خطاب كامالا هاريس السياسي منذ تاريخ السابع من أكتوبر الماضي، قد يجعل البعض يتصور أنه بالإمكان استشراف مستقبل السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية حال فوزها بالرئاسة، لكن هذا التصور يجانبه الصواب لأسباب عدة، منها التعقيدات التي تواجهها حملتها، وأوضاع حزبها «الديمقراطي» الراهنة، فضلًا عن سجلها السياسي شخصيًا. فـ«هاريس» واحدة من عدد قليل ممن ترشحوا لمنصب الرئاسة، بينما يشغلون منصب نائب الرئيس، ونسبة فوز هؤلاء ضعيفة للغاية، فقد فاز منهم بالرئاسة اثنان فقط من أصل ستة! والسبب هو عقبة صعبة يتحتم تخطيها، فنائب الرئيس-المرشح للرئاسة-عليه تحقيق التوازن الصعب بين كونه نائبًا للرئيس، ضالعًا وشريكًا في كل قرارات الإدارة من ناحية، وضرورة إبراز نفسه كمرشح له كيانه ومواقفه المستقلة. لذلك، فخطاب حملة هاريس له سقف وحرية حركة محسوبة لئلا تُتهم بالتنصل من مواقف إدارة هي شريكة في قراراتها، ومعنى ذلك أنها حتى لو أرادت أن تقدم رؤية مستقلة، فستلجأ للدلالات الرمزية والخطاب حمّال الأوجه، كأن تمتنع عن الظهور خلف نتنياهو أثناء خطابه، أو أن تقول «لن أصمت» إزاء معاناة الفلسطينيين في غزة!. أما أوضاع الحزب الديمقراطي فلا يجوز تجاهل تأثير الأموال الهائلة التي يقدمها أنصار "إسرائيل" للحزب ومرشحيه، كما أن الحزب، وهو حزب التعددية الواسعة عرقيًا ودينيًا وأيديولوجيًا، باتت قراراته أقل ديمقراطية من أي وقت مضى، ولا أدل على ذلك من أن هاريس صارت فورًا مرشحة الحزب بعد انسحاب بايدن، دون أي دور للناخب الذي لم يخترها أصلًا. وبدلًا من فتح المؤتمر العام لأكثر من مرشح، اتخذت قيادات الحزب قرارًا بتصويت المندوبين قبل المؤتمر العام، لا أثناءه، وراحوا يسعون لضمان ولاء المندوبين الذين كانوا ملتزمين بالتصويت لـ«بايدن». وتلك الأوضاع تُضعف تأثير القوى التي كانت نجحت في اختيار مندوبين «غير ملتزمين» بالتصويت لـ«بايدن» بسبب موقفه من غزة، معنى ذلك أن تلك القوى المناصرة لغزة لم يعد أمامها إلا السعي للتأثير على مجريات المؤتمر العام نفسه، وبالفعل، هم يضغطون اليوم لتخصيص وقت لخطاب يلقيه أحد الأطباء الأمريكيين الذين عادوا من غزة ورأوا بأعينهم الأهوال إلى يعيشها الفلسطينيون. لكن الأهم من كل ما تقدم أن مواقف هاريس وسجلها السياسي ينطوي على تناقضات خصوصًا بين الخطاب والفعل، فهي طوال تاريخها السياسي، وخصوصًا أثناء عضويتها بمجلس الشيوخ، ظلت من أقوى الداعمين لـ "إسرائيل" وتسليحها، وهي اتهمت مثلًا حركة مقاطعة الاحتلال «بالعداء للسامية»، واعتبرت ضغوط الأمم المتحدة لوقف انتهاكات "إسرائيل" للقانون الدولي الإنساني «محاولة لنزع الشرعية عن "إسرائيل"»، بل وانتقدت إدارة أوباما حين امتنعت عن استخدام الفيتو ضد قرار لمجلس الأمن يدعو "إسرائيل" «لوقف التوسع» في الاستيطان بالأرض المحتلة. لكن من ناحية أخرى، كانت هاريس، كنائبة للرئيس، أول رموز الإدارة التي انتقدت إدارة "إسرائيل" للحرب، وأول من دعا علنًا لوقف إطلاق النار، وإنقاذ المدنيين، وإن بالشروط الأمريكية. وتقول التقارير الصحفية، دون الإفصاح عن مصادرها بالمناسبة، أن هاريس واحدة ضمن عدد محدود للغاية من الأصوات بالإدارة تضغط على بايدن لاتخاذ موقف «أكثر تشددًا» اتجاه نتنياهو (لا اتجاه إسرائيل، بالمناسبة!)، لكن خطاب هاريس بخصوص الضحايا المدنيين وانتقادها لحكومة نتنياهو لا قيمة له، في تقديري، لو لم يصحبه موقف حاسم تجاه تسليح "إسرائيل". لذلك كله، فإن مواقف هاريس، لو فازت بالرئاسة، ستتوقف على اعتبارات شتى، أهمها على الإطلاق حجم ونوعية الضغوط التي سيمارسها المناصرون لغزة على حملتها اليوم، وقدرتهم على انتزاع تعهدات بعينها مقابل أصواتهم.