المخاض العسير الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ ملحمة طوفان الأقصى، أعاد "الصراع العربي الإسرائيلي" إلى محطة صفره الأولى، حيث ساحة المعركة الأم تتعلّق بحرب وجودية، لا تحتمل لاعبين ولا ضفتين، فقط، هي معركة سلاحها كما عنوانها، إما نحن أو هُم، لكن، بين تلك الحقيقة المتجلية التي ألغت كلّ ما سبقها من "سفسطة" سياسية ومخططات "تعايش" وإستراتيجيات تنويم، وبين واقع "الاستخفاف" والتلاعب بالشعب الفلسطيني بشكل خاص، وبشعوب الأمة العربية بشكل عام، فإنّ ما رمت به الأبواق الإسرائيلية من خلال وزيرة الاستيطان الإسرائيلي "أوريت ستروك" أو وزير الأمن القومي "إيتمار بن غفير"، عن رفضهما أصلا لوجود مسمّى شعب ووطن وأرض فلسطينية، عَرّت، أي تلك الأبواق، أبعاد المعركة الجارية فصول محرقتها اليوم، والتي لم تعد تتعلّق بالقضاء على المقاومة فقط، ولكن باجتثاث كل مُسمّى للحلم وللهوية والكينونة الفلسطينية والعربية للأراضي المقدّسة. وبعبارة أخرى، فإنّ حرب الشتات الإسرائيلي اليوم، حرب وجود وليست حرب حدود، كما أعلنها وكرّرها وصفع بها نتنياهو العالم مرة وألف مرة، وهو ما يعني أنّ حلقة الصراع الدائرة اليوم، أخذت لها صورتها ووجهها الحقيقي، على الأقل على مستوى الكيان الصهيوني، الذي دخلها من ساعة الطوفان والصدام الأولى، تحت راية "إما نحن أو هُم"، فيما في ضفة العروش الأعرابية، الغارقة في سبات وسياط حكامها، فإنّ فلسطين الأمة كقضية، تحوّلت إلى معركة حدودية حول مرور "الغذاء" من عدمه.. المغيب اليوم في ساحة صراع "إسرائيل" الوجودي وصراعنا وصراع العالم "الغذائي" مع كيفية إدخال أكياس الدقيق والحليب للمحاصرين بين موت الرصاص أو موت الجوع ، المغيب في تلك "المهزلة"، أنّ نتنياهو ومن خلال "غرفة" الخادم الرئيسي التي تدير المشهد برمّته من وراء وكواليس البيت الأبيض، وصل إلى هدفه الرئيسي بتحويل قضية أرض مستلبة وشعب مرهون وصلاة مصادرة بالأقصى إلى مجرّد قضية "إنسانية" تتعلّق ببرد الأطفال وجوعهم وحفاهم الذين دفعوهم إلى استهلاك العشب وكذا لحوم الحمير والقطط والكلاب، وذلك طبعا، وسط تباكي وتأثر وحتى ثورة شعوب أوروبية ومنظمات حقوقية وهيئات أممية على الحالة اللاإنسانية التي يعيشها أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزة، والمنسي هنا في معادلة البكاء الإنساني، أنّ الحرب التي تخوضها "إسرائيل" بمفهومها الوجودي، الذي لا يقبل إلا رقما واحدا من اثنين، رسّخت كما برمجت الوعي العام للمجتمع الدولي، على كونها معركة إنسانية، لإدخال المساعدات لمن هُم مشاريع قبور مؤجّلة، تنتظر فقط حصّتها من الرصاص قبل الأكل و"الردم".. أين شعوب العالم العربي؟ وكيف تمت مراوغة العقل الجمعي؟ ومن أين لنتنياهو بتلك الجرأة في مواصلة مذابحه رغم الاستنكار الدولي؟ وهل حقا أنّ "إسرائيل" أحرقت صورتها، وغامرت بسبعين عاما من دعاية "التطبيع" مع العالم، قبل العرب، نتيجة نزوة انتقام؟ الحقيقة المغيبة وسط لعبة "التعمية" الممنهجة، أنّ مخابر البرمجة والتأطير الذهني، خدعت العالم كلّه، حين استطاعت بمكر ودهاء وتخطيط مسبق، أن تُقيل الشعوب العربية من المشهد وتسلب منها حتّى حقها في الصراخ وملء الشوارع بالهتافات والتنديد، وذلك بعد أن جعلت من قضية فلسطين كقضية أمّة وعقيدة وأرض محتلة، قضية تباكي "إنساني" بساحة أوروبية أو شارع أمريكي أو كاميرا تلفزيونية، تنقل دموع ودماء وجوع الأطفال، والاستفسار العالق في "المخادعة" البكائية الكبرى، ليس فقط، أين صوت الحكام والأنظمة الأعرابية، ولكن كيف تمت إقالة حتى شعوب الأمة ومصادرة صوتها، لتصبح قضية فلسطين، قبل غزة، مجرّد "روتين" وخبر يومي على قناة فضائية، لا يستدعي حتى توقّفا، فما بالك عن موقف يسجّله تاريخ الصراخ، على أنّ فلسطين حتى وإن خذلها حكام سايكس بيكو، فإنّ شعلة الثورة داخل الوجدان العربي، انتصرت لها كأضعف "تخبّط" وإيمان ! ما أرحم الغرب وما أسفه "العرب" ! أكبر سذاجة وقع فيها العالم العربي المرهونة عقول شعوبه بمعارك غلاء الرغيف وسعر الحليب ومكوّنات "الملوخية"، أنّ المجاعة التي لم تقايض بها غزة عزّتها، قايضت بها تلك الشعوب العربية المخدّرة بلقاح "الرغيف والعدس"، وجودها ومواقفها وتاريخها، لو منه فالمجاعة ليست غزة تبحث عن قطعة من رغيف تسكت به أمعاء أطفالها، كما نتوهم ونظن، ولكنها عالم عربي سجنه "رغيف"، والأولى إنسانيا في هكذا مجاعة ذهنية، أن يوجّه التعاطف الغربي والأممي في حالته الإنسانية تعاطفه، مع الشعوب العربية المحاصرة برغيف، وليس مع غزة، ربطت على بطن صغارها بالحجارة، لتقول للعالم، أنّ قضيتها ليست مع "الحمص والفوم والعدس" ولكنها مع عالم متآمر بعربه وعجمه، أخرج ملحمة طوفان أقصى عن سياق حرية "شعب" ثائر، ليضعها في سياق إنساني عنوانه رغيف و"سلة" مساعدات غذائية، مطلوب من نتنياهو، أن يسمح بمرورها، لدواع إنسانية.. القضية هنا تتعلّق بالوعي "المسلوب"، والشعوب العربية التي أسوار سجنها "رغيف" هو من يؤطّر حياتها ومواقف أجيالها المغيبة، وقعت في المصيدة "الإنسانية" التي سلبتها كل معنى لوجودها، والنتيجة أنّ الشعوب الأوروبية والأمريكية التي تعجّ شوارعها بالمحتجين على "إسرائيل" بسبب منعها للرغيف، وليس بسبب احتلال السبعين عاما، ليست في النهاية إلا جزءا من مخطط "قرصنة" إنسانية، لقضية مقدّسة، المفترض أن لا تنام شوارع العرب لأجلها ولو بالصراخ كأضعف الإيمان، فإذا بالمفارقة العجيبة، أن تُقرصن شوارع أوروبا وأمريكا، حتى هذا الشرف البسيط، وتجعل منه حصانها الإنساني لإفراغ القضية الأم من صراعها الوجودي إلى صراع غذائي، لو أنّ نتنياهو تكرّم وخضع إلى نداء رغيفه الأممي وسمح بمروره، فسيكون "بطلا إنسانيا" في نظر ذات العالم الثائر ضدّ تجويعه، وليس ضدّ مذابحه المستمرة، وذلك في مفارقة إنسانية البرمجة والتوجيه مختزلها، أنّ عالم اليوم كلّه ينادي، بإنقاذ غزة من "الجوع" وليس من "الذبح"! لكي نفهم أبعاد مسمّى التعاطف "الإنساني" الذي تشهده شوارع أوروبا وأمريكا تحت شعارات "لا للتجويع"، يجب أن ندرك ماهية "اللعبة" من أساسها، ويكفي في هذه الحالة، أن نتساءل، أين صوت الشارع العربي مما يجري في غزة ورفح من مذابح وتهجير وتطهير عرقي؟ ليكون الجواب البسيط، أنّ الذي حصر فلسطين بقدسها وأقصاها وكل شبر فيها في صراع فصيل بغزة، هو من يتلاعب اليوم بالعقل العالمي، بعد أن أخرج ملحمة طوفان الأقصى من فحواها "التحرّري" والثوري ليجعل من منها لعبة "رغيف" عالمي متلاعب به في فضاء الإنسانية، أو في فضاء، الشجرة التي أخفت غابة الصراع الوجودي والمتعلّق أساسا، بحرية شعب وحرية أرض ولعنة احتلال غاشم.. للأسف، اللعبة القذرة التي تمّ تسويقها الآن، هي إنسانية الشعوب الأوروبية والأمريكية، يقابلها سفاهة عربية، كانت مقتصرة على الحكام والأنظمة العربية، فأضحت "شعوبا" تمّ سلب قضيتها الأم منها، ليرمي بغوغائها إلى مزبلة التاريخ، والسبب هو ذلك الموقف المتفرج من أحداث تتعلق بوجودها، لم تتم فقط مصادرتها منها من طرف شعوب المعمورة، ولكنها صادرت حتى مفهوم معركتها وصراعها، فيما العرب شعوبا وأنظمة، هامش معدوم، في معادلة، "إنّ لفلسطين رب يحميها". آخر الكلام، إذا كان إجرام نتنياهو، إبادة ممنهجة لسكان غزة، فإنّ تخلي الشارع العربي عن دوره حتى في التنديد لصالح الشارع الغربي، جريمة تتجاوز جرائم نتنياهو، جريمة في حق أمة، لأنّ الذي يحدث ونراه الآن، خيانة في حقّ الأجيال القادمة، التي ستجد قضية فلسطين، مجرّد قضية "إنسانية" في الشوارع الأوروبية والأمريكية، تتعلّق بحق "يتامى" المذبحة في رغيف وليست بحق أمة من محيط شعوبها إلى خليج "شعابها"، في فلسطين وقدس وصلاة أقصى مصادرة إلى إشعار وأمة وسجادة أخرى.