2025.05.15
بحثا عن الجيم

بحثا عن الجيم (16)


الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.

وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر. الطفل في الجزائر محبوب "بزّاف" جرت العادة في بعض الدول بتسميةِ مدينةٍ صديقةً ومُحبّةً للأطفال، سعيًا إلى تمهيد أرضية تهتم بالأطفال وتلبّي احتياجاتهم. وإذا كانت بعض الدول الأخرى تخطط لإقامة مشاريع اجتماعية ومدنيّة لتأسيس مُدن صديقة للأطفال تتماهى واحتياجات عالم البراعم والبراءة والطفولة، فمن وجهة نظري الشخصية أنّ الجزائر من أكثر البلدان كفاءة لتُسمَّى: "البلد الصديق والمُحِبّ للأطفال"، فالأطفال محبوبون فعلا في كل أرجاء هذا البلد الذي يشكل قارّة بحجمه ومساحته، ويحظى عالم هؤلاء الملائكة الصغار بمكانة كبرى واهتمام بالغ ومحبّة عميقة. هذا ما لمسته وفوجئت به منذ أيامي الأولى في الجزائر، عندما كنّا نمشي في الشوارع والأحياء ونتجوّل في مراكز التسوّق والمحلات.. وكنت أرى تصرّف الناس حتى مع ابنتي الصغيرة، فواحدٌ يمسح على رأسها بحنانٍ وآخر يقبّل يدها، والكل يبتسم ويقول: "الله يبارك". لم يرُق ذلك لزوجتي في بداية الأمر حيث كانت تتذمّر في بعض الأحيان، كما كنا نستغرب من ذلك التصرّف الذي لم نكن قد تعوّدنا عليه، مما جعلنا نتساءل: لماذا يتصرّف الناس هكذا؟ حتى بالنسبة لابنتي، بدا الأمر غريبا بالنسبة لها، من خلال تخوّفها وانزعاجها، بدايةً حين اقترب شخصٌ غريب ولمسها من دون معرفة أو توقّع، لكونها كانت قد تعوّدَت على أن هذا التصرف لا يبدر سوى من أحد الأقارب أو أفراد العائلة مثلا. لكن مع مرور الوقت عرفنا أن حب الأطفال شيء طبيعي في الجزائر، فالناس يعبّرون عن محبّتهم الكبيرة للأطفال من خلال تدليلهم بشكل زائد وكبير و.. "بزّاف".. وهي أحد المفردات التي تعلّمتها من الدارجة الجزائرية. الشرطي في الشارع حين يرى الطفل مع والديه يفتح لهم الطريق، وكذلك يفعل صاحب المحل حين يشاهد امرأة تحمل طفلا صغيرا فيقدّمها على الآخرين، وأيضا الناس في الشوارع حين يصادفون الأطفال يتعاملون معهم وكأنهم من أبنائهم.. والطبيبة التي نذهب إليها تتعامل مع ابنتي كأنها والدتها أو خالتها أو إحدى قريباتها، إلى درجة صارت ابنتي في البيت تقول لنا: "خذوني إلى السيدة الطبيبة الحنونة". الطفل محبوب في الجزائر حتى قبل المولد! خطر ذلك ببالي حين كنت أدخل القاعة في معرض الكتاب، وتقدّمتني في الصفّ امرأةٌ حامل، والشرطي المُكلّف بالتفتيش على جهاز السّكانر طلب منها أن تدخل من دون المرور داخل السكانر، لما يشكّله هذا الجهاز من خطرٍ مُحتمل على الطفل في بطن أمّه. استحسنتُ ذلك، ولن أنسى أبدا كيف تصرّف وكأنه يساعد ابنته التي تحمل له أعزّ حفيد.. هذا الاهتمام بالمرأة الحامل لم أشاهده في أيّ بلد آخر مثلما أشاهده في الجزائر.. لم يكن ذلك هو المشهد الوحيد بل تكرّر في مرّات عديدة. لعلّ هذا السلوك الإنساني المنتشر في المجتمع الجزائري قد نشأ تأسِّيًا بسُنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومقولته المباركة: "احترموا صغاركم". كما أن الجزائريين مُتمسّكون أيضا بالجزء الأول من هذه المقولة للنبي الأكرم، حيث قال: "وقّروا كباركم"، وقد شاهدت من رفعة الأخلاق وحسن الأدب عند الشباب تجاه الكبار في السن في هذا البلد ما يستحق التّنويه والاستحسان والشكر والتقدير. ربما لا تكفينا ساعات وصفحات لنتحدث ونكتب عن مفعول وتأثير هذا السلوك على الحياة اليومية وما يخلقه من ارتياح نفسيٍّ ومحبّة ووئام وهدوء عاطفي وسلام اجتماعي.. ودوره في تفعيل الراحة النفسية في التّجمعات السكنيّة الصغيرة والأحياء، فالولد لا يشعر بأنه ابن عائلة صغيرة فقط بل يرى كل الناس المحيطين به يهتمون به ويحبونه، وهذا ما أمرنا به ديننا الحنيف لتكون أمّتنا واحدة، ومجتمعاتنا قوية آمنة، وحياتنا سليمة، وهذا ما تتميز به الجزائر ولله الحمد.