توحيد العبادات والأعياد الدينيَّة من القضايا التي واجهت الأمة العربيَّة والإسلاميَّة وتتجدَّد في كل حين، ويصل الخلاف فيها إلى حدِّ "تكفير" طرفٍ لطرفٍ آخر. وشيخنا الجليل "أحمد حمَّاني" (1915 – 1996) من علماء الجزائر، بل هو من أهمّ كبار علماء المالكيَّة في العصر الحديث.. كان له رأيٌ في الحساب الهجري على أساس الرؤية العلميَّة، وقضيَّة الاضطراب في إثبات دخول الشهور القمريَّة.. وهذا مقالٌ نشره شيخنا بمجلة "الأصالة" الجزائرية في شهر جانفي 1973، وتعيد جريدة "الأيام نيوز" نشره من أجل الوقوف على ثراء تراثنا الفقهي، والسِّعة العلميَّة العميقة والفاعلة لمرجعياتنا الدينيَّة الوطنيَّة وأصالتها واقتدارها في تحمُّل مسؤولياتها ومواجهة ومعالجة القضايا الفقهيَّة التي كانت تعترض الجزائر خاصة والأمة العربيّة والإسلاميَّة عامَّة.. فمثل هذه القضايا كانت وما تزال منفذًا يتسلَّل منه الفكر الديني الوافد الذي يمكنه التَّأثير حتى على الوحدة الروحيَّة للشعب الجزائري.. إثبات دخول الشّهور القمريَّة.. مُشكلةٌ قديمة مشكلة الاضطراب في إثبات دخول الشّهور القمريَّة، وما تسبِّبه من خلل في حياة الأمَّة الدينيَّة والاجتماعيَّة، ومن تفرقة في صفوف المسلمين - حتى في القُطر الواحد - مشكلةٌ قديمةٌ. وكانت الإدارة الاستعماريَّة المهيمنة على مقدرات بلادنا، تنتهزها فرصةً لتزيد في شدَّة الخلاف، وتعميق الهاوية، وتوليد أسباب الإحن والشِّقاق. وبعد زوال الكابوس الاستعماري عن بلادنا وعن أغلب الأقطار الإسلامية، التي أصبحت تملك إرادتها - أحسَّ المسلمون - في جميع أقطارهم، وعلى اختلاف مذاهبهم، بضرورة معالجة هذا الاضطراب، وإزالة هذا الخلل الذي أصبح يمتدُّ إلى حياتهم الإدارية، والسياسية، والاقتصادية، بل أصبح يهدِّد نفس التاريخ الهجري والتَّقويم القمري بزواله والإعراض عن استعماله. ومن أنكر هذا فقد قال: إنَّ الصُّبح ليل! لقد أصبحت الحكومات الإسلامية تبدي تساؤلها، وتلحُّ أن تجد لها مَخرجًا. واهتمَّ العلماء بالأمر، وأخذ كلٌّ في نطاق اختصاصه يحاول أن يشارك في إيجاد حلٍّ للقضيَّة. وعلاج شافٍ لهذا الدَّاء. أمَّا بالنسبة إلينا (في الجزائر) فقد كان الأمر يحتاج إلى دراسة وجَراءة حازمة، وخطوة حاسمة. وهذا ما أقدمت عليه وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينيَّة (آنذاك). ولقد كان المسؤولون يعلمون أنَّ ما اتَّخذوه من إجراءٍ في الموضوع لا بدَّ أن يثير عواطف بعض الناس، من الذين حسُنت نيَّتهم، وزكت نفوسهم، ولكنهم فُطروا على التَّقليد الأعمى، فهم لا يريدون به بديلاً. أو من الذين هم أمِّيون لا يعلمون الكتابَ إلاَّ أماني وإن هم إلاَّ يظنَّون، فمنهم الجاهلون المعذورون، ومنهم المعاندون المغرضون المتفنِّنون بالإرجاف في المدينة. ولقد كان الأمر كما احتُسِب، فالجمهور المسلم اقتنع بما أدلِيَ إليه، ورضى بما عُرض عليه، واطمأنّ لإجراءٍ اتَّخذه من حمَّلهم الأمانةَ الثقيلة فحمَلوها مُعاهدين الله أن يثبتوا ويصبروا، وألاَّ يُثنيهم عن الخدمة الصادقة للأمَّة المسلمة والدين الحنيف والشَّريعة المُطهَّرة إرجافٌ من مُرجفٍ في المدينة، ولا شتم سفيهٍ ولا قذف بذيء ولا خربشة مخربش ولا إرعاد مرعد. لقد ارتاح العلماء والعقلاء لزوال عهدِ الاضطراب وإقبال عهد الثَّبات والاستقرار، وهم يرجِّحون أن يعمَّ هذا الأمر جميعَ بلاد المسلمين ويتَّحدوا في عبادتهم وأعيادهم، ولعلَّ هذا يكون بدايةً لوحدة تعمُّ جميع شؤونهم. الحساب الفلكي النُّجومي.. قولٌ قديم معروف أمَّا بعض "المتعالِمين" فقد ظنَّ أنَّ هذا القرار خرقٌ لإجماعٍ سابقٍ من علماء المسلمين وبدعة جديدة في الدين، وأنَّ مَن جاء به قد جاء شيئًا