في تعليقه حول توقيع اتفاق إطلاق النار في غزة، يعتقد الباحث السوسيولوجي رابح لونيسي من جامعة وهران "بأن نتن-ياهو قد كسب الكثير من هذا الاتفاق لأنه سيتخلص من ضغط كبير كان يتعرض له من عائلات الرهائن، بالإضافة إلى القضايا المتعلقة بالعدالة والتي سيواجهها حتما فيما بعد". يسجل الباحث "ملاحظة تتكرر دائما مع إسرائيل"، وهي على حد تعبيره "استغلالها فترة ما قبل وقف إطلاق النار لتحقيق عدة مكاسب هامة تضغط بها فيما بعد، وهو ما يفسر تكثيف عملياتها بعد الاتفاق مباشرة"، وقد سبق لها ذلك، كما يقول منذ 1948، ويضيف قائلا " لا يستبعد أن تتماطل "إسرائيل" الآن، وتضغط على حماس بقبول ما تريده، وما تُمليه عليها، وإلا ستواصل جرائمها ضد المدنيين العزل، وتُحمِّل حماس مسؤولية ذلك، فتضطر المقاومة إمّا أن تقبل بكل ما يملى عليها أو تدفع بذلك جزءا من الفلسطينيين لمواجهة حماس وعزلها نهائيا" وهو الهدف الذي سطرته "إسرائيل" في بداية العمليات العسكرية. يحلل الباحث قائلا "عندما نتتبع مسار كل المفاوضات الإسرائيلية مع تنظيمات أو دول عربية، سواء في بنودها أو لدى المشرفين عليها سنرى أن -إسرائيل- مهووسة بأمنها"، وهذا يعود تفسيره بالنسبة للباحث "إلى صغر مساحة الكيان وإمكان سقوطه بسهولة عند أي هجوم كبير"، ولهذا تفضل "إسرائيل" يواصل الباحث، إقامة خطوط دفاعية لها بعيدة جدا عن حدودها بالاستيلاء على آراضي الجيران. مثلما حدث مؤخرا غداة انهيار النظام في سوريا. يرى البروفيسور لونيسي أن " الهوس الأمني لإسرائيل ورفضها انسحاب من آراض احتلتها هو نظرة صهيونية واضحة، بسبب ما يعتبره غلاة الصهيونية المأساة التاريخية لليهود وحرصهم على عدم تكرارها". يلاحظ الباحث أيضا ما يرى أنه " تأثير الدين والتوراة على كل تلك المفاوضات" ويصرح «ترفض «إسرائيل" الانسحاب من أراضٍ تُعدها إسرائيلية بحكم التوراة أو التاريخ، فحتى ولو قبل حكامها العلمانيين أي انسحاب منها، فإنه يجب عليهم الأخذ بعين الاعتبار المتطرفين الدينيين الذين عادة ما يكونون في الحكومات، ويؤثرون بشكل كبير على قراراتها وصناعتها" مثلما هو حاصل اليوم في تشكيلة الحكومة اليمينية التي يقودها نتنياهو. في نفس السياق يذكر الباحث أن "إسرائيل" في كل مفاوضاتها تتماطل كثير بحكم تأثيرات داخلية، خاصة داخل حكوماتها التي هي حكومات ائتلافية، ولهذا تجد دائما أي وزير أول إسرائيلي يوظف ذلك في رفض أي تنازلات بدعوى تجنب سقوط الحكومة المفاوضة بانسحاب المتطرفين منها وإجراء انتخابات عامة جديدة، وهو ما حصل مع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير بابتزاز نتنياهو. يضيف البروفيسور لونيسي "إن هذا الهوس الأمني يجعل –إسرائيل- ترفض دائما الانسحاب من الأراضي التي استولت عليها إلا بمقدار ما يضمن أمنها، وهو ما يظهر بجلاء مثلا انسحابها من مساحات شاسعة من سيناء لأن المساحة واسعة، لكنها رفضت أي انسحاب من الجولان باستثناء القنيطرة، خاصة مرتفعاتها ولو بمتر واحد بحكم قربها من الحدود، فـ "إسرائيل" لا تتبنى مسالة الأرض مقابل السلام كما يطالب العرب، بل تطالب بالتطبيع والسلام مع العرب، لكن مع ضمانات عملية ومؤكدة على الأرض". من جهة أخرى يرى البروفيسور لونيسي "من الصعب على الولايات المتحدة الضغط على "إسرائيل" في مختلف المفاوضات كي لا تتحرك وسائل الإعلام وجماعات الضغط اليهودية في أمريكا على أي رئيس يحاول القيام بذلك، خاصة منظمة إيباك". لكن في نفس الوقت يضيف الباحث، "تخشى "إسرائيل" من أي تخلٍّ أمريكي عن حمايتها، ولهذا ترتعد فرائصها من كل دولة عربية تتقرب من أمريكا التي تتحكم في دبلوماسيتها في منطقة الشرق الأوسط". أما بالنسبة للالتزام الأمريكي بحماية "إسرائيل" مع "ضرورة الحفاظ على علاقات جيدة مع العرب" يصحح الباحث بالتأكيد أن "ليس صحيحا القول بأن واشنطن لا تريد السلام في منطقة الشرق الأوسط، بل العكس تماما، كما يعتقد "الولايات المتحدة ترغب في حل المشكلة نهائيا كي لا تتعرض مصالحها للضرب وللضغوط، وتفقد الرأي العام العالمي، خاصة مع انقلاب الكثير من الحكومات على ممارسات "إسرائيل" خلال الأشهر الأخيرة". مما يجعل السكوت عن جرائم "إسرائيل" مستقبلا أمرا صعبا. صفقة غزة.. من المستفيد؟ في تحليل البروفيسور لونيسي، الاتفاق بين حماس و"إسرائيل" أو ما سمي بـ "صفقة غزة" قد أصبح " محل توظيف واستغلال في إطار صراع أيديولوجي لعبت فيه قطر وذراعها الإعلامية -قناة الجزيرة" دورا بالغا باعتبارها أحد أطرافه". بصيغة التشاؤم يعتقد الباحث في تحليله للهوس الأمني الإسرائيلي أن «بعض التيارات تدفع إلى زرع أوهام حول هذا الاتفاق، لا تمت بأي صلة بالواقع والحقيقة". في السياق ذاته يصرح البروفيسور لونيسي أنّ «المدنيين العزل في غزة، وفلسطين بأكملها، تعرضوا خلال الشهور الماضية لأبشع أنواع الاحتلال والتقتيل والدمار" ويتعرضون اليوم "إلى استغلال لا أخلاقي لأيديولوجيات تسعى للترويج لصالحها والتوسع على حسابه، وكذلك أنظمة تبحث عن شرعية شعبية باستغلال القضية الفلسطينية والمتاجرة بها". يتأسف الباحث بالقول إن بعض المراقبين البعيدين عن المنطقة وعن مأساة الفلسطينيين يروجون لفكرة أن "خروج سكان غزة على أنه فرح بالاتفاق وتعبير منهم عن النصر، وما هو في الحقيقة، حسبه "إلا تعبير عن توقف مأساة القتل والتدمير والإجرام الذي تمارسه "إسرائيل" ضدهم لمدة42 يوما-حسب الاتفاق-، لكي يتنفسوا قليلا، وينتظرون ما ستسفر عنه المرحلتين الثانية والثالثة للاتفاق لعلّهما ستوقف الحرب نهائيا بغض النظر عن ما لحق بالمقاومة الفلسطينية من ضعف على المدى القريب والمتوسط بفقدانها إيران التي كانت تدعمها، لأنه لا يمكن اليوم إيصال السلاح إليها بعد ما سيطر الإسلاميون الموالون لأمريكا على سوريا التي تعدّ المعبر الوحيد لذلك السلاح، يضاف إلى ذلك فقدان دعم حزب الله الذي شُلت قدراته كثيرا في هذه الحرب، وقد يرضخ مستقبلا لكل ما يُملى عليه سواء من الخارج أو داخل لبنان بعد ما وصل جوزيف عون إلى الرئاسة بدعم عالمي" وحرصه في برنامجه