تخوض الجزائر اليوم سباقًا اقتصاديًا نحو الريادة في إفريقيا، مستندة إلى إصلاحات اقتصادية عميقة واستثمارات استراتيجية ورؤية تنموية تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز الإنتاج المحلي. ومع تصدرها المركز الثالث ضمن أكبر اقتصادات القارة وتحقيقها نموًا ملحوظًا، تزداد الطموحات من أجل تحسين موقعها القارّي، عبر تجاوز مصر وجنوب إفريقيا لتصبح القوة الاقتصادية الأولى في القارة.
لطالما كانت الجزائر لاعبًا رئيسيًا في المشهد الاقتصادي الإفريقي، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولًا لافتًا عزّز موقعها بين أكبر اقتصادات القارة. وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي لعام 2024، حققت الجزائر قفزة نوعية في ترتيب الاقتصادات الإفريقية، إذ احتلت المركز الثالث، مسجلةً نموًا مميزًا في ناتجها المحلي الإجمالي. يعكس هذا التصنيف التحسن المستمر في الأداء الاقتصادي الجزائري، المدعوم بسياسات تهدف إلى تعزيز الإنتاج الوطني وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على المحروقات.
رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، أكد في خطاب له في ماي 2024 أن هذا الإنجاز لم يكن مصادفة، بل ثمرة استراتيجية متكاملة تهدف إلى بناء اقتصاد عصري قوي، مع تطوير الجيش الوطني الشعبي كركيزة أساسية لنهضة الجزائر وتحقيق الريادة في المنطقة. فهل ستتمكن الجزائر من تجاوز أكبر اقتصادات القارة وتحقيق طموحاتها في أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى.؟
شهدت إفريقيا تغيرات لافتة في ترتيب أقوى اقتصاداتها لعام 2024، حيث صعدت الجزائر إلى المرتبة الثالثة، متجاوزة نيجيريا التي لطالما احتلت الصدارة أو المركز الثاني في العقود الأخيرة. وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للجزائر 266.7 مليار دولار، ما يؤكد نجاح السياسات الاقتصادية الرامية إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز الصناعة والفلاحة.
في الصدارة، لا تزال جنوب إفريقيا أكبر اقتصاد في القارة بناتج محلي إجمالي 373.2 مليار دولار، مستندة إلى قطاع مالي قوي، وصناعات متنوعة، وثروة طبيعية هائلة. تليها مصر في المركز الثاني بناتج قدره 347.5 مليار دولار، مستفيدة من استثمارات ضخمة في البنية التحتية والسياحة والصناعة. أما نيجيريا، فقد تراجعت إلى المركز الرابع بناتج محلي 252.7 مليار دولار، نتيجة التحديات التي يواجهها اقتصادها المعتمد على النفط، بينما تواصل إثيوبيا صعودها في الترتيب، حيث تحتل المركز الخامس بناتج 205.1 مليار دولار، مدعومة بنمو قطاع الزراعة واستثمارات البنية التحتية.
هذا التصنيف الجديد يعكس بوضوح التحولات الاقتصادية العميقة في القارة، حيث لم تعد الدول الغنية بالموارد الطبيعية وحدها صاحبة النفوذ الاقتصادي، بل أصبحت الاستراتيجيات التنموية، والتنويع الاقتصادي، والاستثمار في القطاعات الإنتاجية عوامل رئيسية في تحديد موقع الدول ضمن قائمة أقوى الاقتصادات الإفريقية. فهل نشهد في السنوات المقبلة استمرار هذا التغيير، أم أن هناك مفاجآت جديدة في ترتيب القوى الاقتصادية للقارة؟
400 مليار دولار ناتج محلي... هدف قادم
الرئيس تبون، في كلمته التي وجهها إلى المتعاملين الاقتصاديين خلال إشرافه على افتتاح الطبعة الثانية للقاء الحكومة بالفاعلين الاقتصاديين يوم الأحد 13 أفريل 2025، ذهب إلى أكثر من استعراض الأرقام عندما أكد أن الهدف القادم هو تجاوز 400 مليار دولار كناتج محلي إجمالي في أفق 2026–2027. غير أن رفع الناتج المحلي الإجمالي إلى هذا المستوى، حسب الخبراء والمتابعين، يتطلب تحولات اقتصادية جوهرية في بنية الاقتصاد الوطني، في مقدمتها توسيع قاعدة الإنتاج، وتحفيز الاستثمار الحقيقي، وضبط التجارة الخارجية. كما شدّد الرئيس على أن هذا النمو يجب أن ينعكس مباشرة على تحسين مستوى المعيشة والتنمية العادلة عبر كل ولايات الوطن.
تصريح الرئيس جاء في سياق اقتصادي يعرف ديناميكية متسارعة، إذ سجّلت الجزائر نموًا بـ4.1 بالمائة في سنة 2023، ومن المتوقع أن يبلغ ما بين 3.9 و4 بالمائة في 2024، بفضل توجّه استراتيجي يرتكز على تحفيز القطاعات الإنتاجية وتقليص التبعية للمحروقات، خاصة بعد أن أصبحت الصناعة وحدها تمثل 50 بالمائة من الاستثمارات الجديدة.
هذه المؤشرات، المدعومة بإصلاحات قانونية ومؤسساتية، جعلت من الجزائر رسميًا ثالث اقتصاد في إفريقيا، خلف جنوب إفريقيا ونيجيريا، وهو موقع مشرف يضع البلاد في موقع متقدم إقليميًا، ويجعل التطلع إلى الريادة القارية هدفًا واقعيًا وليس مجرد رغبة طموحة.
الوصول إلى هذا الرقم الطموح يفرض تحديات كبيرة، تتعلق بمدى تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمار، كما يتطلب تبني سياسات اقتصادية مرنة قادرة على مواجهة التقلبات العالمية والاستفادة القصوى من الفرص الإقليمية والدولية. فهل يمكن للجزائر تحقيق هذا الهدف خلال السنوات القادمة؟ وما الذي تحتاجه حتى تصبح القوة الاقتصادية الأولى في إفريقيا؟
الناتج المحلي الإجمالي: مرجع أساسي لتصنيف الاقتصادات
الناتج المحلي الإجمالي هو القيمة الإجمالية لجميع السلع والخدمات التي تنتجها دولة ما خلال فترة زمنية معينة، عادةً خلال سنة واحدة. يُستخدم هذا المؤشر لقياس حجم الاقتصاد وأدائه، ويشمل الإنتاج في مختلف القطاعات مثل الصناعة، الزراعة، والخدمات، سواء كان ذلك من قبل الشركات المحلية أو الأجنبية العاملة داخل حدود الدولة. يمكن حسابه بثلاث طرق رئيسية: الإنتاج (حساب القيمة المضافة لكل قطاع)، الدخل (جمع مداخيل الأفراد والشركات)، أو الإنفاق (إجمالي الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي وصافي الصادرات).
يعد الناتج المحلي الإجمالي المعيار الأساسي في تصنيف الدول اقتصاديًا لأنه يعكس حجم النشاط الاقتصادي، ومدى قدرة الدولة على إنتاج الثروة، وتلبية احتياجات سكانها. فكلما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي، زادت قدرة الدولة على توفير الوظائف، وتحسين مستوى المعيشة، وتطوير بنيتها التحتية. كما يُستخدم للمقارنة بين اقتصادات الدول، حيث تعتمد المؤسسات المالية والمنظمات الدولية عليه في ترتيب الاقتصادات العالمية، وتقييم قدرتها على النمو، وجاذبيتها للاستثمارات، ومدى تأثيرها في الاقتصاد العالمي.
ما الذي ينقص الجزائر للريادة؟
مع احتلال جنوب إفريقيا صدارة الاقتصادات الإفريقية بناتج محلي إجمالي يبلغ 373 مليار دولار، يبقى السؤال المطروح: ما الذي يمكن أن يجعل الجزائر تتجاوز هذا الرقم وتتصدر قائمة أكبر الاقتصادات في القارة؟
يُعد تحقيق نمو سنوي مرتفع أحد العوامل الأساسية لدفع الجزائر نحو القمة. ففي ظل معدلات نمو تراوح حاليًا بين 3-4%، هل يمكن للجزائر أن تصل إلى 5-6% سنويًا خلال السنوات القادمة؟ وما هي القطاعات التي يمكن أن تساهم في هذا الارتفاع؟ هل يمكن للفلاحة والصناعة التحويلية أن تصبح محركات رئيسية للنمو، أم أن هناك عوامل أخرى يجب التركيز عليها؟
من جهة أخرى، تلعب الاستثمارات الضخمة دورًا محوريًا في تعزيز الاقتصاد. فتحقيق طفرة اقتصادية يتطلب تدفق رؤوس أموال ضخمة، سواء من المستثمرين المحليين أو الأجانب. فكيف يمكن للجزائر أن تجذب استثمارات نوعية في مجالات الصناعة، والتكنولوجيا، والطاقة المتجددة؟ وهل البيئة الاستثمارية الحالية قادرة على استيعاب هذه الطفرة، أم أن هناك تحديات يجب معالجتها؟
كما يبقى تنفيذ مشاريع ضخمة عنصرًا أساسيًا في أي خطة للنهوض الاقتصادي. فالاستثمارات في البنية التحتية، والصناعة التحويلية، والطاقة المتجددة قد تكون مفتاح التحول نحو اقتصاد أكثر تنوعًا واستدامة. لكن، هل يمكن لمثل هذه المشاريع أن توفر الزخم المطلوب لدفع الجزائر نحو صدارة الاقتصادات الإفريقية؟ وما هي العوائق التي قد تعترض طريق هذه المشاريع؟
أما تعزيز الصادرات غير النفطية، فهو عامل أساسي لزيادة تدفقات النقد الأجنبي وتقليل الاعتماد على المحروقات. فهل يمكن للمنتجات الجزائرية أن تنافس في الأسواق الإقليمية والعالمية؟ وما هي القطاعات التي تمتلك إمكانات تصديرية واعدة؟ وهل هناك استراتيجيات فعالة لدعم المؤسسات المحلية في هذا المجال؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب تحليلاً أعمق من قبل خبراء وأساتذة الاقتصاد، ممن يمكنهم تقييم الفرص والتحديات التي تواجه الجزائر في سعيها نحو الصدارة الاقتصادية في إفريقيا.
