هناك محمول تاريخي بين مسافتين زمنيتين الأولى (1792 ــ 1956) والثانية (1956 ــ 2024)، يحتاج أن نمتلك من القدرة والشجاعة على مواجهة هذا المحمول والأكثر من ذلك الطاقة الكافية للاستثمار فيهما، خاصة وأنه يحمل تحولا جيواستراتيجي له الكثير من التداعيات التي رسمت ملمحا جديدا للحياة بعد انصرام تفاصيل الأحداث. وينبجس المحمول التاريخي المقصود هنا في أبعاد الآية القرآنية ذات المعنى الإنساني (وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)، فعندما تأكد الاستعمار الاسباني أن ثلاثة قرون كافية لتأبيد السيطرة الاستعمارية على وهران، وأن المملكة الاسبانية قادرة على التحكم في مصير أهل وهران، في انتقام تاريخي على أنوار الفتح الإسلامي للأندلس وتحويلها إلى أعجوبة إنسانية. وهي نفس لحظة الاطمئنان التي عبرت عنها فرنسا الاستعمارية بفرحتها العارمة بعد مرور قرن على احتلالها للجزائر فراحت تتبختر في احتفالات دعت إليها نجوم أوربا لتفتخر باستعمارها وتعلن قدرتها على سيطرتها المؤبدة، إلا أن أمر الله أتاها على لسان العلماء والمثقفين الجزائريين معبرين في آذان ابن باديس (شعب الجزائر مسلم) من مأذنة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وبعد مرور مائة وأربعة وستين عاما صدح طلبة الجزائر في وجه فرنسا الاستعمارية مرددين نداء من سبقهم من الطلبة المحررين لوهران والمدمرين لأسطورة الاستعمار الإسباني، فالمشترك بين الطلبة المقاومين للاستعمار الاسباني والطلبة المقاومين للاستعمار الفرنسي هو الحرية والكرامة ورفض العدوان، واسترخاس النفس في سبيل الحقيقة، فكان دليلهما كلمات ابن باديس ورفاقه. فلكل استعمار (هيكل مزعوم، وبقرة صفراء)، يرغب في إقامته على أنقاض الآخرين ويحتفل بنحر البقرة نشوة بالانتصار، ولكن المشكلة لا تتعلق بمعتقدات الاستعمار ولا مواعيد احتفالاته، ولكن تكمن في أولئك المستعمرين الذين يغفلون عن دلالة (أتاها أمرنا)، وينسون طاقة الإنسان وجبليته على الحرية والانعتاق، ويستسلمون لسطوة الاستعمار منبهرين بقدراته المادية وينبهرون بخرافاته وأساطيره. إنّ طلبة الجزائر وهم يهبون استجابة لنصرة بريق الحقيقة والمنافحة عنها، عبر تحرير الأوطان وتخليص الإنسانية من أنجاس الاستعمار والتخلف، فهم يفتحون أعين البشرية على فداحة الخرافات وبشاعة الأساطير الاستعمارية، التي تبني عليها كل الإمبراطوريات الاستعمارية وفي كل عصر وزمان، تشترك في أهداف إهانة الإنسان واحتقار كرامته وسلبه إنسانيته، واستباحة حقوقه وهدرها، من أجل إشباع غرائزه وشهواته. إنّ ما يتميز به عيد الطلبة في الجزائر هذا العام (2024) أنه يعيد إلى الأذهان وإلى النفوس تلك المواقف التاريخية لطلبة الزوايا سنة (1792) ويلقى على الجميع المسؤولية الكبرى التي تعلو من جبال المرجاجو في مسجد الطلبة ويفرضها الوفاء الصادق لشهداء وأبطال (1956)، وتمتزج بصرخة ابن باديس سنة (1931) في وجه الاستعمار وتصل إلى السابع من أكتوبر في غزة، مما يجعلنا في مواجهة تكلفة مستقبلية تتكئ على مهمة تاريخية مستمرة تقتضي مواجهة كل استعمار وكل تخلف يرغب في السيطرة على إنسانية الإنسان، فالأمر لا يتعلق بمجموعة مقاومة ولا حركة سياسية ولا تيار فكري، وإنما يتعلق بتعديل مسار الإنسانية التي لا يمكن أن تكون خريطة سيرها محكومة بالخرافات والأساطير وغرائز الإمبراطورات الاستعمارية. وفي السابع من أكتوبر جاء أمر الله من غزة عندما اعتقد الأغلبية أن الاستعداد قد اقترب لنحر البقرة الصفراء والشروع في تشييد الهيكل المزعوم، وسرعان ما تعالت أصوات الإنسانية الطبيعية المستقذرة لهمجية بقايا السبي البابلي و المصفوعين في شعاب أوروبا لقرون، فجاء صوت الإنسانية من حناجر طلبة الجامعات الغربية المكرسة للثقافة الاستعمارية الكونيالية المتعالية، إلا أن صفاء الحقيقة أكبر من الأراجيف والخرافات. إنها فرصة تاريخية اليوم أمام من يعتبرون أنفسهم (النخبة) من أجل إعادة النظر في الموضع الكوني لها ومواجهة الحال بشجاعة المواقف الصادقة، والذهاب نحو توبة تاريخية صادقة مع النفس ومنسجمة مع التاريخ، والابتعاد عن تلك السلوكات الفلكلورية والموجات العاطفية التي ألحقت الكثير من الأضرار المؤلمة بالأمة، فلن يحرر الأوطان مظاهرات طلبة جامعات الغرب ولا تصريحات نجوم السينما والرياضة ولا مواقف بعض الشخصيات العامة، وإنما الرهان يكون على مستوى منسوب الحرية في الإنسان وقدرته على الشعور بألم التخلف والاستعمار ومدى رغبته في الوصول إلى الحرية والكرامة.