2025.05.22
مقالات رأي

تصحيح المسار.. خلط الأوراق لإعادة ترتيبها وفق التصوّر الفلسطيني


وفق آراء المتابعين والمحلّلين، لن تنتهي حرب غزّة بدون تداعيات جيوسياسية كبيرة على الشّرق الأوسط، فـ "إسرائيل" لن تنجح في تحقيق أهدافها المعلنة من تلك الحرب، وعوضًا عن ذلك ستتحوّل إلى دولة معزولة، وتداعيات ذلك سيكون له وقع أليم على السّياسة الأمريكية والغربية ومخطّطاتهما لما بات يعرف بالشّرق الأوسط الجديد، فيما ستبدأ في الشّرق الأوسط حركة تحرّر صعبة ومؤلمة من هيمنة القوى الغربية التي تهدّد سياساتها بزعزعة استقرار المنطقة وستسقط مخطّط التّطبيع مع "إسرائيل". الشّرق الأوسط برمّته بات أمام مفترق طرق وتغيّر إستراتيجي وأعاد القضية الفلسطينية لتتصدّر الأولويات وأسقط مشروع أمريكا المرسوم للمنطقة وهدفه تصفية القضيّة الفلسطينية والتنكّر للحقوق الوطنية والتّاريخية للشّعب الفلسطيني. معركة "طوفان الأقصى" أعادت القضيّة الفلسطينية لتتصدّر الخريطة الدّولية والاهتمام الأممي وتعيد للواجهة الأممية التوحّش "الإسرائيلي" وتعيدنا لتاريخ عصابات الأرغون وشتيرن الصّهيونية وما ارتكب من مذابح وجرائم بحقّ الشّعب الفلسطيني لإجباره على هجر أرضه قسرًا والمشهد يعيد تكرار نفسه لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء وموقف فلسطيني يسدّ الأبواب في وجه مخطّط حكومة الائتلاف اليمينية الصّهيونية التي تمارس الإرهاب المنظّم بضوء أخضر أمريكي وغربي ليعيد إلى الأذهان جرائم أمريكا وبريطانيا في الحرب العالمية الثّانية والجرائم التي ارتكبت في فيتنام والعراق وأفغانستان، إلّا أنّه وبالرّغم من كلّ تلك الجرائم "الإسرائيلية" والأمريكية والبريطانية والفرنسية كانت إرادة الشّعوب أقوى وأشدّ عزيمة في مواجهة هذا التوحّش الصّهيوني الإمبريالي. ردود أفعال الإدارة الأمريكية تجاه عملية "طوفان الأقصى" والإجراءات العسكرية الميدانية، التي سبقها سيل من الأقوال والتّصريحات جرت على ألسنة كبار المسئولين، وفي طليعتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، والذي أعلن عن سلسلة خطوات لدعم الكيان الصّهيوني وإمداده بالعدّة والعتاد لمواصلة حرب الإبادة ضدّ الشّعب الفلسطيني لن تثني الشّعب الفلسطيني والدّاعمين للحقوق الفلسطينية عن مواصلة حقّه المشروع في الدّفاع عن أرضه وكرامته. التّصريحات السّياسية للرّئيس بايدن ودول استعمارية كبريطانيا وفرنسا وغيرهم خرجت عن المألوف وأعطت قادة الكيان الصّهيوني ضوء أخضر لإفناء غزّة وأعطت للكيان الغاصب حقّ الدّفاع عن النّفس ضمن سياسة الغرب للتّعامل بسياسة الكيل بمكيالين، وشرعت في تزويد الاحتلال بكلّ ما يحتاجه من مساعدات عاجلة يحدث غالباً أنّها طويلة الأمد وهجومية والأعلى تكنولوجية على امتداد المنطقة. وذلك ضمن رؤيتهم لمفهوم الشّرق الأوسط الجديد. السّياسة الأمريكية والبريطانية والغربية على وجه العموم تتّسم بمزيد من التخبّط الدبلوماسي، على اعتبار أنّ أحد أبرز أهداف عملية "طوفان الأقصى" هو قطع الطّريق على الجهود الأمريكية لريادة التّطبيع السّعودي - "الإسرائيلي"، والتّطبيع هو مشروع صهيوني أمريكي لقطع الطّريق على الشّعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة وحقّه في إقامة دولته المستقلّة. وفي ظلّ تباين مواقف كلّ من السّعودية والولايات المتّحدة و"إسرائيل"، واختلاف حساباتهم، وطبيعة التحدّيات الدّاخلية والخارجية التي تواجه كلًا منهم، فإنّ من الصّعب الجزم إذا ما كان ثمّة اتّفاق ثلاثي سيجري التوصّل إليه قبل أن تبدأ الانتخابات الأميركية العام القادم. لكنّ الأكيد أنّ الأطراف الثّلاثة تنظر بجدية في إمكانية إبرام اتّفاقات جزئية إذا تعذّر التوصّل إلى اتّفاق شامل حول كلّ القضايا محلّ الخلاف. معركة طوفان الأقصى أعادت خلط الأوراق في المنطقة وأعادت التّمحور لدول المنطقة في ظلّ حصار أممي تتعرّض له "إسرائيل" لأوّل مرّة منذ تاريخ إنشائها، في 26 جانفي الماضي، أعلنت محكمة العدل الدّولية قراراتها الأوّلية في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا في إطار الاتّفاقية المتعلّقة بالإبادة الجماعية لعام 1948، وأمرت "إسرائيل" باتّخاذ تدابير منع وقوع أعمال إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين، وتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزّة. وبغضّ النّظر عن تداعيات الحرب "الإسرائيلية" الوحشية الحالية على غزّة، فقد انهارت نظرية الأمن "الإسرائيلية"، وتهاوت نظريات "كي الوعي" و"جزّ العشب"، وأثبتت مقاربة "المعركة بين الحروب" فشلها في تقويض قدرات المقاومة أو ردعها عن تنفيذ هجوم ضخم مثل الذي نفّذته صبيحة 7 أكتوبر. ولذا؛ تعكس تصريحات قادة الاحتلال على وقع الصّدمة، وعلى وقع أزمة ثقة تهزّ الجيش وأجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية"، بأنّ النّموذج الأمني والإستراتيجي السّابق انتهى، وهو ما يعني أنّهم بصدد البحث عن فرض "نموذج جديد" وبناء نظرية أمن جديدة، ترمّم جاذبية "إسرائيل" وسمعتها المنهارة كملاذ آمن لليهود من أنحاء العالم. لكنّ هذه مهمّة لا تبدو بسيطة أو قريبة المنال، بغضّ النّظر عن مآل الدّمار الحاصل في قطاع غزّة. معركة طوفان الأقصى غيّرت الكثير من المفاهيم وأسقطت الرّواية "الإسرائيلية" وأعادت للوعي الأممي صدقية الرّواية الفلسطينية ومظلومية ما يتعرّض له الفلسطينيون على يد الاحتلال "الإسرائيلي" وقد انبرت الدّول الدّاعمة للفلسطينيين في الدّفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية وفي دحض الادعاءات "الإسرائيلية" وقد نجحت جنوب إفريقيا في الدّعوى لدى محكمة العدل الدّولية وتنبري الجزائر في الدّفع قدمًا بدعم الفلسطينيين في الأمم المتّحدة والتحرّكات الطلّابية في الجامعات الأمريكية والأوروبية نصرة لفلسطين والحقّ الفلسطيني ضدّ ممارسات وجرائم الاحتلال في غزّة والضفّة الغربية. عملية "طوفان الأقصى" في السّابع من أكتوبر لم يشهد هذا التّاريخ مجرّد عملية عسكرية لقوى المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي تحت اسم "طوفان الأقصى"، بل حمل معه تغيرات أوروبية في مواقفها من خلال الاعتراف بدولة لطالما مُنع شعبها من نيل حقوقه الإنسانية الأساسية وعلى رأسها الاستقلال والسّيادة. ومنذ العملية، شهد العالم طوفاناً غربياً من التّصريحات التي تتمحور حول نيّة الاعتراف بدولة فلسطينية، تزامناً مع تغييرات بارزة في الرّأي العام الدّولي لمصلحة حقوق الشّعب الفلسطيني، وهو أمر لم نعتد عليه على مرّ العقود. وساهمت العملية وما تبعها من أحداث كارثية خلّفها جيش الاحتلال الإسرائيلي في إصابة عدد من الدّول الكبرى بـ "صحوة ضمير" ولو جزئياً، لتتغيّر الفكرة الغربية التي كانت قائمة لسنوات، على أنّ الاعتراف بفلسطين مرتبط بنتائج المفاوضات بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين"، المتوقّفة أساساً منذ أفريل من عام 2014. واصطدمت المحاولات الفلسطينية السّابقة لنيل الاعتراف بها "دولة كاملة العضوية في الأمم المتّحدة"، بـ "الفيتو الأمريكي" الذي كان لمصلحة "إسرائيل"، لتظلّ فلسطين تملك صفة دولة مراقب غير عضو منذ عام 2012، باعتراف 139 دولة بها كدولة داخل حدود 4 جوان 1967. ولعلّ من أبرز الدّول التي يجب التّركيز على موقفها في ظلّ الحرب الحالية هي الولايات المتّحدة الأمريكية، التي لطالما كانت تقف أمام المساعي الفلسطينية لنيل الحقوق الطّبيعية. ورغم الموقف الأمريكي الدّاعم لـ "إسرائيل" هناك موجة من التّصريحات الأوروبية