2025.05.15
نوستالجيا

"أفريل.. شهر العِلم" في الجزائر.. صدى وفاة "ابن باديس" في الصحافة والتقارير الفرنسية (الجزء الأول)


أكثر من خمسين ألف جزائريٍّ شيّعوا، يوم 17 أفريل 1940، جنازة فقيد العلم والإصلاح والوطنية الإمام "عبد الحميد بن باديس"، وقد أثار نبأ وفاته أسئلة كثيرة في الصحافة المحلية والدولية، من ذلك أن إذاعة ألمانيا وجّهت إلى سلطات الاحتلال الفرنسي تهمة قتل الشيخ "ابن باديس" بالسّم "كما فعلت بمعظم العلماء"، وقالت: "والشعب الجزائري اليوم يطالب بفديته وسينتقم له آجلا أو عاجلا".

أحدثت وفاة الإمام "ابن باديس" زلزلة عنيفة في كيان الأمة الجزائرية لأن المشاريع الإصلاحية الكبرى كانت مرتبطة به، وكان التخوّف على مستقبلها ومصيرها، وأيضا على مستقبل ومصير "جمعية العلماء المسلمين" وما يرتبط بها من مدارس ونوادي وصحف.. أما بالنسبة للاستعمار الفرنسي، فقد كان الإمام "مصدر قلق للإدارة الاستعمارية حتى أيام مرضه"، و"ظلت السلطات الفرنسية تخشى على سلطانها في الجزائر من حركة ابن باديس القوية حتى قبيل وفاته وهو على فراش المرض الذي لفظ على إثره أنفاسه الأخيرة"، وفق ما جاء في تقرير الشرطة السريّة الفرنسية الصادر في شهر أفريل سنة 1940. كان يُنظر إلى الإمام "ابن باديس" بأنّه الرجل المُلّخص للأمة الجزائرية وأملها في التحرّر من الجهل والأكاذيب الاستعمارية.. فقد كتبَت جريدة "الوفاق" الصادرة بالفرنسية تعليقا في عددها الصادر يوم 9 ماي 1940 جاء فيه: "كان ابن باديس رجل الوطن الوحيد وهو الجزائر، وصاحب فكرة واحدة وهي الإسلام، وكان يتطلّع إلى أن يبذل الرجال في الجزائر جميع جهودهم كي يتفقوا، ويتضامنوا، ويتوّحدوا، وكان قد بارك هذه الوحدة في الحركة الشعبية سنة 1936، ولكن بعض الرجال وبعض الأحزاب خيّبوا آماله فيما كان يطمح إليه". وأطلق أحد المحامين الفرنسيين هذه العبارة: "ابن باديس العظيم رسول الحرية والديمقراطية"، فإذا كانت هذه رؤية فرنسي للإمام، فلنا أن نتخيّل رؤية الجزائريين لشيخهم والمكانة التي كان يحتلّها في قلوبهم والآمال التي كان يعقدونها عليه. نشر الأستاذ الدكتور الجزائري "بوصفصاف عبد الكريم" (1944 - 2017) مقالا تناول فيه "صدى وفاة ابن باديس في التقارير الفرنسية والصحافة الأهلية عام 1940"، وتُعيد جريدة "الأيام نيوز" نشره في سياق "أفريل.. شهر العِلم" في الجزائر. وفيما يلي نترك القارئ الكريم مع المقال.. ظهور الشخصيات الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين عرف النصف الأول من القرن العشرين ظهور شخصيات فذّة في الجزائر حملت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن الشخصية الوطنية بكل مقوّماتها التاريخية والحضارية، انطلقَت إلى ذلك من معطيات أساسية داخلية وخارجية، ففي الداخل كان هناك تردّي للأوضاع الاجتماعية على كل المستويات الدينية والثقافية والسياسية، بسبب السيطرة الاستعمارية على كل شرايين الحياة في البلاد. أما في الخارج، فكان هناك تأثير قادة الفكر الإسلامي - المعاصر - الذين جنّدوا كل الطاقات الفكرية والمادية لنشر الإصلاح الإسلامي، ومحاربة الجمود الفكري والأمراض الاجتماعية المتفشّية في المجتمعات الإسلامية من جرّاء المد الاستعماري الأوروبي، وكان الشيخ "عبد الحميد بن باديس" من أهم تلك الشخصيات