هل تزيح الجزائر مصر وجنوب إفريقيا عن القمة؟
تشير التقديرات إلى أن الجزائر قد تتمكن من رفع ناتجها المحلي الإجمالي إلى 400 مليار دولار بحلول 2026، مما يجعلها مؤهلة لتجاوز مصر واحتلال المرتبة الثانية في إفريقيا. لكن الوصول إلى الصدارة الإفريقية يتطلب أكثر من مجرد تحقيق هذا الرقم، إذ يعتمد التصنيف النهائي على مدى نمو اقتصادات الدول المنافسة، مثل مصر وجنوب إفريقيا، خلال نفس الفترة. فكما يمكن للجزائر أن تحقق نموًا متسارعًا، فإن مصر قد تشهد بدورها توسعًا اقتصاديًا يجعلها تحافظ على مركزها الحالي، وجنوب إفريقيا قد تواصل ريادتها إذا استمرت في تحقيق أداء اقتصادي قوي.
لذلك، فإن التفوق الاقتصادي يتطلب تحقيق معدلات نمو تفوق المنافسين، وضمان استدامة هذا النمو من خلال التنويع الاقتصادي، وتعزيز الاستثمارات، وزيادة الإنتاجية. وهو ما يدفع للسؤال: هل تمتلك الجزائر الأدوات اللازمة للوصول إلى القمة الإفريقية؟
جنوب إفريقيا، رغم التحديات الاقتصادية التي تواجهها، لا تزال تحتفظ بمكانتها كأكبر اقتصاد إفريقي، بفضل بنيتها الاقتصادية المتنوعة، وقطاعها المالي القوي، وقاعدتها الصناعية المتقدمة. وعلى الرغم من أن الجزائر تمتلك موارد طبيعية ضخمة وفرصًا استثمارية واعدة، إلا أن تحقيق قفزة نوعية في ترتيبها الاقتصادي يتطلب تحولًا هيكليًا يتجاوز الاعتماد على المحروقات إلى اقتصاد متكامل ومتنوع. فهل يمكن أن تحقق الجزائر هذا التحول خلال السنوات القليلة القادمة؟
علاوة على ذلك، فإن المنافسة على الصدارة الإفريقية هي سباق في جودة النمو، وفعالية السياسات الاقتصادية، وقدرة الدولة على خلق بيئة تنافسية جاذبة للاستثمار. فهل يمكن للجزائر أن تتفوق على جنوب إفريقيا ومصر ليس فقط من حيث حجم الاقتصاد، ولكن أيضًا من حيث قوة قطاعها الخاص وموقعها في التجارة العالمية؟ وما هي العوامل التي قد تعيق هذا الطموح؟
هذه الأسئلة أيضًا تظل مفتوحة، والإجابات عليها تتوقف على تحليل أعمق من قبل خبراء وأساتذة الاقتصاد، ممن يمكنهم تقديم رؤية واضحة حول المسار الذي تحتاج الجزائر إلى اتباعه لتحقيق هذا الهدف الطموح.
الجزائر في المركز الأول.. ماذا يغير؟
هدف احتلال الجزائر مرتبة متقدمة ضمن الاقتصادات الإفريقية يدفعنا لطرح تساؤلات حول المكاسب الحقيقية التي قد تجنيها من ذلك. كيف يمكن أن ينعكس هذا التقدم على الاستثمارات والتجارة، والتأثير الجيوسياسي للجزائر في القارة؟ وهل سيساعدها ذلك في تعزيز شراكاتها الاقتصادية وفرض رؤيتها التنموية على المستوى الإقليمي؟
احتلال الجزائر مرتبة متقدمة ضمن الاقتصادات الإفريقية يعكس مدى قوتها وتأثيرها في القارة. فكلما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي وزادت مساهمة الجزائر في الاقتصاد القاري، ازدادت قدرتها على التأثير في القرارات الاقتصادية والسياسية الإقليمية.
عالميًا، كلما تعززت مكانة الجزائر الاقتصادية، زاد حضورها في التجمعات الدولية مثل مجموعة العشرين (G20) وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فعندما تكون الجزائر ضمن أكبر اقتصادات إفريقيا، تصبح شريكًا مهمًا في المفاوضات التجارية والاتفاقيات الاقتصادية، مما يتيح لها الدفاع عن مصالحها وتعزيز دورها على الساحة الدولية.
كما تعد الاستثمارات الأجنبية ركيزة أساسية لأي اقتصاد يسعى إلى النمو والتطور. وعندما تصنف الجزائر ضمن أكبر الاقتصادات الإفريقية، فإنها تصبح وجهة أكثر جذبًا للمستثمرين الأجانب، الذين يفضلون الدخول إلى أسواق قوية ومستقرة.
إلى جانب ذلك، فإن تحقيق نمو اقتصادي كبير يمنح الحكومة الجزائرية مرونة أكبر في تقديم حوافز استثمارية، سواء عبر تخفيف الضرائب، أو توفير بنية تحتية متطورة، أو تسهيل الإجراءات البيروقراطية.
وكلما تقدمت الجزائر في ترتيب الاقتصادات الإفريقية، كلما ازدادت مكانتها كشريك اقتصادي موثوق داخل القارة. فالدول الإفريقية تبحث دائمًا عن شركاء اقتصاديين أقوياء يمكنهم توفير حلول تمويلية وتجارية، مما يفتح المجال أمام الجزائر لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع جيرانها.
علاوة على ذلك، يتيح لها هذا الترتيب توسيع نفوذها داخل المنظمات الاقتصادية القارية مثل الاتحاد الإفريقي والبنك الإفريقي للتنمية، خاصة مع تزايد المبادرات الإفريقية لتعزيز التجارة البينية، مثل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.
كما أن الهدف النهائي لأي نمو اقتصادي هو تحسين حياة المواطنين. فكلما ارتفع ترتيب الجزائر في الاقتصاد الإفريقي، زادت قدرتها على خلق فرص عمل، وتحسين الخدمات العامة، ورفع مستوى الدخل الفردي. إلى جانب ذلك، فإن اقتصادًا أقوى يعني زيادة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية، والتعليم، والصحة، مما يسهم في رفع جودة الحياة للمواطنين.
في الختام، يُعد الناتج المحلي الإجمالي المؤشر الأساسي لقياس قوة الاقتصاد، وتصنيف الدول اقتصاديًا. فمع بلوغ الجزائر 267 مليار دولار، أصبحت تحتل المركز الثالث في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا ومصر، مما يعكس التطور الذي شهده الاقتصاد الجزائري خلال السنوات الأخيرة. غير أن البقاء في هذا المركز أو التقدم نحو القمة يحتاج إلى استراتيجيات طويلة المدى لضمان استدامة التقدم الاقتصادي.
الطموح نحو الريادة الإفريقية يستوجب أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الجزائري 373 مليار دولار، وهو الرقم الذي يجعل جنوب إفريقيا حاليًا في الصدارة. وهذا الهدف يتعلق بقدرة الجزائر على تحقيق تنمية شاملة تمس مختلف القطاعات، مثل الصناعة، الزراعة، والخدمات، إلى جانب توفير بيئة استثمارية جاذبة تعزز من تدفقات رؤوس الأموال المحلية والأجنبية.
أحد التحديات الرئيسية أمام الجزائر يتمثل في تحويل النمو الاقتصادي إلى قوة إنتاجية حقيقية، بحيث لا يقتصر على عائدات المحروقات، وإنما يستند إلى قاعدة اقتصادية متنوعة. فزيادة الإنتاج الصناعي ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كلها عوامل تلعب دورًا أساسيًا في تحقيق قفزة نوعية نحو اقتصاد أكثر استدامة وقدرة على المنافسة في السوق الإفريقية والعالمية.
كما أن العوامل الجيوسياسية والتكامل الإقليمي سيكون لها دور كبير في تحديد موقع الجزائر في المشهد الاقتصادي القاري. فبفضل موقعها الاستراتيجي كبوابة بين إفريقيا وأوروبا، يمكن للجزائر أن تتحول إلى مركز لوجستي وتجاري مهم، مما يعزز مكانتها كشريك رئيسي في مبادرات التكامل الإفريقي، مثل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.
[caption id="attachment_168931" align="alignnone" width="260"] الدكتور جلابة علي - أستاذ المحاسبة والمالية بجامعة الطارف[/caption]
إذا أردنا الريادة الإفريقية.. فلنبدأ بهذه الثلاثية الحاسمة
يتحدث الدكتور جلابة علي، أستاذ المحاسبة والمالية بجامعة الطارف، لـ "الأيام نيوز"، عن أهمية مواصلة الإصلاحات المالية والمحاسبية العميقة لضمان انتقال الاقتصاد الجزائري من المرتبة الثالثة إلى صدارة الاقتصادات الإفريقية. مشددًا على أن هذا الطموح يتطلب تجاوز التحديات البنيوية، وتفعيل الشفافية، وتنويع مصادر الدخل، مع دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والرفع من كفاءة الإنفاق العام. ويرى أن بناء اقتصاد مرن ومتين لن يتحقق دون دمج معايير المحاسبة الدولية، وتحفيز الاستثمار في القطاعات غير النفطية، وتحسين الثقافة المالية، بما يعزز مكانة الجزائر قارّيًا ويحقق تنمية مستدامة وشاملة.
