2025.05.22
نوستالجيا

من أوراق المفكّر الجزائري "مصطفى الأشرف".. قراءة في تاريخ البطولة الجزائرية ( الجزء الرابع والأخير)


مثلما تُورَّث الأموال والمُمتلكات والأطيان، تُورَّث قِيم البطولة والعزّة والإباء والشموخ ومغالبة الظّالم مهما كان قويًّا متجبّرًا، وكذلك تُورّث النّذالة والخنوع والانهزامية والانبطاح للأقوى.. فإذا وجدت شعبًا عزيزا صامدًا مُغالبًا لكل أنواع القهر والتّجبّر والطغيان كما هو شأن الشعب الفلسطيني.. فاعلم بأنّ هذا الشعب قد ورث البطولة جيلا بعد جيل، ولم يخترعها أو يدّعيها! وكذلك الشأن بالنسبة للشعب الجزائري الذي جسّد معنى البطولة في ثوراته الشعبية على امتداد تاريخه العميق، لا سيما ثوراته ضد الاستعمار الفرنسي التي تجاوزت 14 ثورة لم تكسره نتائجها بل قادته إلى ثورة التحرير الكبرى التي جسّد فيها بطولته في أسمى تجلّياتها ومعانيها. وإذًا فالبطولة ليست كلمة رومانسية يتغنّى بها الشعراء والكُتّاب والأدباء أو دورٌ يؤدّيه الفنّانون والممثلون على المسارح وفي الأفلام.. بل هي عنصر أصيل في تكوين شخصيّة الشعب، و"كنز" تتوارثه الأجيال عبر الدهور والأزمنة. "مصطفى الأشرف" (1917 – 2007) كاتبٌ ومؤرّخ وعالم اجتماع جزائري، قال عنه الأستاذ الدكتور الجزائري "عبد الكريم بوصفصاف": "ظل المثقف المُسيّس الذي كرّس قلمه السيّال لخدمة القضايا الوطنيّة السياسية والثقافية على حدّ السواء". يُعتبر من أعمدة التأريخ الاجتماعي للجزائر من خلال كتاباته الغزيرة قبل الاستقلال وبعده، ومن أهمّ كُتبه كتابه في علم الاجتماع التاريخي "الجزائر الأمة والمجتمع" الذي أصدر طبعته الأولى عام 1965، إضافة إلى كتابه "أعلام ومعالم - مآثر عن الجزائر" الذي أرّخ فيه لسيرته الذاتية الحافلة بالأحداث والنضالات والذكريات. وقد شغل "الأشرف" مسؤوليات عديدة منها: مديرا لجريدة "المجاهد" خلال السنوات الأولى من الاستقلال، وسفيرا للجرائر في الأرجنتين ثم البيرو ثم المكسيك.. كما اضطلع بتمثيل الجزائر في منظّمة اليونيسكو. "مصطفى الأشرف" مُفكّرٌ ينتمي إلى النخبة العلمية الجزائرية التي سعى كل واحد منها إلى تأسيس "مشروع المجتمع الجزائري" بأدوات علمية تعتمد على علوم: التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة.. ومن المُجدي أن نقترب من عوالم هذا المفكّر الجزائري الكبير من خلال بعض مقالاته التي نشرها خلال ثورة التحرير الوطني، ومنها مقالتين حول البطولة في الثورة الجزائرية والبطولة العربية، كان قد نشرهما في مجلة "الفكر" التونسية. وتعيد جريدة "الأيام نيوز" نشرهما لقيمتهما الفكرية، وأيضًا ليُدرك القارئ مدى مساهمة الكُتّاب الجزائريين في مسيرة الفكر والثقافة العربية حتى خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي! في مقالته عن البطولة في الثورة الجزائرية، المنشور في الأول فيفري 1959، تناول "الغابة" أو الطبيعة عموما كعنصر من عناصر البطولة، فهي عنصر "رومانسي" وجمالي عند معظم الكتّاب والناس عموما، ولكنها كانت بالنسبة للإنسان الجزائري الثائر ضدّ الاستعمار سلاحا آخر بيده وظّفه في ثورة التحرير الوطني.. فمنح "الغابة" معنى أخرى لا يُدركه إلاّ الذين حملوا لواء الثورة ضدّ الاستعمار.. كما تناول "الأشرف" مفهوم البطولة خارج سياق الحماسة والفخر في الشعر والأدب، وبعيدًا عن الأفلام والقصص والروايات.. لقد تناولها في سياقها الواقعيّ حيث جسّد معانيها الثوّارُ بدمائهم وتضحياتهم، وقدّم "الأشرف" أنموذج البطولة عند الأمير "عبد القادر".. ويُمكن القول أنّ البطولة تنقسم إلى قسمين: بطولة فرديّة تخصّ الأشخاص وترتبط بحدث أو أحداث خلال فترة زمنية قصيرة، وبطولة جماعية تخصّ مجموعات نضالية أو ثورية وترتبط بأحداث أكبر وأضخم وتمتد إلى فترات أطول، وفي الحالة الجزائرية هي بطولة شعب على امتداد أكثر من قرن وثُلث القرن.. فهي بطولة جماعية مُتواصلة، وهذا ما جعلها عنصرا أصيلا في شخصية الإنسان الجزائري، عنصرا توارثته الأجيال الجزائرية وما زالت تتوارثه وتتغذّى منه في مجابهة كل قوى الشر الدولية التي لا تريد خيرا للجزائر.. من المُجدي الإشارة أنّ المؤرّخ المصري "يوسف فهمي الجزايرلي" أصدر عددا من الموسوعات عن مناطق ومعالم وأماكن عربية.. وعندما أصدر كتابه عن الجزائر، خلال ستينيات القرن الماضي، اختار له عنوان "الجزائر أرض البطولة" كأنما البطولة هي صناعة جزائرية خالصة في القرن العشرين، وبالتأكيد أن فلسطين وغزّة ولبنان.. هم أرض البطولة في هذا العصر الذي يفتقد فيه "العرب" إلى البطولة خارج دوائر الآداب والفنون والسينما.. وفيما يلي، نترك القارئ مع هذه القراءة في تاريخ البطولة الجزائرية. التمتع العريق بالحرية ونخوة الاستقلال متى أمعنا النظر في هذه الأحداث السابقة كلها، أمكننا القول بأنّ إقبال الجزائريين على الموت في الحرب الأولى، بهذه الصفة الشاذة، كان كثيرا ما يطرأ عن أسباب شتى، دينية ووطنية ونفسية منها الجهاد المزدوج المتناهي إلى أقصى حد، طلبا لحسن الجزاء ويقينا منهم بأن الإسلام يعلو ولا يعلا عليه، فالموت في سبيل الدفاع عنه إعلاء لشأنه وحفظ لحماه، ومنها التمتع العريق بالحرية ونخوة الاستقلال، الأمر الذي يدفع بصاحبه إلى الذود عنهما وهو المتشبّع بحيويتهما وروحهما وبالوفاء إلى أرض الأجداد، لا يهنأ خاطره إذا تخيّل مثالها إلى العبودية وفقدان العزة، ومنها قسوة العدوان الفرنسي والجرائم البشعة التي ارتكبها الغزاة، والتخريب والتنكيل بالأبرياء واغتصاب الأراضي واختطاف الأطفال المنهجي واعتبار النساء كالغنيمة يُوزّعن غالبا على الجنود بعد الغزو والنهب وطرد العشائر طردا والسعي في إبادتها بكل وسيلة.. وما نتج عن هذا وذاك من مشاعر وانفعالات في قلوب الجزائريين وأعمالهم وبالأخص عقد العزائم على ردع الأذى واقتحام الشدائد والمخاطرة بالنفوس.. إعجاب الجنود الفرنسيين بالأمير عبد القادر وقد أصبحت البلاد ميدانا واسعا لحرب ضروس قلّما ينجو من شرّها القوي المسلح فبالأحرى الضعيف الأعزل، ونُضيف إليها كل ما تعوّد عليه الرجل الجزائري من صلابة الجانب في العراك والزهد في الحياة والصبر والاستهانة بالموت وإباء الضيم وروح التضحية. ولنا في "يوميات" بعض القواد الفرنسيين آنذاك الشهادات الكثيرة على مآثر البطولة التي لاحظوها رغم أنفهم عند الشعب وقادته وأميره الأغر، "عبد القادر بن محي الدين"، وطالما راعتهم من هذا الأخير - ولا تزال تروعنا - إنسانيته الكريمة المصحوبة بشيم الفروسية وصدق الإيمان. ومن فرط الإقدام ومزيد الاستبسال اللذين عُرف بهما في ساحة الحرب، كان يفتتن الجنود الفرنسيون بمطلعه ويكاد يعتريهم نوع من البهت والاندهاش، وهو الرجل المعتدل القامة، النحيف البنية، الوديع السيماء إلّا أنه كان لشخصيته تأثير فعّال وسطوة معنوية يبعثان الحماس في قلوب ذويه والذّعر في نفوس الأعداء، وإن كان يتعذّر حصر مكارمه وفعاله، فإنّ عشرات الكتب التي أُلِّفت عنه في مختلف اللغات مع احترام الواقع غالبا والتنويه بفروسيته، لا تفي بالموضوع كله، وينقصها ما في قصائد الأمير ورسائله ومخطوطاته ومدائح شعراء العامية مثل "الطاهر بن حواء" وغيره، من الحقائق والمعاني الباطنة والظاهرة، وقد ضاع الكثير منها أثناء الغزوات وتخريب المدن، ولكن الشيء اليسير الذي وصل إلينا يدلّ الدلالة الكافية على الرجل ومآثره، ويشير إلى مدى الاعتبار والتقدير والإعجاب التي حظي بها حتى من طرف أعدائه، وكيف لا وهو الذي طالما سعى في التلطيف من أشرار الحرب وتحسين حالة الأسرى وإطلاق سراحهم بدون عوض، ومن جملة ما قام به من كريم الأعمال أنه أرسل يوما إلى الأسقف "دوبوش" معيزا حلائب تتبعها جديانها، لتغذية أيتام الجنود الفرنسيين.. بطولة الأمير عبد القادر ومآثره وإذ اشتهر الأمير عبد القادر بشجاعته وحلمه فإنه اشتهر كذلك بتواضع نادر الوجود، كان كثيرا ما يدفعه إلى إيثار الغير على نفسه في الأسر الشاق بحصون فرنسا، حيث كان يتزهد في العيش لكي يتأتّى له أن يُسعف أصحابه بما لديه من ضروريات الأمور، ويمتنع حتى من التدفئة في أيام الشتاء القوارس ولياليها ليتبرّع بحصّته من الوقود لرفاقه الأسرى. وأمّا عن إمارته وأيام جهاده فلا تسأل، الشيء الذي جعل أقلية الإقطاعيين وأذناب الاستعمار الخونة المتغطرسين ينقمون على سلوكه مع الشعب ومعاملته إياه كأحد أبنائه والإنصاف للجميع والسهر على المصالح الشعبية.. وهي كلها من خوارق الأعمال وأعظمها شأنا في عصره، وإن كنا لا نستغرب مثلها في أيامنا هذه لتطوّر الأفكار السياسية إلى حدٍّ ـ والحق يقال - نسبي غير مقنع.. وإذا نحن تتبعنا في حياة الأمير "عبد القادر" جميع العناصر والمظاهر التي تتألّف منها بطولته، فلا محالة أن سلوكه هذا السلمي الأخلاقي ذا الورع والصلاح في ظروف الطغيان والعنف وأحوال السؤدد والرئاسة، الجدير كذلك بالبطولة، مكمِّل لصفاتها الأخرى من شهامة وبذل وعزم واستبسال.. وكان له فيها، كما لا يخفى، الحظ الأوفر.. وقلّما صدق شاعر في فخرياته صِدق الأمير وهو يشيد بقومه ورفاقه ويذكر أيام نصره، ونأسف كثيرا لكوننا لم نستشهد بقصيدته الطويلة التي بعث بها إلى بعض أجناده وكانوا قد التجأوا إلى "وادي سباو" تحت جناح القائد "أحمد بن سالم" بعد معارك حامية ومتاعب قاسية، فطلب الأمير "عبد القادر" من خليفته أن يحتضنهم ويرفق بهم، والقصيدة كلها تشوُّق إليهم وتنويه بجهادهم وتسلية لهم، نذكر منها البيت الوحيد الذي حضرنا وهو: يوم الوغى يوم المسرّة عندهم -- عند الصياح له مشوا بتهلّل ونقتصر في حالة الأسر والفاقة، على هذه القطعة الشعرية للأمير، يقول فيها: ركبنا للمكارم كل هول -- وخضنا أبحراً ولها زجال إذا عنها توانى الغير عجزاً -- فنحن الراحلون لها العجال سوانا ليس بالمقصود لما -- ينادي المستغيث ألا تعالوا سلوا تخبركم عنا فرنسا -- ويصدق إن حكت منها المقال فكم لي فيهم من يوم حربٍ -- به افتخر الزمان ولا يزال من خصائص بطولة الأمير عبد القادر أمّا القطعة الشعرية التي ستلي، فإنّها تعبّر للغاية، مع قلة أبياتها، عن تلك الخاصة العجيبة من خصائص الجهاد الذي قام به الأمير طيلة سنوات جهاده - ولا سيما في السنوات الأخيرة - وهي تَنقُّله السريع المفاجئ في جميع أنحاء الجزائر، وكان له قابلية الوجود بكل مكان وبكل معركة، وكثيرًا ما انبهر المؤرخون من ذلك وغدوا يعدّدون جنود الفرنسيين الذين أضنتهم المشاق وأهلكتهم الحرب بدون قتال وهم مُجِدّون في اللحاق بالأمير، يتوقّعون بروزه بينهم أو يرجون إقصاءه عنهم وسرعان ما يأتيهم من حيث لا يشعرون، فيتخلل صفوفهم الكثيفة و"طوابيرهم الجهنمية" - حسب تعبيرهم - ويضرب ضرباته القاسية ثم يعود أدراجه مُتنقِّلا في الفضاء الجزائري ليل نهار، يقول الأمير: سلي الليل عني كم شققت أديمه -- على ضامر الجنبين معتدل عال سلي البيد عني والمفاوز والربى -- وسهلا وحزنا كم طويتُ بترحالي فما همّتي إلا مقارعة العدا -- وهزمي أبطالاً شداداً بأبطالي إنّ الأمير إذ يقول هذا فإنه لا يبالغ وقد وطئت سنابك خيله أدنى بقعة من أرض الجزائر تقريبا. البطولة لا تقدّر بثمن.. وفي الختام، يجب على الباحث في البطولة العربية العصرية ملاحظة أمر خطير جدا وهو أن تلك المآثر الساطعة كانت، يا للأسف، نتيجة صراع مزعج، أسفر في الماضي ولا يزال يسفر في الحاضر عن ملاحم ومجازر نادرة المثيل، وقل ولا غرو أن عدد الشهداء في حروب الجزائر منذ 1830 يكاد يناهز المليونين بقطع النظر عمّن قضى عليهم الاستعمار بالعسف والجوع والدواهي المقصودة والجوائح المدبرة. (تُقدّر المصادر الفرنسية عدد شهداء الجزائر في الفترة ما بين 1830 إلى 1954 ما بين ستة ملايين وعشرة ملايين). إذًا، فبكم تُعاوض بطولةٌ هذا ثمنها؟ ويزيدها خطورة، أنها ليست من الأعمال التي يُستغنى عنها، فهي حتمية ضرورية كغريزة البقاء وكنفَس الحرية، ويحين عاجلا إن شاء الله أوان الإفساح التام عما أحرزته الثورة الحالية من غرر وأمجاد وإن كان قد شهر منها النصيب الكافي وعرف من بين شهدائها وأبطالها الحشد الوافي.. (المقال كُتب عام 1959 أي قبل الاستقلال بثلاث سنوات). تسائلني أمّ البنين قصيدة للأمير عبد القادر تسائلني أمّ البنين وإنها -- لأعلمُ من تحت السماء بأحوالي ألم تعلمي يا ربّة الخدرِ أنني -- أجلّي همومَ القوم في يوم تجوالي وأغشى مضيق الموت لا متهيّباً -- وأحمي نساء الحي في يوم تهوال يثقن النِّسا بي حيثما كنت حاضراً -- ولا تثقن في زوجها ذات خلخال أميرٌ إذا ما كان جيشيَ مقبلاً -- وموقدُ نار الحرب إذ لم يكن صالي إذا ما لقيت الخيل إنّي لَأولٌ -- وإن جال أصحابي فإني لها تال أدافع عنهم ما يخافون من ردى -- فيشكر كلّ الخلق من حسن أفعالي وأورد رايات الطعان صحيحةً -- وأصدرها بالرمي تمثال غربال ومن عادة السادات بالجيش تحتمي -- وبي يحتمي جيشي وتحرسُ أبطالي وبي تتّقي يوم الطعان فوارسٌ -- تخالينهم في الحرب أمثال أشبال إذا ما اشتكت خيلي الجراحَ تحمحماً -- أقول لها صبرا كصبري وإجمالي وأبذل يوم الروع نفسا كريمة -- على أنها في السلم أغلى من الغالي وعنّي سلي جيشَ الفرنسيس تعلمي -- بأن مناياهم بسيفي وعسّالي سلي الليل عني كم شققت أديمه -- على ضامر الجنبين معتدل عال سلي البيد عني والمفاوز والربى -- وسهلا وحزنا كم طويتُ بترحالي فما همّتي إلا مقارعة العدا -- وهزمي أبطالاً شداداً بأبطالي فلا تهزئي بي واعلمي أنني الذي -- أُهاب ولو أصبحتُ تحت الثرى بالي