وأبرزها في الإصلاح والوطنية. إن هذا الرجل منذ أن أبصر النور في شهر ديسمبر 1889م، وهو يضيق ذرعا بالاستعمار وأعماله الوحشية في الجزائر.. ومع نمو عقله واتساع مداركه العلمية والوطنية تحوّل من مستاءٍ إلى مدافع تارة ومهاجم لسلطات الاحتلال وأعوانها تارة أخرى، وليس من هدف الكاتب في هذا البحث المتواضع تتبّع المراحل الرئيسية في حياة هذا الزعيم الوطني الغيور، وإنما الغرض من هذه العجالة هو استكشاف الآثار التي تركتها وفاة "ابن باديس العظيم رسول الحرية والديمقراطية" على الجماهير الإسلامية عامة والحركة الوطنية خاصة حسب ما جاء في التقارير الفرنسية، وبعض الصحافة الأهلية الصادرة باللغة العربية والأجنبية عقب تشييع جنازة الشيخ "عبد الحميد بن باديس" إلى مثواه الأخير، يوم 17 أفريل سنة 1940، تغمّده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنانه. ابن باديس العظيم رسول الحرية والديمقراطية وعبارة "ابن باديس العظيم رسول الحرية والديمقراطية" أُخذت من نصٍّ افتتحَ به المحام الباريسي الكبير الأستاذ "نردمان" خطابه في الحفلة التي أقامها الشباب الديمقراطي الجزائري لأحد رفقائهم المُسمّى "کرایه حمو"، بمناسبة براءته من التهمة التي حاول الاستعمار إلصاقها به، وقد جاء هذا المحامي من باريس خصِّيصا للدفاع عنه. وكان عنوان خطابه: "أحيي مدينتكم الجميلة قسنطينة التي لم تكن في نظري مدينة "لاموريسيار" كما يدعونها، وإنما هي مدينة ابن باديس العظيم.. (نقلا عن جريدة "الشعلة": عدد 31، قسنطينة 13 جويلية 1950، صفحة 2). خمسون ألف جزائري يشيّعون فقيد العلم والوطنية ظلت السلطات الفرنسية تخشى على سلطانها في الجزائر من حركة "ابن باديس" القوية حتى قبيل وفاته وهو على فراش المرض الذي لفظ على إثره أنفاسه الأخيرة، ورغم أن هذه السلطات نفسها اعترفت بأنها كانت على علمٍ بمرض الشيخ "ابن باديس" لمدة شهور عديدة قبل موته، حيث جاء في تقرير الشرطة السريّة الصادر في شهر أفريل سنة 1940 ما يلي: "إن الشيخ عبد الحميد بن باديس، رئيس جمعية العلماء المصلحين الجزائريين، الذي كانت صحته متدهورة وسيّئة للغاية منذ شهور، قد توفي في يوم 16 أفريل بقسنطينة، وشيّعت جنازته في اليوم التالي 17 أفريل في وسط جموع غفيرة تُعدّ بالآلاف من سكان المدينة، ومن الذين جاءوا من مختلف أنحاء القُطر". وسكنَت في قسنطينة - المدينة الكبرى - حركتُها الدائمة العظيمة واستحالت إلى هدوء شامل عميق يسير في موكب جنازة فقيد العلم والوطنية الجزائرية، "وكان المشيّعون خمسين ألفا أو يزيدون"، وقد حمل الفقيد على أعناق تلامذته وحدهم إلى مقرّه الأخير، ومشى في موكب الجنازة عددٌ كبير من النساء الصالحات اللائي كُنّ يواظبن على حضور الدروس التي كان يلقيها الأستاذ الراحل على النساء المسلمات بالجامع الأخضر، كما شاركت في موكب الجنازة "جمعية الكشافة الإسلامية"، وسائر الجمعيات والهيئات والفرق الإسلامية كلها، وكان يتقدم هذا الموكب الرهيب الشيخ العربي التبسي، والشيخ مبارك الميلي، والدكتور محمد الصالح بن جلول الذين أبّنوا الفقيد كلّهم بخطبٍ كان لها تأثير بالغ في نفوس الحاضرين. وبناء على قرار الشرطة الفرنسية السابق الذِّكر، فإنّ "ابن باديس" الذي كان مصدر قلق للإدارة الاستعمارية حتى أيام مرضه، فإن وفاته قد تركت حزنا عميقا