ويعتبر الدكتور جلابة علي أن السياسات المالية التي تنتهجها الجزائر اليوم تهدف أساسًا إلى تحفيز النمو الاقتصادي وتحسين أداء الناتج المحلي، إلا أنها ما زالت تواجه تحديات بنيوية تمنعها من تحقيق الطموح الأكبر: الريادة الاقتصادية في القارة الإفريقية.
ويؤكد أن الدولة لجأت إلى حزمة من التدابير المالية المحفّزة، أبرزها رفع الإنفاق العمومي على قطاعات حيوية مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية، وذلك لخلق وظائف جديدة وزيادة الطلب الداخلي، باعتبارها أدوات مباشرة لتحريك الدورة الاقتصادية.
ويُضيف أن هذه الجهود شملت إصلاحات جبائية تهدف إلى تحسين مناخ الاستثمار، لاسيما في القطاعات غير النفطية، وهو توجه استراتيجي بالغ الأهمية للانفكاك من التبعية لعائدات المحروقات، التي لطالما جعلت الاقتصاد الوطني رهينة لتقلبات السوق العالمية.
ومع ذلك، يُوضّح الدكتور جلابة أن هذه الإجراءات، رغم إيجابيتها، لا تزال محدودة الأثر نتيجة وجود اختلالات هيكلية متجذرة، مثل التضخم المزمن، واتساع عجز الميزانية، مما يفرمل نتائج السياسات المالية ويُضعف فاعليتها في تحقيق نمو مستدام.
كما يُشير إلى أن التأثير الإيجابي للسياسات الحالية يظل متفاوتًا بين القطاعات، حيث شهدت بعض المجالات تحسّنًا ملحوظًا، بينما بقيت القطاعات الأخرى تعاني من هشاشة، وذلك بسبب ارتباط الاقتصاد المحلي بسعر البرميل، وضعف القطاع الخاص، ومحدودية الابتكار الصناعي.
ويرى أن واحدة من أبرز العقبات هي البيروقراطية الإدارية والحواجز التنظيمية التي تُعيق تدفق الاستثمار الأجنبي، في وقت تحتاج فيه الجزائر إلى شراكات استراتيجية لدفع عجلة النمو وتوسيع قاعدة الإنتاج خارج المحروقات.
ويؤكد أن الوصول إلى المرتبة الأولى إفريقيا لا يمكن أن يتحقق فقط عبر تحسين مؤشرات السياسة المالية، بل يتطلب معالجة عميقة وجذرية للتحديات الهيكلية، من خلال توفير مناخ أعمال تنافسي، وتحسين الحوكمة، وضمان استثمار فعّال في رأس المال البشري.
ويقول الدكتور جلابة: "إن بناء اقتصاد جزائري قادر على المنافسة القارية يتطلب مقاربة شاملة، تدمج بين أدوات مالية ذكية، وإصلاحات مؤسساتية جريئة، وتوجه استراتيجي نحو الابتكار والتنوع، بما يحقق الطموح في الريادة القارية".
المحاسبة والرقابة المالية... رافعة خفية لتحسين الأداء الاقتصادي
كما يرى الدكتور جلابة علي، أستاذ المحاسبة والمالية بجامعة الطارف، أن الأنظمة المحاسبية وآليات الرقابة المالية تمثل ركيزة محورية في تحسين كفاءة الإنفاق العمومي، لما لها من تأثير مباشر على جودة الأداء الاقتصادي الوطني. ويؤكد أن التقدّم في التصنيفات القارية يُبنى بالمشاريع الكبرى، وأيضًا بحُسن إدارة الموارد العامة.
ويُوضح أن تطبيق ممارسات محاسبية فعالة في الجزائر يُسهم في ضبط توزيع الأموال العمومية، ويحدّ من الهدر والتسيير العشوائي، من خلال فرض آليات واضحة للإبلاغ المالي، مدعومة بعمليات تدقيق دورية تُعزّز الشفافية وتُفعّل مبدأ المساءلة.
ويؤكد أن الشفافية الناتجة عن هذه الأنظمة تُعيد بناء الثقة بين المواطن والإدارة، كما تحفّز المسؤولين الحكوميين على التحلي بانضباط مالي أكبر، نظرًا لأن كل دينار يتم إنفاقه يُصبح قابلاً للتتبع والتقييم من قبل الهيئات الرقابية والمواطنين على حد سواء.
ويرى أن القيمة المضافة الحقيقية تظهر حين تُدمج هذه الأنظمة المحاسبية مع أدوات الإدارة المالية الحديثة، مما يسمح بمراقبة النفقات في الوقت الفعلي، وإجراء تعديلات سريعة على الميزانيات حسب الأولويات والمتغيرات الاقتصادية.
ويُشير الدكتور جلابة إلى أن هذه القدرة على التعديل الفوري والتوجيه الذكي للموارد، تُسهم في ضمان توجيه الإنفاق نحو القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والبنية التحتية، وهو ما ينعكس إيجابًا على مستوى الخدمات العمومية ونوعية الحياة.
كما يلفت إلى أن كفاءة التسيير المالي تمتد إلى تحسين صورة الجزائر الاقتصادية إقليميًا، إذ يُعد الأداء المالي الرشيد عاملاً جاذبًا للاستثمار الأجنبي الذي يبحث دائمًا عن بيئة شفافة ومستقرة.
ويُضيف أن إصلاح الإدارة المالية عبر تعزيز المحاسبة والرقابة سيُمهّد لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة، قادر على التكيّف مع التحديات الداخلية والاضطرابات العالمية دون الوقوع في أزمات إنفاق أو سوء تخصيص.
ويؤكد الدكتور أن الرهان على الأنظمة المحاسبية خيار استراتيجي لبناء دولة قوية اقتصاديًا، مشيرًا إلى أن: "الرقابة الجيدة لا تحاسب فقط على الإنفاق، وإنما تبني الثقة وتحمي المستقبل المالي للدولة"
إصلاح الجباية والمالية... طريق الجزائر نحو التحرر من النفط
ويرى الدكتور جلابة علي أيضًا أن إصلاح المنظومة الجبائية والمالية في الجزائر أصبح ضرورة استراتيجية إذا أرادت الدولة تنويع مصادر دخلها والارتقاء إلى صدارة الاقتصادات الإفريقية. ويؤكد أن الاعتماد المفرط على المحروقات جعل الاقتصاد هشًا أمام تقلبات السوق العالمية.
ويُوضح أن أي اقتصاد قائم على مصدر واحد للدخل يظل رهينة لعوامل خارجية، وهو ما تعاني منه الجزائر منذ عقود بسبب ارتباط مداخيلها بأسعار النفط والغاز. ويضيف: "بناء اقتصاد مرن يعني أولًا التخلص من هذه التبعية المزمنة".
ويعتبر الدكتور جلابة أن الحل يبدأ بتطبيق نظام ضريبي أكثر تصاعدية يُراعي العدالة ويشجع الاستثمار في قطاعات الزراعة والسياحة والتكنولوجيا، باعتبارها محركات مستقبلية للنمو غير المعتمد على الطاقة. ويقول: "تنويع الإيرادات يحتاج إلى سياسة ضريبية ذكية تحفز الاقتصاد المنتج".
ويؤكد أن إصلاح النظام المالي لا يقل أهمية، إذ يتطلب تحسين فرص الوصول إلى التمويل والائتمان، خاصة لفائدة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تُعد العمود الفقري لأي اقتصاد متنوع، ويضيف: "دون تمويل حقيقي وملائم، تبقى روح المبادرة محاصرة".
ويرى أن هذه المؤسسات تمثل فرصة كبرى لتوظيف الموارد البشرية المحلية وتوسيع قاعدة الابتكار، خاصة إذا ما حظيت بدعم جبائي ومالي حقيقي، يسمح لها بالنمو وتجاوز مرحلة الهشاشة. ويقول: "ريادة الأعمال لن تنهض إن ظلت محاطة بعوائق إدارية وضريبية خانقة".
كما يشدد على ضرورة بناء إطار تنظيمي ومالي يعزز الشفافية والمساءلة في المعاملات، بما يُعيد الثقة للمستثمرين المحليين والدوليين، ويُحفّز رؤوس الأموال على الدخول في القطاعات غير النفطية. ويضيف: "الوضوح في القواعد هو أول مفتاح لجذب الاستثمار".
ويؤمن الدكتور جلابة أن هذا الإصلاح الشامل يهدف إلى تثبيت مكانة الجزائر كاقتصاد صاعد وقادر على مجاراة التحولات الإفريقية والدولية. ويقول: "الإيرادات غير النفطية هي مؤشرات سيادية على استقرار وتنوع الاقتصاد".
ويؤكد بقوله أن الجزائر إذا ما وضعت التنويع الاقتصادي في قلب سياساتها الجبائية والمالية، فبإمكانها بناء نموذج تنموي مستدام يُعزّز الاستقرار العام ويمنحها الأهلية للقيادة الاقتصادية في القارة.
الشفافية والتنويع والتمكين... ثلاثية الوصول إلى الريادة الإفريقية
ويؤكد الدكتور جلابة علي أن الانتقال من المرتبة الثالثة إلى الأولى بين الاقتصادات الإفريقية يتطلب أولًا معالجة الأولويات المحاسبية والمالية، واعتبارها حجر الأساس لبناء اقتصاد قوي، شفاف، ومتين. ويضيف: "الريادة هي انعكاس لجودة الأداء المؤسساتي وحوكمة الموارد".