على نزع سلاح حزب الله وهو الذي قال في خطابه أمام مجلس النواب بأنه سيعمل على احتكار الدولة للسلاح". يقول الباحث لونيسي "لم يبق إلا الحوثيون في اليمن الذين سيتم تحطيمهم بضربات إسرائيلية وأمريكية". ولهذا بالنسبة له "فإسرائيل بإمكانها إقناع العالم أن رغبة حماس في السلام هو موقف تكتيكي بسبب فقدانها كل شيء، كما أن توقف الحرب 42 يوما هو في خدمة "إسرائيل" كي يستعيد جيشها أنفاسه لأنه غير قادر على خوض حرب طويلة الأمد، كما حققت "إسرائيل" الكثير، فهي معروفة منذ بداية الصراع العربي-الإسرائيلي بمحاولاتها تضييق الخناق على خصومها بشكل يدفعهم-خاصة الفلسطينيين- إلى التخلي عن أهدافهم الإستراتيجية لأهداف ثانوية وليست رئيسية. ويُذّكر الباحث بحصار الرئيس الشهيد ياسر عرفات في رام الله، ويضيف أن "إسرائيل" حاصرت، واستباحت دماء من الفلسطينيين في غزة، ممّا جعل جزءا من شعبها يطالب فقط بالسلام وإنهاء التقتيل لا غير"، ويحذر الباحث من التلاعب السياسي واستغلال القضية قد "يدفع بجزء من الفلسطينيين إلى الانقلاب بقوة ضد حماس، لأن السرديات المعلنة والبروباغاندا الموجهة تدفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأنّ حماس هي التي جرّت الفلسطينيين إلى مواجهة غير متكافئة. هل تحدث انقسامات داخل حماس؟ في استشرافه للمستقبل يقول الباحث لونيسي إن الخطر «هو فرضية حصول انقسامات حادة بداخل حركة حماس، وهو نفس الأمر الذي عرفته سابقا منظمة التحرير الفلسطينية التي انتقلت من المطالبة بكل فلسطين إلى المطالبة بدولة على جزء صغير منها فقط يقِلّ بكثير جدا عما أقرّه قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في29 نوفمبر1947، ثم أصبحت اليوم مجرد سلطة، وممكن تقوم بمكافحة كل من يمس بأمن "إسرائيل"، مثلما هو حاصل اليوم في مخيم جنين". بالمقاربة التاريخية، يصرح البروفيسور لونيسي أنه من الخطر أن "تمر حماس بنفس المسار الذي مرت به منظمة التحرير الفلسطينية لأنّ الحركة كما يعتقد "ليست لها خطوط حمراء لا يمكن التنازل عليها كما فعلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية أثناء ثورتها ضد استعمار استيطاني فرنسي عندما وضعت هدفا إستراتيجيا واضحا لا يمكن التنازل عنه مهما كان الثمن ورفضها أي وقف لإطلاق إلا بعد الاعتراف الفرنسي بذلك الهدف وهو السيادة الجزائرية التامة على كل ترابها الوطني". ويبدي البروفيسور لونيسي قلقه بالقول "من غير المستبعد أن تقام سلطة لحماس في غزة شبيهة بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، خاصة بعد ما ظهر بأن الكثير من الإسلاميين يمكنهم أن يقيموا علاقات وطيدة مع أمريكا، ولا يهمهم إلاّ السلطة مثل الجولاني وتنظيم تحرير الشام في سوريا. ويبدو أن أمريكا تعي ذلك جيدا بحكم التاريخ والتجربة، فهي لم تجد لها حليفا في تاريخها في منطقة الشرق الأوسط مثل الوهابيين في السعودية الذين يخدمونها بتفان وإخلاص، وهو نفس ما تسعى لتكراره في كل الدول العربية والإسلامية".