في النفوس، ولا سيما في عَمالة قسنطينة التي كان فيها نفوذه قويا إلى حدٍّ بعيد، وقد كان لهذا الشعور الأليم أثر بالغ الخطورة على "الحزب الإصلاحي" الذي كان المحرّك الرئيسي للحركة. "الإبراهيمي" يخلف "ابن باديس" من إقامته الجبرية ولكن رغم ما أحدثته وفاة "ابن باديس" من يأس عميق في نفوس المصلحين، فإن خطّة الجمعية والأفكار التي كانت موجودة لم تتغير بفضل قادتها المعروفين مثل: الشيخ مبارك الميلي، العربي التبسي، الشيخ البشير الإبراهيمي الذي خلف الرئيس في قيادة الجمعية فيما بعد، رغم أن الإبراهيمي كان قد وُضع تحت الإقامة الجبرية منذ أفريل سنة 1940 في "آفلو"، وتوقفت الدروسُ في دار الحديث التي كان يديرها في تلمسان بعد نفيه. وقد يتساءل المرء كيف أن "الإبراهيمي" حسب التقرير السابق قد خلف "ابن باديس" في رئاسة الجمعية وهو تحت الإقامة الجبرية منذ 8 أفريل (أي قبل وفاة ابن باديس بثمانية أيام)؟ إن هذه الخلافة في الواقع لم تكن إدارية فعلية، ولكنها كانت اعتبارية على أساس أنه النائب الأول في المجلس الإداري والشخصية الثانية في الجمعية بعد انسحاب الشيخ "العقبي" من عضويتها في خريف 1938، وأنه كان محل الثقة والموافقة من زملائه العلماء، فتولّى رئاسة الجمعية بعد الإفراج عليه سنة 1943 "فكان الرئيس، وكان المعلّم، وكان الصحفي، وكان الكاتب، وكان الخطيب، وكان الباني، وكان المبّشر". والواقع أنه بعد وفاة "ابن باديس"، صار الناس يتساءلون في كل مكان عن مصير المشاريع العمومية التي كان يتزعّمها القائد الراحل، فبالنسبة لمدرسة التربية والتعليم الإسلامية في قسنطينة فقد بقيت قائمة على أصولها يشرف على إدارتها وعلى توجيه التعليم فيها الشيخ "عبد الحفيظ الجنان" الذي اختاره "ابن باديس" لتلك المهنة. وبخصوص "مطبعة الشهاب" (الإسلامية الجزائرية) فقد ظلت هي الأخرى تقوم بالأعمال التجارية وغيرها فترة من الزمن، ويقوم على تسييرها "أحمد بوشمال" الذي كان يتمتّع بمكانة خاصة عند الشيخ "ابن باديس". وأما التعليم في "الجامع الأخضر"، فإن المسلمين الجزائريين طلبوا أن يستمر هذا التعليم الحر كالعادة ورشّحوا الأستاذين "العربي التبسي" و"مبارك الميلي" ليكونا خليفتَين للفقيد في التعليم والتدريس، وأوكلوا مهمة طلب الحصول على موافقة المسؤولين على الشؤون الأهلية في الجزائر إلى جماعة من النواب المسلمين من بينهم الحكيم "ابن جلول". أما فيما يتعلق بتسيير شؤون المجلس الإداري لجمعية العلماء، فإنه بعد تشييع جنازة "ابن باديس"، كان الجميع يتوقّعون تولية المهام الإدارية في الجمعية من طرف الكاتب العام (العربي التبسي أو الشيخ مبارك الميلي، أو من قبل مجلس يتكون من عضوين هما: الشيخ خير الدين، والشيخ بوشمال بقسنطينة). وعلى أية حال فمهما كانت الآراء متفقة أو مختلفة على من سيرأس الجمعية بعد وفاة "ابن باديس" مباشرة، فإن الحركة الإصلاحية قد فقدت أكبر زعيم لها، حيث تلاحظ التقارير الفرنسية أن وفاة "ابن باديس" كان لها أثر عميق في نفوس الجماهير الجزائرية المسلمة، وخاصة في أوساط المصلحين سواء أنصار الجمعية أو اتباع "العقبي"، فهذا الأخير بالرغم من الخلافات التي كانت بينه وبين "ابن باديس"، فقد تأثر هو الآخر وتأسف بحسرة في مواقف متعددة، واتضح ذلك في خُطبه ومقالاته التي كان ينشرها في "جريدة الإصلاح".