إدًّا، يكاد السَّماوات يتفطَّرن منه، وتنشقّ الأرض وتخرُّ له الجبال هدًّا. ولم يعلم هؤلاء أنَّ القول بالعمل بالحساب الفلكي النُّجومي واعتماده - إذا غمَّ الهلال - قولٌ قديم معروف، حَكته كتبُ جميع المذاهب الإسلامية القديمة وذكرته، ولم تبدِّع أصحابَه ولا كفَّرتهم، وغاية ما ذكرته أنَّ المشهور خلافه. أمَّا العلماء المُحدثون فإنَّهم بحثوا الأمرَ من جديد، وأتوا فيه حقًّا بالجديد المفيد، وهذا ما سنعرض إليه في كلمتنا الآتية: علماء التَّابعين لعل أوَّل من عُرف عنه هذا القول واشتهر به "مطرف بن عبد الله بن الشخير" وهو من كبار التَّابعين، وكلُّ من تكَّلم في الموضوع، أشار إلى مذهبه وقوله. ومِمَّن نقل قوله من المالكيَّة "القرطبي"، والقاضي "ابن رشد"، وغيرهما. ومن الشافعيَّة "النَّووي" في شرح مسلم. ومن الزيديَّة "الشوكاني"، ومن الإباضية الأستاذ الإمام "أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي الإباضي" في كتابه "القواعد" إذ قال: ورُوي عن مطرف ابن الشجري وكان من التَّابعين، أنَّه إذا غمَّ الهلال، اعتُبِر الحساب بسير الشمس والقمر، ومثله رُوي عن الشافعي...!" الإمام الشَّافعي ولقد اشتهر بهذا القول المذهب الشافعي، لأنَّه أحد الأقوال المنسوبة إلى الإمام الشافعي نفسه، وإن شهَر علماءُ الشافعيَّة خلافَه. ونقل هذا القول عن الشافعي أصحابُه وأصحاب المذاهب الأخرى. ومن النّاقلين له الإمام "الجيطالي الإباضي" في كتابه المذكور آنفًا إذ قال عقب نقلِ مذهب "مطرف": "ومثله رُوي عن الشافعي أنَّه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنُّجوم ومَنازل القمر، ثم تبيَّن له من قبل ذلك أنَّ الهلال مرئيٌّ وقد غمَّ، فإنَّه يعتقد الصَّوم ويُجزيه".. هذا القول من الشافعي، وإن شهَر المتأخِّرون خلافَه، فإنَّ فيهم علماء محقِّقين إثباتًا لا يتطرَّق الشك إلى ديانتهم وأمانتهم وكفاءتهم العلمية، نصروا هذا المذهب ودعَّموه بالحُجج الواضحة. عند المالكيَّة وهو قولٌ موجود في الفقه المالكي، معروفٌ لعلمائه، حكاه "شهاب الدين القرافي" - وهو ثقة في روايته وعلمه، لا يحوم الشك حول أمانته ودیانته - وإن شهَر المالكيّة خلافه. قال "القرافي" في كتابه الجليل "الفروق": "الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات، وبين قاعدة الأهلَّة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب، وفيه قولان عندنا، وعند الشافعيَّة رحمهم الله تعالى، والمشهور في المذهبَين عدم اعتبار الحساب". والشَّاهد، في قوله "فيه قولان عندنا وعند الشافعية". ولا يقدح في القول عدم شهرته، فمن المعلوم أنَّ المشهور ما كثُر قائلوه. وقد يكون القول مشهورًا ومقابله هو الصحيح، فإنَّ الصَّحيح ما قوى دليله. ولا ندَّعي ذلك هنا، وإنَّما ننبِّه الغافل المُنكِر لوجود القول بالحساب. أمَّا ما ذكره "القرافي" من فرق بين القاعدتَين، فقد أباه الشيخ "محمد رشيد رضا"، إذ جعل أنَّ الرؤية للأهلِّة كالرؤية لعلامات أوقات الصلوات من رؤيةٍ لضوء الصُّبح، والزَّوال، وظِلُّ القامة، والغروب للشمس والشَّفق، إنَّها كلُّها وسائل لحصول العلم بدخول الوقت، فالمُراد من نصب الشَّارع لها حصولُ العلم وليس التعبُّــد بالرؤية. هل يجوز العمل به؟ اشتهر ذِكر هذا القول في الفقه الشافعي، وبحثوا فيه، ومنهم من اعتمده وصحَّح العمل به، ومنهم من أباه. وقد بسط مذهبهم "القسطلاني" في "شرح البخاري"، فقال: "قال الشافعيَّة ولا عِبرة بقول المنجِّم فلا يجب به الصَّوم ولا يجوز. والمراد بالآية "وبالنَّجم هم يهتدون" الاهتداء في أدلَّة القِبلة، ولكن له أن يعمل بحسابه كالصلاة ولظاهر الآية. وقيل ليس له، وصُحِّح في "المجموع" أنَّ له ذلك ولكن لا يجزئه عن فرضه. وصُحِّح في "الكفاية" أنَّه إذا جاز أجزاه، ونقله عن الأصحاب، وصوَّبه الزَّركشي تبعًا للسَّبكي، وصرَّح به في الرَّوضة". وتوضيح هذا الكلام، أنَّ الحاسب والمنجِّم إذا دلَّهما الحسابُ على وجود الهلال وإمكان رؤيته لهما أن يعملا بعلمهما في أنفسهما لظاهر الآية "وبالنَّجم هم يهتدون"، وقياسًا على الصلاة. ومن صام منهما برئت ذمَّته وأجزاه صومه عن الفرض، كما صوَّبه السَّبكي وتبعه الزَّركشي. وقيل يصوم ولكن لا تبرأ ذمَّته ولا يجزئه صومه. وأمَّا قوله "ولا عبرة بقول المنجِّم" فإنَّ مراده في الحكم بإيجاب الصوم على العامة، وإعلان الصوم والإفطار لهم. من هو الحاسِب ومن هو المنجِّم؟ عرَّفهما "القسطلاني" وفرَّق بينهما، فقال: "والحاسب وهو من يعتمد مَنازل القمر وتقدير سيره، في معنى المنجِّم وهو من يرى أول الشهر طلوعَ النَّجم الفلاني، وقد صرَّح بهما في المجموع". وإنَّما نفَّر العلماء من المنجِّمين لأنَّهم يتِّهمونهم بالقول بالحدس والتَّخمين، ومن قبلُ كان مذهبهم مرفوضًا ممقوتًا "قال ابن بزيزة وهو مذهبٌ باطل (يعنى الرجوع إلى قول المنجِّمين)، فقد نهت الشريعةُ عن علم النجوم لأنَّها حدسٌ وتخمين، ليس فيها قطعٌ ولا ظنٌّ غالب". والمحقِّقون من علماء الشريعة يفرِّقون بين التَّدجيل بالتَّنجيم، وبين علم الفلك والنجوم والحساب، ويحكمون أنَّ هذا العلم يفيد القطع واليقين لا الظنَّ والحدس والتَّخمين.. وعلماء أوروبا يشهدون أنَّ علماء العرب بلغوا فيه شأوًا بعيدًا. قال "شهاب الدين القرافي": "إنَّ حساب الأهلَّة والكسوفات والخسوفات قطعيٌّ، فإنَّ الله أجرى عادته بأنَّ حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب.. السيَّارة على نظام واحدٍ طولُ الدهر بتقدير العزيز العليم، قال تعالى: "وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ" (يس: 39). وقال تعالى: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ" (الرحمان: 5)، أي هما ذَوا حسابٍ فلا ينخرم ذلك أبدًا، وكذلك الفصول الأربعة لا ينخرم حسابها، والعوائد إذا استمرَّت أفادت القطعَ، كما إذا رأينا شيخًا (نقول) بأنَّه لم يولد كذلك (شيخًا)، بل طفلاً، لأجل عادة الله بذلك، وإلَّا فالعقل يجوز ولادته كذلك. والقطع الحاصل فيه، إنَّما هو لأجل العادة، وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يُعتمد عليه كأوقات الصلوات، فإنَّه لا غاية بعد حصول القطع". فهذا البيان السَّاطع من شهاب.. يوضِّح بطلان اتِّهام علم الفلك وحسابه بأنَّه ظنٌّ وتخمين. ولعمري إنَّ هذا القول من هذا الإمام الفحل يزيِّن علماءنا ويرفع عنهم، وسما نجلهم أن يوسموا به، كما وُسِم به علماء الكنيسة آنذاك الذين كانوا يحاكمون العلماء الفلكيِّين ويحكمون عليهم بالإعدام حرقًا جزاء بحوثهم واكتشافاتهم العلمية. زلَّة قلمٍ ينبغي سِترها.. وقال صاحب "حي على الفلاح حاشية الإيضاح" ما نصّه: "وما الصّوم والإفطار بحساب الفلك فخطأ وكفر ومخالفة للسنة.."، وفي هذه الكلمة "كفر" من العنف ما تنزَّهت عنه أقلامُ الفحول المتقدِّمين. وقد مرَّ في حكاية "الجيطالي" ما يدلُّ على العلم والأدب الجمّ والدين المتين، وينبغي أن تموت أمثال هذه الكلمة من أفواه وأقلام الكاتِبين، فلقد أجمع جميع النَّاقلين على أنَّ القول بالعمل بالحساب النُّجومي مذهب "مطرف"، ووسموه بأنَّه من كبار التَّابعين، وأجمع النَّقل على أنَّه قول لـ "الشافعي" في رواية عنه سلَّم صحَّتَها إليه أمثالُ: الشيخ "عليش" في المتزمِّتين، وأمثال "ابن رشد" في المقدِّمات، فكيف يُكفَّر من أخذ النسبة إلى إمام مجتهد مثل "الشافعي" بتأويلٍ صحيحٍ، هذه زلَّة قلمٍ ينبغي سِترها..