ويُوضّح أن أول هذه الأولويات تتمثل في تعزيز الإدارة المالية من حيث الكفاءة والشفافية، خاصة عبر تطبيق معايير محاسبية صارمة وواضحة، تُحسن موثوقية التقارير المالية وتعزز من ثقة المستثمرين المحليين والدوليين. ويقول: "الانضباط المالي هو بوابة الثقة، والثقة هي وقود الاستثمار".
كما يرى أن الاعتماد الرسمي لمعايير التقارير المالية الدولية (IFRS) سيكون خطوة محورية نحو مواءمة الجزائر مع أفضل الممارسات العالمية، ما يُحسّن مناخ الأعمال ويرفع من جاذبية البلاد في المؤشرات الاقتصادية القارية والدولية.
ويُشدّد الدكتور جلابة على أهمية إنشاء هيئات تنظيمية مستقلة تشرف على الامتثال المالي، بما يضمن المساءلة ويُضعف فرص الفساد، قائلاً: "لا يمكن الحديث عن اقتصاد تنافسي في ظل تداخل السلطات وغياب رقابة مستقلة".
ويرى أن الأولويات لا تقف عند الجوانب التقنية، بل تشمل تنويع الاقتصاد كضرورة استراتيجية. ويُشير إلى أن تطوير قطاعات الزراعة والسياحة والتكنولوجيا بات ضرورة لتقليل الاعتماد على المحروقات، وتوسيع مصادر الدخل الوطني.
كما يؤكد أن هذا التنويع لن يُثمر دون تخطيط مالي سليم وتحليل واقعي للأسواق، مشيرًا إلى أن نجاح أي استثمار يتوقف على دقة التقدير المسبق، وقدرة المؤسسات على إدارة التمويل بكفاءة.
ويُولي الدكتور جلابة أهمية كبيرة لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، معتبراً أنها بمثابة "قلب الاقتصاد الحقيقي"، داعيًا إلى توفير بيئة تمويل مرنة، وإجراءات ضريبية تحفيزية، تُحول هذه المؤسسات إلى مصدر دائم للابتكار وخلق فرص العمل.
وفي سياق آخر، يسلّط الضوء على الحاجة إلى رفع الوعي المالي داخل المجتمع، من خلال برامج تعليمية تركّز على المحاسبة والإدارة المالية، معتبرًا أن "ثقافة مالية قوية لدى الأفراد تعني قرارات اقتصادية مدروسة، على مستوى الأسرة كما على مستوى المؤسسة".
ويختم بتأكيده أن تحقيق الريادة الاقتصادية لن يتم إلا بتأهيل العنصر البشري، وتعزيز البنية المحاسبية والمالية للبلاد، ويقول: "حين نُفعّل الشفافية، ونُنضج التنويع، ونُمكّن الأفراد... حينها فقط تُصبح الريادة الإفريقية هدفًا ممكنًا لا حلمًا بعيدًا".
[caption id="attachment_138614" align="alignnone" width="250"] عبد الرحمان هادف - خبير اقتصادي ومستشار في التنمية الاقتصادية[/caption]
الجزائر 2027.. من اقتصاد استهلاكي إلى قوة صناعية تنافسية
يتحدث عبد الرحمان هادف، المستشار في التنمية الاقتصادية، عن ملامح التحول الاقتصادي الكبير الذي تعرفه الجزائر منذ عام 2022، تحت قيادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والذي يهدف إلى بناء اقتصاد وطني منتج، متنوع ومرن، قادر على التنافس إقليميًا ودوليًا. ويؤكد أن هذا التحول لا يمكن أن ينجح دون إصلاحات هيكلية معمّقة تشمل الصناعة، التجارة الخارجية، والدبلوماسية الاقتصادية، إلى جانب دعم القطاع الخاص وتكامل الأدوار مع الشركاء الأجانب. ويرى أن الطريق نحو الريادة الإفريقية يبدأ أولًا من الداخل، من خلال إصلاح المنظومة القانونية، رفع مساهمة الصناعة في الناتج المحلي، وتحسين مناخ الأعمال، لتحقيق هدف طموح يتمثل في بلوغ 400 مليار دولار كناتج خام وطني بحلول 2027.
ويؤكد عبد الرحمان هادف، في تصريح لـ "الأيام نيوز"، أن الجزائر دخلت مرحلة جديدة من التحول الاقتصادي منذ عام 2022، في إطار رؤية استراتيجية أطلقها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، تقوم على بناء اقتصاد وطني أكثر إنتاجية ومرونة، قادر على التكيّف مع المتغيرات العالمية والانفتاح على الشراكات الدولية، دون التفريط في السيادة الاقتصادية. ويقول: "هذه الرؤية تستند إلى إرادة سياسية حقيقية تُترجم من خلال سلسلة قرارات إصلاحية وإعادة تنظيم شامل للمنظومة الاقتصادية، بهدف تجاوز النموذج الريعي الذي طبع العقود الماضية، والتوجه نحو اقتصاد متنوع ومستدام يعتمد على الاستثمار والإنتاج المحلي".
ويُوضح أن اللقاء الذي جمع رئيس الجمهورية بالمتعاملين الاقتصاديين مؤخرًا كان محطة مفصلية في مسار هذا التحول، حيث أتاح فرصة لتشخيص دقيق للواقع الاقتصادي، وتحديد نقاط القوة والضعف، والتأسيس لنقاش وطني صريح حول الرهانات الاقتصادية الكبرى التي تواجه الجزائر في الأمدين المتوسط والبعيد. ويُبرز هادف أن الهدف يتعدى مجرد تحسين المؤشرات الكمية إلى إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية بما يجعلها أكثر كفاءة وتنافسية، خاصة في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها الاقتصاد العالمي. ويضيف: "نحن بحاجة إلى اقتصاد يُنتج، لا يستهلك فقط، ويُصدّر بدلًا من أن يستورد".
ويُشير إلى أن نجاح هذا التحول يتطلب تكاملاً فعليًا بين القطاعين العمومي والخاص، داعيًا إلى تحرير المبادرات الاقتصادية وتجاوز النظرة التقليدية التي تُقصي الفاعل الخاص من لعب دور ريادي في التنمية الوطنية، مع تعزيز آليات الرقابة والمرافقة. ويُشدّد على أن التعاون مع الشركاء الأجانب يجب أن يُبنى على أسس واضحة تقوم على المصلحة المشتركة ونقل المعرفة، منوهًا بأن الجزائر بدأت تُظهر توجهًا أكثر انفتاحًا وواقعية في هذا الجانب، بما يعكس نضجًا جديدًا في التعامل مع الشراكات الاقتصادية الدولية.
كما يرى أن الاستقرار السياسي الذي تعيشه الجزائر يمثل ركيزة أساسية لهذا التحول، موضحًا أن البيئة السياسية الآمنة تُشكّل عامل ثقة للمستثمرين، ومصدر طمأنينة للفاعلين الاقتصاديين، خاصة في ظل أزمات عالمية متتالية تُعيد تشكيل قواعد التنافس. ويؤكد هادف أن الجزائر تمضي في مسارها بثبات، مستشهدًا بتقارير مؤسسات نقدية دولية وشهادات من الشركاء، من بينهم سفير الاتحاد الأوروبي الذي وصف عام 2025 بأنه "سنة الشراكة مع الجزائر"، وهو ما يؤكد أن البلاد بدأت تستعيد موقعها الاقتصادي بثقة على الساحة الإفريقية والدولية.
الصناعة والتنويع والشراكة... مفاتيح رفع الناتج الوطني إلى 400 مليار دولار
كما يؤكد المستشار في التنمية الاقتصادية، أن هدف بلوغ ناتج خام وطني قدره 400 مليار دولار بحلول عام 2027، كما حدده رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، هو مشروع اقتصادي وطني يتطلب تعبئة شاملة لجميع الفاعلين ومراجعة جذرية لمنظومة الإنتاج، الاستثمار، والتصدير. ويُوضح أن الجزائر تمكنت، بفضل الإصلاحات الأخيرة، من رفع الناتج الخام الوطني إلى نحو 267 مليار دولار، ما يعكس بعض التحسن في بيئة الأعمال ومناخ الاستثمار، لكنه يظل غير كافٍ للوصول إلى الأهداف المعلنة ما لم يتم اتخاذ إجراءات إضافية تعزّز الإنتاج الحقيقي وتقلل من الطابع الريعي.
ويشدد هادف على أن القطاع الصناعي يمثل الحلقة الحاسمة في هذه المعادلة، موضحًا أن مساهمته الحالية في الناتج المحلي لا تتجاوز 10%، وهي نسبة ضئيلة بالمقارنة مع إمكانات الجزائر، داعيًا إلى رفعها تدريجيًا إلى 13 أو 15% خلال السنوات القادمة عبر التحديث والتمويل، وتحفيز الاستثمار الصناعي. ويرى أن تحديث الصناعة يشمل إنشاء مصانع جديدة، وتحسين الجودة، وتوسيع القاعدة التكنولوجية، وربط الإنتاج بالأسواق العالمية، وهو ما يتطلب شراكات ذكية مع الدول المتقدمة، لضمان نقل المعرفة والخبرة.
كما يلفت إلى أن دور القطاع الخاص سيكون حاسمًا في رفع الناتج الوطني، موضحًا أن الدولة يجب أن تتحوّل من "فاعل مباشر" إلى "مُيسّر ومُنظّم"، يفتح المجال أمام المبادرات ويضمن المنافسة الشريفة، بدلًا من الاكتفاء بالدور المهيمن للمؤسسات العمومية. ويُشيد هادف بسياسة تنويع الشراكات الاقتصادية التي بدأت الجزائر في اعتمادها، مؤكدًا أنها خطوة في الاتجاه الصحيح، خاصة مع التوجه نحو علاقات متوازنة مع قوى اقتصادية صاعدة، تتيح الوصول إلى أسواق جديدة وتفتح آفاقًا للاستثمار الثنائي في قطاعات متنوعة.
كما يربط هذا التحول بضرورة تحسين هيكلة التجارة الخارجية، بما يُمكّن من التحكم في الواردات ودعم الصادرات ذات القيمة المضافة، داعيًا إلى ربط الإنتاج المحلي بسياسات تصديرية واضحة، تتماشى مع التوجهات العالمية وأسواق المستقبل. ويؤكد بالقول إن تحقيق هدف 400 مليار دولار يتجاوز الأرقام، ويتعلق بإرادة سياسية، وإدارة اقتصادية متجددة تُراهن على الصناعة، والابتكار، والنجاعة، معتبرًا أن هذا الهدف إذا تحقق، فسيُعيد تموضع الجزائر اقتصاديًا في إفريقيا والعالم كمثال لدولة نجحت في التحول الشامل.
إصلاحات هيكلية لكسر الجمود... من ضبط الواردات إلى تحرير التصدير
كما يرى عبد الرحمان هادف، أن الجزائر لا يمكنها تحقيق تحول اقتصادي فعلي دون مراجعة شاملة للمنظومة الهيكلية التي تنظّم الاقتصاد الوطني، مؤكدًا أن الإصلاحات التقنية المعزولة لم تعد كافية، وأن الرهان اليوم هو على إعادة صياغة القواعد الناظمة للإنتاج والتجارة بما يتماشى مع مستجدات المرحلة.
ويُشدد على أن أولى بوابات الإصلاح الهيكلي تتمثل في ضبط منظومة الاستيراد، لا بهدف الانغلاق أو فرض الحواجز، بل لحماية الإنتاج الوطني وتحفيز الصناعيين المحليين على التوسع. مشيرًا إلى أن هذا التوجه لا يُناقض التزامات الجزائر الدولية، بل ينسجم مع التوجهات العالمية نحو الحمائية الذكية في ظل تصاعد النزاعات التجارية.
ويُضيف أن الجزائر كانت من أوائل الدول التي بادرت، منذ سنوات، إلى اتخاذ إجراءات استباقية لمواكبة المتغيرات الجيو-اقتصادية، مستدلًا بالحرب التجارية بين القوى الكبرى، وما رافقها من ارتفاع في الرسوم الجمركية وتحولات في سلاسل التوريد، ما يستدعي تعزيز سيادة القرار التجاري الوطني.
ويرى هادف أن من أبرز المؤشرات على هذا التحول العميق، قرار حل الوكالة الجزائرية لترقية التجارة الخارجية (ألجاكس)، والذي اعتبره خطوة "صائبة وجريئة"، فتحت الطريق أمام استحداث هيئتين جديدتين أكثر كفاءة ومرونة في التعامل مع التصدير والاستيراد، بما يواكب حاجات الاقتصاد الحديث.
ويُوضّح أن الهيئات الجديدة ستُركز على تبسيط الإجراءات الاقتصادية، وتسهيل معاملات المصدرين، إلى جانب تعزيز التنسيق مع الجمارك والبنوك، ما من شأنه تسريع تدفق البضائع وخفض التكاليف، وهو ما يُعد شرطًا أساسيًا لتحسين تنافسية المنتجات الجزائرية في الخارج.
كما يؤكد أن هذه الإصلاحات تهدف إلى تحرير قدرات التصدير الكامنة في السوق الجزائرية، من خلال منح المصدرين أدوات عملية، وإزالة العراقيل البيروقراطية التي طالما أعاقت انفتاح الجزائر على الأسواق الإفريقية والعالمية.
ويرى أن الرقمنة عنصر محوري في هذه العملية، إذ تُمكن من تعزيز الشفافية في العمليات التجارية، وتحسين تتبع السلع، وتقليص فرص الفساد، مما يُعطي مصداقية أكبر للتعاملات الجزائرية ويُشجع الشركاء الأجانب على الدخول في علاقات اقتصادية طويلة الأمد.
ويؤكد على أن هذه الإصلاحات الهيكلية هي نقطة انطلاق جديدة نحو بناء منظومة تجارية حديثة، تقوم على المرونة، والفعالية، والعدالة، وتُمهّد لاقتصاد تنافسي قادر على التصدير والنمو من الداخل إلى الخارج.
الدبلوماسية الاقتصادية... نحو انفتاح ذكي يعزز موقع الجزائر في الأسواق العالمية
ويؤكد عبد الرحمان هادف، المستشار في التنمية الاقتصادية، أن التحول الاقتصادي الذي تشهده الجزائر لا يكتمل دون تبني رؤية جديدة للدبلوماسية الاقتصادية، تقوم على الانفتاح الذكي والمدروس على الأسواق الدولية، في إطار شراكات متوازنة تُراعي مصلحة البلاد وتعزّز مكانتها قارّيًا ودوليًا.
ويُبرز أن استحداث وزارة جديدة تعنى بالتجارة الخارجية والدبلوماسية الاقتصادية يُعد تطورًا نوعيًا، يعكس وعي السلطات العليا بأهمية هذا القطاع، الذي لم يُستغل بعد بما يتناسب مع إمكانات الجزائر الجغرافية، والاقتصادية، والبشرية. ويقول: "التحول لا يتم فقط داخل الحدود، وإنما يحتاج إلى أذرع فاعلة خارجها".
ويُوضّح أن هذه الوزارة الجديدة مطالبة بوضع استراتيجيات ديناميكية قائمة على اليقظة الاقتصادية والذكاء المعلوماتي، بهدف فهم التحولات السريعة في الأسواق الدولية، واستباق الفرص، وتفادي المخاطر، وتوجيه الاقتصاد الوطني نحو شركاء واعدين.
ويؤكد هادف أن الجزائر أمام تحدٍ كبير يتمثل في كسر الصورة النمطية التي تصف اقتصادها بغير المنتج أو غير التنافسي، موضحًا أن هذه الصورة لا تعكس الواقع، وإنما هي نتاج سنوات من ضعف الخطاب الاقتصادي الخارجي وغياب استراتيجية ترويج فعالة.
ويرى أن تحسين حوكمة الاستيراد وتطوير سياسات تصدير ذكية من شأنه أن يُعيد رسم صورة الجزائر كدولة منتجة ومصدّرة، ويعزز من قدرتها على اقتحام أسواق جديدة، لاسيما في إفريقيا، حيث تمتلك الجزائر فرصًا حقيقية لتكون فاعلًا محوريًا في التبادلات التجارية الإقليمية.
كما يدعو إلى توظيف القطاع السياحي كرافد اقتصادي بديل، مشيرًا إلى أن الجزائر تمتلك مؤهلات سياحية هائلة يمكن تحويلها إلى مصدر للعملة الصعبة، شرط تطوير البنية التحتية، وتسهيل إجراءات الدخول، وتحسين الخدمات، ضمن استراتيجية متكاملة تجمع بين الجاذبية الاقتصادية والانفتاح الثقافي.
ويشدد على أن الانفتاح لا يعني التفريط، وإنما يتطلب إطارًا مؤسساتيًا قويًا يحمي المصلحة الوطنية، ويوجّه العلاقات الاقتصادية الخارجية نحو التكامل لا التبعية، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال تنسيق فعال بين المؤسسات الاقتصادية والبعثات الدبلوماسية.
ويؤكد هادف أن الجزائر تمتلك اليوم كل المقومات التي تؤهلها للتموقع كقوة اقتصادية إقليمية، إذا ما استثمرت بشكل ذكي في دبلوماسيتها الاقتصادية، وفعّلت أدواتها الخارجية لدعم توجهها نحو الريادة الإفريقية من بوابة الانفتاح المدروس والفعّال.
[caption id="attachment_168922" align="alignnone" width="260"] الدكتور الهواري تيغرسي - أستاذ العلوم الاقتصادية[/caption]
المؤسسات الناشئة.. قوة اقتصادية جديدة ستغير وجه الجزائر
يرى أستاذ العلوم الاقتصادية، الدكتور الهواري تيغرسي، أن تصنيف الجزائر كثالث أهم اقتصاد في إفريقيا من طرف صندوق النقد الدولي لم يكن محض صدفة، بل جاء نتيجة حزمة من الإصلاحات الاقتصادية التي باشرتها الدولة في السنوات الأخيرة.
ويؤكد تيغرسي أن هذا التصنيف يعكس التحولات الكبرى التي عرفتها المنظومة الاقتصادية الوطنية، سواء من حيث الأداء العام أو المؤشرات المحققة، قائلاً: "الجزائر اليوم تجني ثمار توجه إصلاحي استراتيجي مسّ عدة قطاعات، من أبرز نتائجه تحقيق نسبة نمو بلغت 4.2% خلال سنة 2023".
ويشير تيغرسي إلى أن هذا النمو مدعوم بتحسن متواصل في الناتج المحلي الخام، الذي يسجل أرقامًا تصاعدية معتبرة، موضحًا أن "معدل الناتج الوطني يزداد بنحو 40 مليار دولار سنويًا، وهو ما يعكس ديناميكية إيجابية في مختلف مكونات الاقتصاد".
كما يلفت إلى أن الميزان التجاري الإيجابي المسجل منذ سنوات ساهم في تعزيز الثقة الدولية، خاصة مع انخفاض نسب العجز التجاري وارتفاع الصادرات خارج المحروقات.
ويشدد الخبير الاقتصادي على أن "هذه الأرقام تُعد عامل جذب كبير للمستثمرين الأجانب، في ظل توفر الثروات الطبيعية الوطنية والامتيازات الممنوحة بموجب قانون الاستثمار الجديد".
ويرى أن الوضعية الحالية تمثل قاعدة انطلاق قوية نحو تحقيق مراتب متقدمة أكثر في التصنيفات الاقتصادية، خصوصًا إذا استمرت وتيرة الإصلاحات على ما هي عليه.