شهدها الوضع الفلسطيني، تتعلّق بملف الاعتراف بدولة للفلسطينيين، بل وصلت إلى حدّ الإعلان عن بدء دراسة هذا الأمر، ما يعدّ خطوة غير مسبوقة. فمنذ بدء العدوان "الإسرائيلي" على غزّة، دعا المسئولون الإسبان في أكثر من مناسبة، الدّول الغربية إلى الاعتراف بدولة فلسطين، مؤكّدين ضرورة البحث عن حلّ نهائي لـ "الصّراع الفلسطيني-الإسرائيلي" عبر توفير أفق سلام جدّي لحلّ الدّولتين. من جانبه، دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، في 10 جانفي الفارط، الدّول الغربية إلى الاعتراف بدولة فلسطين، والتوصّل لحلّ جدّي ومقنع على أساس صيغة الدّولتين بدعم المجتمع الدّولي، مضيفاً أنّه ينبغي البدء بمناقشة جادّة لضمان اعتراف الغرب بالدّولة الفلسطينية. أمّا بريطانيا فقد كرّر وزير خارجيتها، ديفيد كاميرون، في مناسبات عديدة، قوله إنّ بلاده يمكن أن تعترف رسمياً بالدّولة الفلسطينية بعد وقف إطلاق النّار في غزّة، دون انتظار نتيجة ما ستسفر عنه محادثات مستمرّة منذ سنوات بين "إسرائيل" والفلسطينيين حول حلّ الدّولتين، وأوضح كاميرون في تصريح أدلى به في 30 جانفي الفارط، أنّ لندن تنظر مع حلفائها في مسألة الاعتراف بالدّولة الفلسطينية، وضمن ذلك في الأمم المتّحدة. فرنسا بدورها أعلنت، في 16 فيفري، على لسان رئيسها إيمانويل ماكرون للمرّة الأولى، أنّ الاعتراف بدولة فلسطينية ليس من المحرّمات بالنّسبة لباريس، وكرّر ماكرون دعوته لحلّ الدّولتين القائم على إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب "إسرائيل"، داعياً إلى "اندفاعة حاسمة لا رجوع فيها" في هذا المجال. وأحدث ما طرأ بموضوع الاعتراف بدولة فلسطين، ما يتردّد عن "مصدرين متطابقين"، في 22 فيفري، بأنّ 4 أعضاء دائمين في مجلس الأمن وافقوا على الاعتراف بالدّولة الفلسطينية من جانب واحد، مع تأكيدهما على أنّ أغلبية الدّول في الجمعية العامّة للأمم المتّحدة تؤيّد القرار. وفي إطار التعامل "الإسرائيلي" مع المجريات الدّولية المتسارعة التي نزلت كالصّاعقة على تل أبيب، خرج نتنياهو ليعلن رفض حكومته الإملاءات الدّولية المتعلّقة بملف الاعتراف بفلسطين، ووافقت حكومة الاحتلال، في 18 فيفري، على مشروع قرار لعدم الاعتراف بدولة فلسطينية أحادية الجانب، ينصّ على أنّ "التّسوية الدّائمة مع الفلسطينيين لن يتمّ التوصّل لها إلّا من خلال المفاوضات المباشرة بين الطّرفين، دون شروط مسبقة". وعلى مدار الأيام الماضية، صرّح عدد من المسؤولين في هذا الإطار، ومنهم وزير الطّاقة "الإسرائيلي" إيلي كوهين، بأنّهم يفضّلون عدم التوصّل إلى اتّفاقيات سلام مع الفصائل الفلسطينية إذا كانت ستؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية. أمّا وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، فقد أعلن عن عدم موافقته بأيّ حال من الأحوال على حلّ الدّولتين، فيما صرّح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بأنّ العالم يريد أن يمنح الفلسطينيين دولة وأنّ هذا لن يحدث. لكن وزير الشّتات عميحاي شيكلي، ذهب بتصريحاته إلى أبعد من زملائه، ليصرّح بأنّ على "إسرائيل" أن تقاوم الخطّة الأمريكية، وأن تهدّد بخطوات أحادية كإلغاء "اتفاقية أوسلو". المواقف الأوروبية، باتت أكثر وضوحاً من الموقف الأمريكي، و"يبدو أنّ الأوروبيين يراجعون سياستهم على خلفية المآسي التي خلّفها تردّدهم السّابق وعدم الحسم ودعم "الإسرائيليين"، إلى جانب المظاهرات التي شهدتها عواصمهم تأييداً للفلسطينيين". إنّ أقصر الطّرق لتحقيق الأمن والاستقرار هو تحقيق السّلام المستند لقرارات الشّرعية الدّولية والإقرار بالحقوق الشّرعية للشّعب الفلسطيني وحقّ تقرير المصير وإقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس.