2025.06.18
\ حوارات

"الحرب على غزة أثبتت أن القيم الغربية صالحة لمن يستفيدون منها فقط"


طاهر مولود
18 يونيو 2025

"وقفٌ آخر لإطلاق النار مثل كثير من الاتفاقات الأخرى قبله، في تاريخ الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي لفلسطين، وإحصاء آخر للموت في محفوظات النسيان، ومناسبة أخرى لتخفيف ضمير المجتمع الدولي، ولا سيما في أمريكا الشمالية وأوروبا وفترة أخرى للتقليل من شأن الإذلال اليومي لأولئك الذين يُجبرون على عبور نقاط التفتيش الإسرائيلية من أجل الذهاب إلى العمل، وعمليةُ أخرى من الاستفزازات المتزايدة حتى التفجيرات والعمليات العسكرية المقبلة وزيادةُ أخرى في التطهير العرقي من قبل قوة استعمارية عنيفة.." يبدو أن نظرة عالم الاجتماع البرتغالي بوافنتورا دي سوسا سانتوس، سوداوية لمستقبل القطاع والضفة الغربية بعد أشهر من الهمجية العسكرية الإسرائيلية التي غطتها القوى الغربية بشرعية "الدفاع عن النفس". يعود السوسيولوجي البرتغالي الى التاريخ ويقول "في مواجهة الفظائع التي ارتكبها النظام النازي الألماني ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، شعر الغرب أنه من واجبه الأخلاقي قبول المطلب الصهيوني لإقامة دولة يهودية". كان هذا هو السياق الذي قدمت فيه اللجنة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك، بعد فترة وجيزة من تأسيس الأمم المتحدة، اقتراحًا لتقسيم الأراضي". هذه الخطة التي نصت على تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية (تغطي 55 في المائة و45 في المائة من الإقليم، على التوالي)، على أساس المشروع الاستعماري الحديث الذي كان مشابهًا للعديد من مشاريع التقسيم الأخرى التي تهدف إلى إنهاء النزاعات التي لا تزال دون حل حتى يومنا هذا (كما هو الحال مع الكوريتين، أو الهند وباكستان). في الوقت الذي كانت فيه المشاركة في الأمم المتحدة من جانب دول الجنوب لا تزال منخفضة، تمت الموافقة على الخطة، حتى لو لم تعترف الدول العربية بدولة "إسرائيل" الجديدة. خرجت "إسرائيل" منتصرة من الحرب التي تلت ذلك ضد الدول العربية والقوات الفلسطينية (1948-1949)، واحتلت عدة مناطق، وبذلك أضافت حوالي 20000 كيلومتر مربع (75 في المائة من كامل فلسطين) إلى أراضيها. أمّا الأراضي المتبقية فقد احتلها الأردن الذي ضم الضفة الغربية، ومصر التي ضمت قطاع غزة. وشكلت هذه الأحداث مرحلة جديدة من العنف ضد الفلسطينيين، هذه المرة بسبب دولة "إسرائيل" التي تنطوي على تشريد ما يقرب من مليون فلسطيني، الذين أُجبروا على مغادرة المناطق التي ضمتها "إسرائيل". منتشرين بذلك في عدد من المخيمات الواقعة في بلدان الشرق الأوسط وبقية العالم، هو أصل ما يعرف بـ «القضية الفلسطينية». يشير الباحث إلى "أن الثقافة المشتركة التي طالما شاركها العرب المسلمون والمسيحيون واليهود تعرضت لانقسام عميق، فيما سيطلق عليه الفلسطينيون لاحقا بالنكبة". بالنسبة للباحث البرتغالي "لا شيء يُكتب دفاعًا عن الفلسطينيين يمكن أن يساعد في التخفيف من المحن التي مرّوا بها منذ إنشاء "إسرائيل"، وهي معاناة أكثر ظلمًا لأنها تسببت في التكفير عن الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون". ويضيف أن كتابات اليهود الداعين الى السلام، ليست ذات قيمة، بالنظر إلى الدعاية السامة التي يتعرضون لها، وهؤلاء كما يقول "لن ينأوا بأنفسهم عن المشروع الصهيوني الاستعماري الذي تنفذه "إسرائيل" في فلسطين. يواصل السوسيولوجي البرتغالي بالقول "عندما يكون الموضوع فلسطين، فإن الكتابة هي شكل من أشكال إدارة الغضب، وصرخة مكتوبة من اليأس والعجز". ومن المفارقات، يضيف، "أن هذه المأساة تكمن في المعنى الأساسي للمأساة الأخلاقية الحالية: فجرائم "إسرائيل" تبرز بوضوح مزعج زيف «الحقائق» التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تدعم بشدة السياسات الإجرامية السائدة اليوم". بالنسبة له "كلما أصبحت الأكاذيب وسوء النية سياسة دولة، يقف حسن النية والصدق والمقاومة ضدها. ولهذا «فالحجارة ضد القنابل هي شكل لمقاومة تدمير المعنى الأصيل للحقائق التاريخية في فلسطين". البروفيسور دي سوسا سانتوس يعتقد جازما أن" ما يحدث في فلسطين هو المِفك للزيف والنفاق الكامن وراء الآليات السياسية والعسكرية المهيمنة المستخدمة لضمان استمرارية «القيم الغربية» والتي تؤدي باستمرار إلى انتهاك تلك القيم نفسها". التزييف التاريخي اللاهوتي والتزوير السياسي بالنسبة للسوسيولوجي البرتغالي القدس ليست ولا يمكن أن تكون عاصمة لـ «إسرائيل". لقد كانت مدينة مقدسة لعدة قرون، وبالتالي فهي تنتمي إلى كل من يعتنقون الأديان التي تعيش داخلها جنبًا إلى جنب. الدول، وليس الشعوب، لديها رأس مال رمزي. أمّا "إسرائيل" التي تدّعي أنها دولة يهودية ليس لها الحق في القدس". يصرح الباحث «من العبث اللاهوتي أن يكون لـ «إسرائيل" عاصمة. ويسوق في هذا الصدد تصريحا سابقا لأحد الحاخامات يعقوب شابيرو في تأكيده «أن الشعب اليهودي ليس لديه عاصمة". يدّعي الغرب أن موقفه من الحروب والممارسات العسكرية التي تقوم بها "إسرائيل" مبرر بالحاجة إلى الدفاع عن الديمقراطية. يذكرنا الباحث بتوقيع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما اتفاقية تقديم المساعدة لـ «إسرائيل" حتى عام 2028، والذي صرح حينها "بأن الولايات المتحدة و"إسرائيل" «ديمقراطيتان نابضتان» تتشاركان في نفس القيم ويجب حمايتهما على قدم المساواة ضد أعدائهما". يصرح السوسيولوجي البرتغالي مؤكدا أن "هذا الادعاء خاطئ بشكل رهيب". ويضيف «إسرائيل" ليست أكثر ديمقراطية في ممارساتها من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. الفلسطينيون الذين يعيشون في "إسرائيل" (حوالي 21 في المائة من السكان) هم أحفاد حوالي 150.000 فلسطيني بقوا في الدولة التي أصبحت الآن "إسرائيل" وهم أقلية صغيرة يشار لهم "بعرب 48"، مقارنة بأولئك الذين تم طردهم من أراضيهم ويعيشون حاليًا في الأراضي المحتلة. إنهم مواطنون من الدرجة الثانية يعيشون في ظل قيود قانونية وسياسية شديدة، خاصة منذ وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة في عام 2009 وتنفيذ سياسته المتمثلة في إخضاع الطبيعة الديمقراطية لـ «إسرائيل" لطبيعتها اليهودية، وهو ما عّبر عنه دستور هذه الدولة في 2018 الذي تنص مادته الأولى أن "إسرائيل" دولة لليهود وهو ما يعني أنه لا مكان لأي فلسطيني فيها". يواصل الباحث بالتحليل قائلا "في مواجهة التآكل المستمر لحقوقهم، يكافح الفلسطينيون داخل "إسرائيل" من أجل المساواة في الحقوق، بينما يتخلى آخرون عن السياسة. وهذا ما يجعلهم يعيشون منقسمين بسبب معضلة «دولتي –الإسرائيلية- في حالة حرب مع أمتي –العربية-». أما الباطل الآخر فيتعلق بحكم الأراضي المحتلة. في فلسطين، كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم، لا يتم الاعتراف بالديمقراطية ما لم تكن لصالح المصالح الغربية. وبالنظر إلى أنّ المصالح الغربية ومصالح "إسرائيل" في فلسطين واحدة، فإن انتصار حماس الحر والنزيه في الانتخابات البرلمانية لعام 2006 (74 مقعدا في مجلس يضم 132 نائبا، مع حصول حركة فتح على 45 مقعدا) لم يعترف به. ولهذا يستنتج الباحث «لا يمكن فهم أحداث السنوات الستة عشر الماضية والحرب الأخيرة منذ أكتوبر 2023 دون فهم هذا القرار التعسفي من قبل الدول الغربية تحت ضغط من "إسرائيل" وحليفتها الأمريكية." التزوير السياسي.. مرة أخرى يجادل الباحث بالقول "إن الاستعمار لم ينته عندما حصلت المستعمرات الأوروبية على الاستقلال السياسي". ويضيف «لم ينته إلا شكل واحد من أشكال الاستعمار، وهو الاحتلال الأجنبي، لدول ضعيفة". ويضيف «نحن بحاجة فقط إلى التفكير في قبضة الاستعمار اليوم على الشعب الصحراوي. كأحد الأمثلة أيضا. وفي نفس السياق يواصل قائلا " في عصرنا هذا، اتخذ الاستعمار أشكالا جديدة، أبرزها العنصرية الهيكلية ونظام الفصل العنصري الذي فرضته "إسرائيل" في الأراضي المحتلة. والاعتراف بوجود الفصل العنصري يعني ضمنيا الاعتراف بوجود الاستعمار". في أبريل 2021، نشرت هيومن رايتس ووتش - أكثر منظمات حقوق الإنسان المؤيدة لأمريكا - تقريرًا يصف "إسرائيل" بأنها دولة فصل عنصري. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت في عام 1973 الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها (القرار 3068)، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1976. وفي الأراضي المحتلة (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة)، فإن الحكم الذاتي الفلسطيني يقع بالكامل في أيدي السلطة القائمة بالاحتلال. والقمع المنهجي والتمييز المؤسسي هما القاعدة التالية: مصادرة الأراضي، والتغيير القسري للإقامة، وفحص الفلسطينيين في أبسط حركاتهم، وإدارة المياه والكهرباء، والحرمان من الخدمات الأساسية (كما حدث سابقا مع لقاحات كوفيد أو تصريحات وزير الحرب الاسرائيلي عند بداية العمليات لعسكرية بقطع أي إمدادات إنسانية موجهة نحو من وصفهم "بالحيوانات البشرية"). يقول البروفيسور دي سوسا سانتوس "إن الاحتلال العنيف أدى إلى تحويل قطاع غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم". باختصار، الاستعمار المتشدد الذي يهدف إلى الإبادة". يتساءل الباحث "إذا اعترفت الأمم المتحدة بالفصل العنصري كجريمة ضد الإنسانية، فلماذا لا تتم محاكمة "إسرائيل" على مثل هذه الجريمة؟ ويُجيب قائلا " القيم الغربية تنطبق فقط عندما تناسب أولئك الذين لديهم القدرة على الاستفادة منها." مقارنات كاذبة على عكس ادعاءات "إسرائيل"، هذه الحرب لا تتعلق إطلاقا بمواجهة العنف بالعنف. يصرح الباحث"عدم التناسب بين هجمات حماس والرد الإسرائيلي أمر مُروِّع للغاية لدرجة أنه ببساطة غير مقبول كمبرر للموت العشوائي لآلاف الأبرياء". ويضيف «إسرائيل" لديها رابع أقوى جيش في العالم. عندما ننظر إلى اندلاع العنف المتكرر، نتذكر حقيقة أن الهجمات الإسرائيلية استمرت 51 يومًا في عام 2014 وقتلت أكثر من 2200 فلسطيني، من بينهم 551 طفلاً. هذه المرة، أسفر 15 شهرا من الحرب العنف عن مقتل أكثر من 46 ألفا على الجانب الفلسطيني، أغلبهم من الأطفال والشيوخ والنساء، بالإضافة إلى التدمير الوحشي للهياكل الأساسية في قطاع غزة، بما في ذلك المدارس والمستشفيات. "نحن نتحدث عن إرهاب الدولة، الذي يلجأ إلى أسلحة متطورة للغاية ومزودة من الولايات المتحدة لإبقاء شعب بأكمله في حالة إرهاب دائمة منذ عام 1948" يقول الباحث. الإعلام الصهيوني.. سردية كاذبة يرى السوسيولوجي البرتغالي أن "وسائل الإعلام العالمية ستخجل يومًا ما من معاملتها المتحيزة للأحداث في فلسطين". ويسرد لأجل ذلك مثالين. أبلغ الرأي العام العالمي أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة كانت بسبب الصواريخ والهجمات التي أطلقتها حماس يوم 7 أكتوبر 2023. وأن هذا كان كل ما حدث. ولكن قبل ذلك، ألم يكن هناك غزو للمسجد الأقصى في القدس؟، ألم يكن هناك أي إطلاق نار على رواد المسجد للصلاة في منتصف شهر رمضان المبارك؟ ألم تكن هناك هجمات استمرت شهورًا من قبل عصابات المستوطنين المتعصبين ضد المباني السكنية والتجارية في القدس الشرقية؟ وماذا عن تحويل قطاع غزة إلى مقبرة لسكانه؟ لذلك، يواصل الباحث «يقع اللوم إعلاميا بالكامل على حماس، و"إسرائيل" من خلال هذه السردية تدافع عن نفسها فقط". المثال الثاني: خلال الضربات الإسرائيلية، «يموت» الفلسطينيون في سرديات وسائل الإعلام وتمحى إنسانيتهم ببساطة، في حين أن الإسرائيليين «يقتلون على يد حماس» أو"يقتلون بهجمات صاروخية من القطاع". ربما كان إيلان بابي، المؤرخ اليهودي، هو الذي سأل نفسه أولاً، بكل كرب، كيف يمكن للمرء أن يتخيل أنه بعد أكثر من سبعين عامًا من "المحرقة"، سيخضع الإسرائيليون الفلسطينيين لنفس تكتيكات التدمير والإذلال والإنكار التي استخدمها النازيون ضد اليهود؟ لا توجد بالطبع غرف غاز لإبادة الفلسطينيين، لكن الشعب الفلسطيني يجد نفسه في حالة حرب إبادة، وهذا ليس تعارضًا بل هو مماثل لما حدث خلال الحرب العالمية الثانية. يقول الباحث " لا يمكننا تسمية ما حدث خلال الأشهر الماضية صراعًا إلاّ إذا كنا نتحدث عن دولتين، لكل منهما جيشها. لكن ما نتحدث عنه اليوم هو شيء مختلف تمامًا: الفصل العنصري والإبادة الجماعية. آخر ذرة أمل.. ومن الصعب الحديث في تقدير السوسيولوجي البرتغالي، عن الأمل بشكل لا يسيء إلى الشعب الفلسطيني. ولا يمكن أن يكمن الأمل في اتفاقات وقف إطلاق النار، لأن الغرض الوحيد منها كما يرى "هو التأكد من أن التحالفات بين القوى المسؤولة عن استمرار المعاناة الظالمة للشعب الفلسطيني لا تزال مستقرة، والتحضير لوقف إطلاق النار الذي سيعقب اندلاع العنف المقبل". والأمل الوحيد، في هذه المرحلة، كما يرى الباحث "يأتي من المجتمع المدني الدولي". يصرح مختتما «لقد شهدنا توسيع العديد من المبادرات التي على الرغم من اختلافها الشديد، تتلاقى في إمكانية دفع "إسرائيل" نحو زيادة عزلتها الدولية، والتي قد تؤدي أخيرًا - إذا لم يفت الأوان - إلى الامتثال لقرارات الأمم المتحدة.