ويضيف: "المراحل القادمة ستُظهر مؤشرات أقوى بفضل الإصلاحات التي تمس البيئة القانونية والمؤسساتية، بما يضمن إزالة العقبات أمام الاستثمار".
التضخم بين ضغوط الاستيراد وحلول التحريك الداخلي
كما يوضح الدكتور تيغرسي أن مسألة التضخم في الجزائر ترتبط بدرجة كبيرة بمنظومة الاستيراد، مؤكدًا أن "الضغوط التضخمية ناتجة عن اعتماد مفرط على السوق الخارجية لتغطية حاجيات داخلية كان من الممكن تلبيتها عبر الإنتاج المحلي".
ويرى أن الخروج من هذه الحلقة يتطلب تحريك العجلة الاقتصادية من الداخل، من خلال تنشيط قطاعات الإنتاج والخدمات، وخاصة القطاع الفلاحي والصناعي.
ويشرح أن "القطاع الفلاحي، على سبيل المثال، ساهم بنسبة 18% من الناتج الداخلي، ما يؤكد إمكانياته الكبيرة في امتصاص التضخم وتوفير الأمن الغذائي".
ويشيد بالتوجه الرئاسي نحو الصناعات التحويلية، باعتبارها أداة فعالة لخلق القيمة المضافة وتخفيف فاتورة الاستيراد، مضيفًا: "رئيس الجمهورية يسعى إلى خفض معدلات التضخم إلى أدنى مستوى عبر أدوات متنوعة وفعالة".
كما يدعو إلى إعادة النظر في آليات ضبط السوق الداخلية وتعزيز الرقابة التجارية لوقف المضاربة والاحتكار، التي تعد من أبرز مسببات ارتفاع الأسعار.
ويؤكد أن "توسيع خارطة الإنتاج المحلي سيمكن من تقليص الاعتماد على الخارج، وبالتالي التخفيف من تقلبات الأسعار العالمية".
ويضيف: "حركية الاقتصاد الوطني هي مفتاح الاستقرار السعري، لأن اقتصادًا منتجًا هو اقتصاد قادر على التوازن والتوقع".
دمج السوق الموازية ضمن الاقتصاد الرسمي ضرورة ملحة
ويؤكد الدكتور تيغرسي على أن أحد أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد الجزائري هو اتساع السوق الموازية، والتي تمثل كتلة مالية ضخمة خارج رقابة الدولة، معتبرًا أن "دمج السوق الموازية ضمن الاقتصاد الرسمي بات ضرورة ملحة لتحسين مؤشرات الشفافية والنجاعة المالية".
ويرى أن إدماج هذا النشاط غير الرسمي سيسمح للدولة بالاستفادة من سيولة مالية كبيرة يمكن استثمارها في مشاريع تنموية واستراتيجية.
ويشدد على ضرورة وضع خارطة وطنية دقيقة للاستثمار، تُراعي التوزيع الجغرافي والقطاعي للثروات والإمكانات المتاحة، ما يساعد على توجيه رؤوس الأموال بطريقة مدروسة.
ويضيف أن "الاعتماد على التقنيات الحديثة في التخطيط الاستثماري سيكون له أثر كبير في استقطاب الأموال من السوق الموازية وتحويلها إلى استثمارات منتجة".
كما يوضح أن هذا الإدماج يجب أن يكون عبر التشريعات، وأيضا من خلال تحفيز حقيقي يضمن الثقة ويوفر بيئة آمنة للناشطين في القطاع الموازي.
ويؤكد أن "استرجاع هذه الأموال سيساهم بشكل مباشر في زيادة حجم الادخار الوطني ورفع قدرة التمويل الداخلي، ما يقلل من الحاجة إلى التمويل الخارجي".
ويشير إلى أن الحل يكمن في اعتماد مقاربة شاملة تشمل البعد الضريبي، الرقمي، والتجاري، لجعل السوق الرسمي أكثر جاذبية من السوق الموازي.
ويؤكد بالقول: "كل دينار مسترجع من السوق الموازية هو خطوة نحو اقتصاد منظم، شفاف، وأكثر قدرة على النمو والاستدامة".
المؤسسات الناشئة رهان الجزائر الجديد للنمو والإبداع
يرى الدكتور الهواري تيغرسي أن دعم الدولة المتزايد للمؤسسات الناشئة يعكس توجهًا استراتيجيًا نحو اقتصاد المعرفة والابتكار، مشيرًا إلى أن "التحفيزات الموجهة لهذا النوع من المؤسسات بدأت تعطي ثمارها على أرض الواقع".
ويؤكد أن هذه المؤسسات أصبحت اليوم لاعبًا اقتصاديًا حقيقيًا، حيث بدأت تسجل حضورًا وازنًا في الأسواق الإفريقية وتتنافس على تقديم حلول مبتكرة. ويضيف: "الدولة قدمت لهذه المؤسسات إطارًا قانونيًا وبيئة حاضنة محفزة، وهذا ما شجع العديد من الشباب على خوض تجربة ريادة الأعمال بثقة أكبر".
ويحث تيغرسي القطاع الخاص على احتضان هذه المؤسسات الناشئة من خلال الاستثمار فيها أو التعاون معها على مستوى الخدمات والمنتجات. ويشدد على أن "انخراط القطاع الخاص سيزيد من تسويق هذه الحلول محليًا ودوليًا، ويعزز قدرتها على النمو وتحقيق قيمة مضافة حقيقية".
كما يشير إلى أن المؤسسات الناشئة قادرة على لعب دور محوري في تنويع الاقتصاد الجزائري وتخفيف الاعتماد على القطاعات التقليدية. ويرى أن نجاح هذه التجربة يتطلب أيضًا دعمًا ماليًا مستقرًا ومرافقة تقنية وتكوينية من مؤسسات البحث والجامعات.
ويختم تصريحه بالقول: "الجزائر تملك رأسمال بشري واعد، وإذا تم توظيفه ضمن مؤسسات مبتكرة، فإننا سنتحدث قريبًا عن اقتصاد تنافسي قائم على المعرفة".
[caption id="attachment_168923" align="alignnone" width="260"] بوحوص بوشيخي - خبير اقتصادي وأستاذ جامعي[/caption]
بين الأرقام والطموحات.. الطريق إلى 400 مليار دولار
أعطى الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي بوحوص بوشيخي، في حديثه لـ"الأيام نيوز"، قراءة مبسطة وعميقة لهدف بلوغ 400 مليار دولار كناتج محلي إجمالي بحلول سنة 2027، مؤكدًا أن تحقيق هذا الهدف الطموح يمر حتمًا عبر فهم جوهر الإنتاج الوطني وآلية بنائه على أرض الواقع. ويرى أن الناتج المحلي هو خلاصة القيم المضافة التي تُنتجها المؤسسات الاقتصادية بمختلف أنواعها، سواء كانت عمومية أو خاصة، في عدة قطاعات. ويشدد بوشيخي على أن الجزائر تملك من الموارد الطبيعية والمساحات الشاسعة والمقومات الديموغرافية ما يؤهلها لتحقيق هذا التحول، شرط أن تُوجه نحو خلق الثروة والمؤسسات، مع ضبط التجارة الخارجية ومكافحة الاستيراد العشوائي عبر آليات تنظيمية جديدة تُنقذ الاقتصاد من فوضى قاتلة وتعيده إلى مساره الصحيح.
ويؤكد بوشيخي أن الحديث عن هدف 400 مليار دولار كناتج محلي إجمالي بحلول سنة 2027 لا يمكن أن يكون مفهومًا أو مقنعًا لعامة المواطنين ما لم يتم تبسيط المفهوم الاقتصادي الأساسي الذي يستند إليه هذا الهدف، وهو ما يُعرف بالناتج المحلي الإجمالي أو PIB. ويوضح بوشيخي أن الناتج المحلي الإجمالي هو مجموع القيم المضافة السنوية التي تنتجها المؤسسات الاقتصادية الوطنية، سواء كانت عمومية أو خاصة، في مختلف القطاعات الاقتصادية مثل الصناعة، الفلاحة، الخدمات، النقل، السياحة، والتكنولوجيات، وغيرها من الأنشطة المنتجة. ويشير إلى أن هذا المؤشر هو المرآة الحقيقية لمدى قدرة الاقتصاد الوطني على خلق الثروة، وهو يرتبط مباشرة بعدد المؤسسات الاقتصادية النشطة، ومستوى الإنتاج، ومعدلات التشغيل، وبالتالي بمستوى رفاهية المواطنين.
ويُبسّط بوشيخي الفكرة أكثر بقوله: "إذا أردنا رفع الناتج المحلي، علينا أن نخلق مؤسسات اقتصادية أكثر، وعندما تُخلق هذه المؤسسات، نخلق الإنتاج، التوظيف، والاستهلاك الداخلي، وبالتالي نضمن تحسن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد". ويشدد على أن الجزائر، بحجمها القاري وثرواتها الهائلة، تمتلك كل المقومات لتحقيق هذا الهدف إذا ما تم تحويل الموارد إلى إنتاج فعلي، لافتًا إلى أن الطريق إلى 400 مليار دولار تمر عبر المصانع، المزارع، الموانئ، والمؤسسات التكنولوجية، وليس عبر البيانات فقط.
كما يرى أن الإدماج الفعلي للمواطن في فهم هذه المفاهيم يعزز الثقة في الرؤية الاقتصادية للدولة، قائلاً: "من حق المواطن أن يفهم كيف يُصنع الناتج المحلي، لأنه هو الذي يُنتجه بجهده، وهو الذي يستفيد من نتائجه أو يتحمل كلفة غيابه". ويضيف أن الفهم الشعبي لهذه الأرقام يُحفز روح المبادرة، ويُعطي معنى واقعيًا لخطاب الإصلاح الاقتصادي، خاصة إذا تم ربطه بمؤشرات ملموسة تمس حياته اليومية، مثل خلق فرص العمل، وتحسين الخدمات، أو انخفاض الأسعار.
