروف الحرب والسِّلم، من خلال وسائل تكنولوجيا الاتصال والتواصل: فضائيات، إنترنت.. وارتكازها على الذَّكاء الاصطناعي في تَصْنيع الأكاذيب والدِّعاية المُزيَّفة، إضافةً التَّنجيم الذي لا يبدو أنَّ الغربَ سيتخلَّصُ منه رغم ما بلَغه من تطوُّرٍ علميٍّ وتقدُّمٍ تكنولوجي. إنَّ شعوب العالم الثالث عمومًا، والشُّعوب العربيَّةِ خاصةً، واقعةٌ تحت تأثير الحروب النَّفسيَّة المُعلنة وغير المُعلنةِ. وإذا لم تتفطَّن إلى هذا الأمر، فإنَّها ستكون ضحيَّةَ الشُّعور بالانهزاميَّة وفُقْدان الأمل في المُستقبل، وهي بذلك تَجْني على أوطانها وكيانها ووجودها. النصٌّ الثَّامن: مَصلحة العمل النَّفساني إنَّ الاستحواذَ على العقول ما لبث أنْ أصبح من الأهداف التي حدَّدتها لنفسها مصلحةُ العمل النَّفساني، فأعدَّتْ لها الوسائل الكفيلة بتحقيقها، ومن تلك الوسائل: اختلاقُ الأحاديث النَّبوِيَّة، وتلفيق الأقوال المَأثورة التي تتنبأ لفرنسا بدوام السيطرة، مع تكليف أحد الحُجَّاج بوضع تلك الأحاديث والأقوال خِفْيةً "تحت حجارة، عند ضريح محمد". والغاية من ذلك هو أنْ يستأخر المُستعمِرون مِقدار قرْنٍ، الأجلُ الذي حدَّده المُنجِّمون لبقاء الاستعمار في الجزائر. وعندما يفكِّر القبطان "ريشار" في الجزائر "الأوروبية" المُتخلِّصة من كابوس الثَّورات، فإنَّه لا يملك نفسَه من أنْ يشعر بالسُّرور وبالشوق إلى ذلك اليوم الموعود. ومن يقرأ کتابَ "ريشار" يُحِسُّ بأنَّ هذا الشخص المُتَطاول قد تملَّكه الخوفُ من الثورات الشعبية: "قرنٌ من الزمان! إنَّه أمَدٌ طويل. ولكننا إذا عرفنا كيف نتصرَّف خلال هذا القرن، فسوف نُخمِد الثوراتَ نهائِيًّا في منطقة التَّلِّ، ولن يخطر ببال الأهالي العرب المتواجدون آنذاك، ولن يكون في مَقدورهم أنْ يطردوا المُعمِّرين الفرنسيين الذين سوف ينتشرون في كل مكان". على أنَّ الفكرةَ المُثيرة للاستغراب في الخطَّة التي وضعها هذا المُتخرِّج من المدرسة المتعددة التقنيات، المُتشبِّع بالعلوم الدَّقيقة، والذي كانت كلمته مَسموعةً لدى الضُّباط ورجال الإدارة الفرنسية، هذه الفكرة مُتمثِّلةً في النتيجة التي توصَّل إليها: "ونحن كذلك في حاجة إلى جماعة من الدراويش، ندفع لهم مكافآت شهرية، ونُوعز إليهم بالتَّكلم في مختلف المناسبات، ويكون كلامهم دائما في مصلحتنا". إنَّ هذه التَّوصِيَة كان لها أثرٌ كبير في اتجاه السلطة الاستعمارية إلى الاستعانة بطائفة من المرابطين ومن الطرقيين لخدمة أغراضها. النصُّ التَّاسع: البلاغات العسكرية والدِّعاية الإعلامية الكاذبة ومن هذا القبيل أيضًا، أنَّ المَيْل إلى تزييف الحقائق وتشويهها بالخرافات، وإظهار أبْسط الأحداث والوقائع العسكرية بمَظْهر الانتصارات الباهرة، هذا المَيْل خلَقَ نوْعًا من البطولة الزائفة، والمقصود هنا هو بلاغات الانتصار الصادرة عن الجيش الفرنسي. وقد اسْتَفحل الأمرُ حتى أصبح من الأشياء المُضحكة أحيانًا والمُبكِيَة أحيانًا أخرى. فهناك شهاداتٌ كثيرةٌ صادرةٌ عن الجيش الفرنسي نفسه، وأدْلى بها ضُباطٌ كانوا مُتذمِّرين مِمَّا يسمعونه كل يوم من أباطيل وأكاذيب. يقول أحد هؤلاء: "إنَّه شيءٌ مُؤسِفٌ أنْ تصدر أمثال هذه التقارير العسكرية الباطلة، وستكون - إذا لم نَتدارك الموضوعَ - سببًا في إلحاق العار والشَّنار بفرنسا. فكلَّما استولى الجيشُ على دُكَّان، أو قام بِمُناوشة صغيرة مع العدو، أو خاض معركة (وبالأحرى شبه معركة)، أصبح كل ذلك موضوع حكايات مضخمة، فالأمرُ يبعث على الأسف، ولا بد من الإقرار بالحقيقة التالية، وهي أنَّ البَلاغ العسكري استحال إلى جهاز من أجهزة الدعاية الإعلامية للجيش". ويُضيف غيره مُتهكِّما: "لقد ضاعتْ مِنَّا الأخلاقُ والشِّيمُ وأصبحنا إلى حدٍّ ما، من ذوي الادِّعاء، إذْ كثيرًا ما سمعتُ عن طريق البلاغات، بانتصارات كُبرى في معارك لا أعتقد أنَّها وَقعَتْ أبدًا". النصُّ العاشِر: الوطنِيَّة الشَّعبِيَّة الريفِيَّة ظهرتْ الوطنيةُ الشعبية بخصائصها المُمَيَّزة في عِدَّة مناسبات. سنة 1844، سُئِل رؤساء منطقة القبائل لماذا دافعوا بضراوة عن قراهم ضدَّ جيشٍ قادَه "بيجو" بنفسه، فأجابوا: "كُنَّا مُستعدِّين أنْ نستسلم بعدما شاهدنا ذلك الجيش الجرَّار، إلاَّ أنَّ نساءَنا اللواتي ساءهُنَّ مَيْلُنا إلى طلَب الصُّلح، أقْسَمنَ اليَمِين على الخروج عن طاعتنا إذا لم نُدافع عن أنفسنا". وجاء في هذا الكتاب نفسه الذي اقْتبسنا منه الفقرةَ السابقة، بأنَّ طُلَّاب زاوية ريفِيَّة تقع في ناحية جامع الصِّهريج، وهي زاوية سيدي عبد الرحمن، شكَّلوا فيما بينهم فرقةً من الفدائِيِّين، وأنَّ عددهم بلغ 600 أو 700 طالب، "وكلُّهم يُجيدون القراءةَ والكتابةَ، ومُدرَّبون على القتال، ومُسلَّحون بالبنادق والسُّيوف الطويلة والعِصِيِّ الحديدِيَّة". النص الحادي عشر: اسْتمالةُ أعْوان الأمير من طرَف الفرنسيين وقد عملتْ السُّلطاتْ الاستعمارية كل ما في وسْعها لاستمالة خلفاء الأمير عبد القادر إلى صفِّها، ومن ذلك أنَّ المارشال "بيجو" عرَض على "ابن علال" في عام 1842 أنْ يُعيد إليه جميعَ أملاكِه، وأنْ تُخصِّص له الدولة مَعاشًا كبيرًا إذا ما وافق أنْ يستسلم لفرنسا.  وهذا ما كتبه "شانغارنيي" في مذكراته: "عرَض المارشال بيجو، في أواخر شهر فبراير من عام 1842، على الخليفة ابن علال، وهو أكثر خلفاء الأمير دهاءً وقوةً، عرض عليه مبلغ 500,000 فرنك، وإعادة أملاكه الواسعة إليه، ومعاشا سنويًّا قدره 50.000 فرنك، على شرْط أنْ يستسلم لفرنسا، وأنْ يُقيم بمدينة الجزائر أو القليعة، مَسقط رأس عائلته ذات الجاه والسلطان. وقد وصَلَنا جوابُ هذا الخصْم الأَنُوف في 12 مارس حينما كُنَّا نستعِدُّ للقيام بنزهةٍ طويلة في الغابة الجميلة التي تحيط بالبيلدة، وطلبْنَا من التُّرجُمان أنْ يُعِيد قراءَتَه على مَسامِعنا مرَّتيْن، فارْتَسم القسمُ الأولُ من جوابه في ذاكرتي، وهذا قوله: "ليكن في علمكَ أنَّني أحْكُم وأقْتل وأعْفو في منطقة تمتد من جبل دخلة إلى وادي فضة. وماذا تَعرِض عليَّ مُقابل هذا الحكم الذي أمارسه لإعلاء كلمة الله، وفي خدمة سيدي السلطان عبد القادر؟ أراك تَعرِض عليَّ أملاكي، تلك الأملاك التي سوف أستعيدها بالبارود، مثلما فقدتها بالبارود، وتعرض عليَّ المال والخيانة..". وكان "ابن علال"، الذي ولد بناحية القليعة، قد انضَّم منذ شبابه إلى صفِّ الأمير عبد القادر، فعَيَّنه خليفة له في مليانة، وعندما سقطت هذه المدينة بِيَد الفرنسيين صار ابن علال يقاتل بكتائبه ما بين سهل متيجة والحدود المغربية، إلى أنْ مات شهيدًا في معركة وقعتْ في 1843، ولم يكنْ عمره آنذاك يتجاوز 29 سنة. وقد أحدثتْ وفاتُه أثرًا كبيرًا في نفوس الأعداء، حتى أنَّهم أدُّوا له تحِيَّة الأبطال، ثم قطعوا رأسه، وعلقوه على أسوار مدينة مليانة.