الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.
وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
بناءً على خبرتي الطويلة في حقل الصحافة والكتابة، وجدت أنه كلما أكتب شيئا وأنا غاضب، سيقرأه الجمهور بغضب، والعكس بالعكس؛ لو كتبت والسعادة والسرور يغمران قلبي فإن الجمهور يقرأ ذلك بفرح وسرور.. وهكذا، لو كتبت والدموع تنهمر من عيني، سيقرأ القارئ ذلك وهو يبكي ويشعر بحرقة الكلمات، حتى بعد عشرات السنين وعلى بعد مئات أو آلاف الأميال! وكأن للكلمات حرارة تتنقل عبر الأجيال، وما فيها من المشاعر والأحاسيس الملتهبة لا تفتر ولا تبرد! طرقَ اليقينُ بابي عند سماعي النشيد الوطني الجزائري لأول مرّة. كنّا في قاعة "مفدي زكريا" في قصر الثقافة، ومع بداية النشيد الوطني الجزائري قام الجميع وبدؤوا يردّدون كلماته مع المُنشدين على وقع اللّحن الموسيقي، وكّما تردّد مقطع: "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، كنت أتابع تصرّفات الحضور بفضول وأرى مشهدا مؤثّرا جدا. البعض وضعوا أيديهم على قلوبهم، والبعض الآخر أغمضوا أعينهم متفاعلين مع النشيد الوطني، ورأيت أحدهم يبكي على وقع الكلمات! طرقَ اليقينُ بابي حين سمعت النشيد الوطني الجزائري لأول مرّة. كنّا في قاعة "مفدي زكريا" بقصر الثقافة، وما إن بدأ عزف النشيد حتى وقف الجميع وراحوا يردّدون كلماته مع المنشدين على وقع اللحن. وكلما تردّد مقطع: "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، كنت أتابع وجوه الحاضرين بفضول، وأرى مشهدًا مؤثرًا بحق؛ بعضهم وضع يده على قلبه، وآخرون أغمضوا أعينهم متفاعلين مع الكلمات، ورأيت أحدهم تدمع عيناه تأثرًا بالنشيد. استغربت وسألت نفسي: أليس هذا النشيد يُسمَع مئات المرّات؟ أليس مجرّد نشيد رسمي يُفتَتح به أي احتفال؟ ظلّ هذا التساؤل يراودني حتى وجدت الجواب بعد فترة قصيرة، حين قرأت عن "مفدي زكريا"، ثم زرت قبره في غرداية لاحقًا. يومها أدركت كيف وُلِدت كلمات النشيد في ظلمات سجون الاستعمار، ففهمت سرّ تلك الحرقة التي تغمر الحناجر كلّما ردّدوا: "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر". نعم، لو كتبتَ بألمٍ سيقرأ الناس ما كتبته بألمٍ أيضًا حتى بعد عشرات السنين، وها هي أجيال الاستقلال والحرية تقرأ بفخر واعتزاز ما كتبه "مفدي زكريا" بدمه في وحدة ووحشة الزنزانة المظلمة. لو كتب بألم، سيشعر به القارئ حتى بعد مئات السنين، ولو كتب بغضب، سيلمسه القارئ بكل جوارحه. وهذا ما نستشعره ونستشفّه في كل كلمة خطّها "مفدي زكريا"، ونحسّ في طياتها بكل ما ذاقه هذا الشاعر من عذابٍ وتنكيل، وبما عاناه الشعب الجزائري من ويلات الاستعمار الفرنسي المدمّر. كل ما كان يعتصر قلب "مفدي زكريا" من آلام وأوجاع، وكل ما حملته روحه وجسده من جراح، ما زلنا نشعر به حيًّا نابضًا في كلمات النشيد الوطني، وكأنها صرخة تاريخٍ ما تزال تتردّد في الذاكرة الجماعية. إن الشاعر جعَلنا ندرك من خلال كلماته مدى الآلام والأسى واللظى والترهيب والتدمير والتنكيل والعذابات المريرة التي عاشها الشعب الجزائري تحت نير الاستعمار. لقد جسّد "مفدي زكريا" كل تلك المعاناة على أرض الواقع من خلال ما خطّت يداه من روعةِ كلماتٍ تهتزُّ من قوة معانيها الجبالُ الشّامخات وينحني إجلالا لجمالها نخيلُ الجزائر الباسق. كلمات فيها سحرٌ وروعة وجمال، تقع في الأذن ثم تستقرّ في القلب.. الكلمة لا تموت، والشعور لا يضيع، والحقيقة تبقى خالدة خلود الأبد. وتكرّرت التجربة معي وشهدها الملايين في إيران عندما بثّ التلفزيون الإيراني برنامجا خلال شهر رمضان استضاف فيه امرأة جزائرية، فقد تم تقديم نشيد "من جبالنا" على الهواء مباشرة، تكريما لهذه الجزائرية وللشعب الجزائري الأبي ولشهداء الثورة الخالدين. تأثّرت ضيفةُ البرنامج بشدة وبدأت تبكي.. وقد تبيّنتُ لاحقا بأن جدَّها كان من أعضاء ثورة التحرير الوطني الذين استشهدوا تحت التعذيب في سجون الاحتلال الفرنسي. في تلك الليلة التي بُثّ فيها البرنامج، دمعت الكثير من العيون في إيران، وتم تداول المقطع بشكل كبير جدًّا في وسائل التواصل الاجتماعي. قال لي أحد الإخوة الجزائريين بعد ذلك: "حتى أنا، حين أسمع هذه الأناشيد، يرتعد جسدي وتفيض الدموع من عيني. لقد غرسوا فينا في مدارسنا ما يكفي من حب الوطن والأمة الإسلامية. هذه الأناشيد تؤثر فينا لأن فرنسا قتلت من كل العائلات الجزائرية، وشهداؤنا دماؤهم ما تزال ساخنة." نعم، إن للكلمات حياة وهي لا تموت، تبقى حيّة عبر الأعصار والدهور، تبقى تتفاعل مع وجدان الأجيال، وتخاطب الأسماع المُنصتة والقلوب اليقظة. تظل تنادي من لا يزال فيه ذرة وفاء لذاكرة الشهداء ولرسالة الأوطان.