ويؤكد بوشيخي بالقول إن بلوغ 400 مليار دولار في الناتج المحلي ممكن وواقعي، لكن الشرط الأساسي لتحقيقه هو أن يتحوّل المواطن من متفرّج على الاقتصاد إلى مساهم فيه، عبر تحفيز روح المقاولة، ودعم النشاطات المنتجة، ونشر الوعي الاقتصادي الجماعي.
كيف تمتلك الجزائر كل شروط الإقلاع الاقتصادي؟
ويرى الخبير الاقتصادي بوشيخي أن الجزائر لا تعاني من نقص في الإمكانيات أو الموارد، وأن ما تملكه من ثروات طبيعية ومساحات هائلة يجعلها في مصاف الدول التي يمكنها، إذا ما استُغلت قدراتها بشكل عقلاني، أن تحقق قفزة اقتصادية في فترة وجيزة، شريطة تفعيل أدوات الإنتاج وتحويل الإمكانات إلى واقع. ويؤكد أن الجزائر بلد غني بموارد باطنية وطبيعية متنوعة، من المحروقات إلى المعادن، ومن الأراضي الزراعية إلى الطاقات المتجددة، لكنها ما زالت غير مُفعلة بالشكل المطلوب، وهو ما يجعل الفجوة بين الإمكانيات والواقع الاقتصادي قائمة حتى اليوم.
ويُلفت بوشيخي إلى أن المساحة الشاسعة للبلاد، والتي تتجاوز 238 مليون هكتار، تُعد أحد أهم عناصر القوة الاقتصادية، خصوصًا إذا ما تم استغلالها في مجالات مثل الزراعة الصناعية، والطاقات الشمسية، والسياحة الصحراوية، والخدمات اللوجستية المرتبطة بالموقع الجغرافي الاستراتيجي. ويضيف أن الجزائر، مقارنة بعدد سكانها الذي لا يتجاوز 44 مليون نسمة، أي ما يعادل 7.5 مليون أسرة تقريبًا، تمتلك هامشًا ديموغرافيًا كبيرًا يسمح لها بالتوسع الاقتصادي دون ضغط سكاني خانق، وهو عامل نادر في دول نامية كثيرة تعاني من الكثافة السكانية والتضخم الاجتماعي.
ويستشهد بوشيخي ببيانات واقعية على إمكانية التقدير الدقيق، مثل عدد عدادات سونلغاز التي تقارب عدد الأسر، مما يسمح بوضع مخططات اقتصادية مبنية على معطيات حقيقية وقابلة للقياس، وهو شرط أساسي لأي تخطيط تنموي ناجع. ويشدد على أن الخطوة العملية الأولى نحو الإقلاع الاقتصادي تكمن في خلق المؤسسات الاقتصادية المنتجة، سواء كانت صغيرة أو متوسطة أو كبرى، عمومية أو خاصة، لأن الثروة لا تُصنع بالنوايا، بل بالمشاريع.
ويرى أن التركيز يجب أن يكون على تفعيل النشاطات الاقتصادية في جميع الولايات، بما فيها الداخلية والجنوبية، لتحويل الجغرافيا إلى مصدر للنمو، مضيفًا: "كل متر مربع في الجزائر يمكن أن يُنتج شيئًا... شريطة أن نمنحه المشروع والتمويل والإدارة". ويؤكد أن الجزائر تملك الشروط الميدانية والموضوعية للإقلاع الاقتصادي، لكنها تحتاج إلى إرادة تنفيذية قوية، ورؤية واقعية قائمة على توسيع قاعدة الإنتاج، وخلق فرص حقيقية للمواطن ليكون شريكًا في التنمية لا مجرد متلقٍ لخططها.
فوضى الاستيراد... أرقام صادمة وممارسات تُهدّد الاقتصاد الوطني
سلّط الخبير الاقتصادي بوحوص بوشيخي الضوء على الخلل الكبير في منظومة الاستيراد في الجزائر، مؤكدًا أن التجارة الخارجية تعاني منذ سنوات من فوضى تنظيمية خطيرة، تسبّبت في استنزاف العملة الصعبة، وضربت المنتج الوطني، وساهمت في تسويق سلع رديئة تشكل خطرًا على صحة المواطن وسلامة الاقتصاد.
وأشار إلى أن قيمة الواردات الجزائرية بلغت نحو 38.8 مليار دولار، في حين أن هذه العملية تسيطر عليها فئة محدودة لا تتجاوز 12 ألف مستورد، يعمل الكثير منهم في بيئة يطغى عليها الارتجال والغياب التام للرقابة الاقتصادية الصارمة.
كشف بوشيخي عن فروقات سعرية غير منطقية بين مستورد وآخر للسلعة نفسها رغم تطابق النوعية والمصدر، مستشهدًا بحالات حقيقية على غرار البن، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول الشفافية والتنسيق الجمركي.
أضاف أن الوضع بلغ حدًا غير مقبول، حيث تم استيراد نفايات بلاستيكية، وحصى، ورخام غير صالح، وملابس رديئة تُسبب أمراضًا جلدية، مشددًا على أن هذا النوع من الاستيراد يضر بالاقتصاد، ويسيء لصورة الجزائر في السوق العالمية.
ويرى أن استمرار هذه الممارسات يعني أن السوق الجزائرية باتت مفتوحة لكل من هب ودب، مما يجعلها مرتعًا للتجار الانتهازيين الذين لا يهتمون بالجودة ولا بالتنمية، بل فقط بتحقيق الربح السريع على حساب الصحة العامة والمصلحة الوطنية.
وأكد أن جزءًا كبيرًا من هذه الفوضى يعود إلى غياب مؤسسات تنظيمية متخصصة وفعالة في مجال التجارة الخارجية، مما فتح الباب أمام العشوائية وتضارب المصالح والتهرّب من المسؤولية، رغم المطالب المتكررة للخبراء بضرورة ضبط هذا المجال الحيوي.
وأشاد بوشيخي بالقرارات الأخيرة لرئيس الجمهورية التي تسير في اتجاه وضع حد لهذه الفوضى من خلال تنظيم عمليات الاستيراد، معتبرًا أن الاقتصاد الوطني لا يمكن أن يتعافى ما دامت موارده تستنزف في استيراد مواد غير ضرورية أو بأسعار مضخّمة وغير مبررة.
وشدّد على أن تنظيم التجارة الخارجية لا يعني تقييد السوق، وإنما هو شرط أساسي لتحقيق العدالة التجارية، وحماية المنتج الوطني، والحفاظ على المال العام، داعيًا إلى تفعيل الرقابة النوعية، وتسقيف الأسعار، وتصفية السجلات التجارية من الطفيليين.
الوكالتان الجديدتان... خطوة نحو عدالة تجارية واستقرار اقتصادي
كما يرى الخبير الاقتصادي بوحوص بوشيخي أن قرار رئيس الجمهورية باستحداث وكالتين متخصصتين في تنظيم عمليات الاستيراد والتصدير، يُعد من بين أبرز الخطوات الإصلاحية التي تستجيب لمطالب طالما رفعها الأساتذة والخبراء في الشأن الاقتصادي خلال لقاءات وندوات متخصصة.
وأكد أن هذه الخطوة جاءت بعد سنوات من الفوضى والارتجال التي طغت على التجارة الخارجية، مما سمح بتغلغل سماسرة الاستيراد العشوائي على حساب المنتج الوطني والمستهلك. وأشار إلى أن استحداث الوكالتين يعكس تحوّلًا في طريقة إدارة الدولة لملف حساس طالما أُهمل أو أُدير بعقلية محاسبية تقليدية.
وأضاف أن هذه الهيئات الجديدة من شأنها أن توفّر إطارًا احترافيًا لتنظيم السوق الخارجية، عبر ضبط السجلات التجارية، ومراجعة المعايير، وإدخال نظام تصنيفي دقيق يُميّز بين مستورد جاد ومضارب ظرفي، مما يعيد التوازن والجدية إلى المجال.
كما أشار إلى أن من شأن هذه الوكالات أن تسهّل إجراءات الاستيراد والتصدير، وتعزز رقمنة الملفات، وتقلل من البيروقراطية التي كانت تُشكّل أحد أكبر عوائق دخول المتعاملين الاقتصاديين الحقيقيين إلى السوق العالمية.
ويرى بوشيخي أن وجود هيئة مستقلة لمرافقة المصدرين سيمكّن من تحفيز الصادرات غير النفطية، من خلال المرافقة، والدعم التقني، والتوجيه إلى الأسواق الخارجية المناسبة، مضيفًا: "التصدير استراتيجية متكاملة وليس فقط شحن بضاعة".
وشدّد على أن الرقابة التي ستتولاها هذه الوكالات تُعد عنصرًا حاسمًا في محاربة تضخيم الفواتير، وغسل الأموال، ونهب العملة الصعبة، مؤكدًا أن الاقتصاد النظيف لا يقوم إلا في بيئة مؤسساتية منظمة وواضحة.
وأكد أن هذه المبادرة ستساهم أيضًا في حماية المستهلك من السلع الرديئة والمغشوشة، وضمان تنافسية عادلة للمنتج المحلي الذي لطالما عانى من غياب آليات الحماية، مما قد يُعيد الثقة بين المواطن والاقتصاد الوطني.
واختتم بوشيخي بالتأكيد على أن استحداث وكالتي الاستيراد والتصدير يمثل تحولًا نوعيًا في إدارة التجارة الخارجية، ويُمهد لبناء اقتصاد متوازن، قائم على الشفافية والعدالة والتخطيط، داعيًا إلى تمكين هذه الهيئات من استقلالية فعلية ودور تنسيقي مع باقي المؤسسات الاقتصادية والجمركية.
[caption id="attachment_168924" align="alignnone" width="260"] الدكتور عمر هارون - خبير اقتصادي[/caption]
من الاكتفاء إلى التصدير.. هوية اقتصادية جديدة في طريق التشكّل
أوضح الدكتور عمر هارون، الخبير الاقتصادي، في تصريحه لـ"الأيام نيوز"، أن الجزائر بصدد صياغة هوية اقتصادية جديدة بعد الأزمات العالمية المتعاقبة، بدءًا من جائحة كورونا وصولًا إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يُترجم اليوم من خلال مؤشرات إيجابية في النمو والتضخم، ونجاحات فعلية في قطاعات الطاقة، المناجم، الصناعة، الفلاحة، والتجارة. ويرى أن هذه التحولات تعكس صلابة الاقتصاد الوطني، وتُمهّد لمرحلة قيادة الجزائر للاقتصاد الإفريقي، بشرط مواصلة الإصلاحات، والتركيز على الابتكار، وتحفيز المؤسسات المصغّرة والمتوسطة. ويؤكد أن القادم يحمل آفاقًا واعدة إذا ما تم استثمار عناصر القوة بذكاء، وربط الإنجازات الحالية برؤية استراتيجية شاملة تُوازن بين الإنتاج والتصدير والتنوع.
ويرى الدكتور عمر هارون أن الجزائر دخلت فعليًا مرحلة جديدة من التحول الاقتصادي، تعتمد على قطاعات استراتيجية كبرى تشكل اليوم أعمدة الاقتصاد الوطني، وعلى رأسها الطاقة والمناجم والصناعة الثقيلة، التي أثبتت قدرتها على قيادة النمو وتعزيز موقع الجزائر إقليميًا ودوليًا.
ويؤكد أن قطاع الطاقة يواصل تسجيل أداء مميز، حيث بلغ إنتاج الجزائر من الكهرباء نحو 25 جيغاواط ساعي، وتسعى لبلوغ 150 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، إلى جانب تصدير ما يصل إلى 900 ألف برميل من النفط يوميًا، وهو ما يعكس ديناميكية متصاعدة في تلبية الحاجات المحلية وتوسيع الحضور الدولي.
ويضيف أن هذه الأرقام تعزَّزت ببرامج طموحة، على غرار استثمارات سوناطراك المقدّرة بـ40 مليار دولار، ومشاريع التحول نحو الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، بالإضافة إلى اتفاقيات نوعية مع شركاء من إيطاليا، فرنسا، والولايات المتحدة، بقيمة تتجاوز 4 مليارات دولار.
ويُبرز الدكتور هارون أن الجزائر باتت مرشحة بجدارة لتكون البديل الحقيقي للغاز الروسي في أوروبا، بفضل موقعها الجغرافي، وقدراتها الإنتاجية، واستقرارها السياسي، مما يؤهلها لتكون صمام أمان طاقوي للقارة العجوز، وشريكًا موثوقًا في أوقات الأزمات.
ويُشدّد على أن هذا الزخم يمتد إلى الصناعة الثقيلة، وخاصة الحديد والصلب، حيث حققت الجزائر قفزة نوعية من خلال أقطاب صناعية كبرى مثل مصانع "توسيالي"، "بلارة"، و"الحجار"، بالإضافة إلى وحدة بشار بالشراكة مع الأتراك، القطريين، والصينيين.
ويُلفت إلى أن إنتاج الصفائح الحديدية وحديد البناء محليًا يخدم المشاريع الوطنية، ويخفض بشكل كبير من كلفة إنشاء المنشآت والبنى التحتية، ويُعزز من تنافسية الصناعة الجزائرية، خصوصًا في قطاعات السيارات، الكهرومنزليات، ومواد البناء.
ويُشير إلى أن هذه المعطيات تفتح المجال أمام نزوح صناعي نحو الجزائر من قبل مصانع دول البحر الأبيض المتوسط، نظرًا لتكلفة الإنتاج المنخفضة، وتوفر الطاقة والمواد الأولية، وقرب المسافة، وهو ما يحول الجزائر إلى مركز صناعي جاذب في شمال إفريقيا.
ويؤكد الدكتور هارون أن الجزائر تُؤسس لمنظومة إنتاج ذات عمق استراتيجي، تجعلها قادرة على مضاعفة ناتجها المحلي وتحقيق الريادة الاقتصادية في إفريقيا إذا ما تم الحفاظ على هذا النسق التصاعدي ومواكبته بإصلاحات تنظيمية وهيكلية.
الفلاحة والتحويل الغذائي... نحو أمن غذائي وتصدير فعلي من عمق الجنوب
كما يرى الدكتور عمر هارون أن الفلاحة في الجزائر تحوّلت إلى أحد الركائز الأساسية لهوية الاقتصاد الجديد، بفضل مشاريع استراتيجية ضخمة تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص فاتورة الاستيراد، بل وتجاوز ذلك نحو التصدير، انطلاقًا من أعماق الجنوب الجزائري.
ويؤكد أن الانجاز الأبرز في هذا المجال هو تقليص واردات القمح الصلب بـ1.2 مليار دولار، بفضل وفرة الإنتاج المحلي، وهو ما يعكس تحوّلًا فعليًا في السياسة الزراعية، من الاستهلاك المستورد إلى الإنتاج المحلي المستدام، خصوصًا في ظل تزايد الطلب العالمي وتقلبات الأسواق.
ويُضيف أن مشروع “بلدنا” بولاية أدرار، الذي يغطي مساحة 117 ألف هكتار بتكلفة 3.5 مليار دولار، يمثل نموذجًا جديدًا للزراعة الصناعية المندمجة، ويهدف إلى تأمين 50 بالمئة من احتياجات الجزائريين من بودرة الحليب، ما يضع الجنوب في قلب الأمن الغذائي الوطني.
كما يسلّط الضوء على الإمكانات الزراعية الهائلة التي يزخر بها الجنوب، بمساحة تقدَّر بـ1.5 مليون هكتار صالحة لإنجاز مشاريع زراعية مدمجة، وهو ما يعزّز فرص التوسع والإنتاج في مجالات استراتيجية، كالبذور الزيتية، الشمندر السكري، وإنتاج السكر وزيت المائدة محليًا.
ويُشدّد الدكتور هارون على أن التحول الزراعي يُقاس بالإنتاج الخام، وبمدى تطوير الصناعة التحويلية المرتبطة به، وهو ما بدأت الجزائر تتقدّم فيه، ما سيُمكّنها من رفع القيمة المضافة وتحويل المنتجات الزراعية إلى سلع قابلة للتسويق محليًا وتصديريًا.
ويرى أن التحدي الأكبر اليوم يتمثل في قطاع اللحوم الحمراء والبيضاء، حيث لا تزال الجزائر تعاني من عجز واضح، وهو ما يستدعي استراتيجية وطنية شاملة مبنية على بيانات دقيقة، وتوسيع الثروة الحيوانية في ظل توجه رسمي نحو الإحصاء الفلاحي واستثمار نتائج الدراسات الميدانية.
ويؤكد أن تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال سيفتح أبوابًا أمام التصدير الخارجي، خصوصًا مع الطلب المتزايد على اللحوم ذات المنشأ الحيوي والطبيعي، والتي يمكن أن تقدّم الجزائر فيها ميزة تنافسية إقليمية.
ويضيف الدكتور هارون إن الجنوب الجزائري بات فضاءً فعليًا لإنتاج الغذاء وتصديره، مؤكدًا أن الجمع بين الفلاحة الحديثة والصناعة التحويلية هو الرهان الحقيقي لمستقبل الأمن الغذائي والازدهار الاقتصادي للبلاد.
التجارة الخارجية تتغيّر... والمنتوج الجزائري يقتحم أسواق العالم
كما يؤكد الدكتور عمر هارون أن التجارة الخارجية الجزائرية دخلت مرحلة جديدة عنوانها التثمين الفعلي للإنتاج الوطني. فقد استطاعت البلاد تحقيق الاكتفاء الذاتي في عدد من المنتجات الصناعية والفلاحية، مما مكّنها من تقليص فاتورة الواردات والانتقال تدريجيًا نحو التصدير المنظم.
ويُشير إلى أن الجزائر كانت تستورد سنويًا ما قيمته 700 مليون دولار من العجائن، المشروبات، البسكويت، والصلصات. لكنها استطاعت عكس المعادلة، وصدَّرت من هذه المواد في سنة واحدة ما قيمته 49 مليون دولار، في أولى بوادر التحول في السلوك التجاري والصناعي للدولة.
ويضيف أن قطاع مواد البناء حقَّق هو الآخر طفرة نوعية، بعدما بلغت قيمة صادرات الجزائر من الحديد المسلح والإسمنت نحو 1.3 مليار دولار في سنة 2023، بعد أن كانت هذه المواد تمثل عبئًا على الميزان التجاري بواردات تفوق المليار دولار سابقًا.
ويرى الدكتور هارون أن التحول لم يتوقف عند الصناعات الثقيلة أو الغذائية، بل شمل أيضًا الصناعات الخفيفة مثل مواد التنظيف التي صدَّرت الجزائر منها 119 مليون دولار، ومواد التجميل التي بلغت صادراتها 3.8 مليون دولار. ورغم أن هذه المؤشرات قد تبدو رمزية، إلا أنها واعدة وتكشف عن إمكانات كامنة في السوق الوطنية.
كما يُشدِّد على أن هذه الطفرة لم تكن ممكنة لولا تحقيق الاكتفاء الذاتي في عدد من السلع الأساسية، مما وفَّر فائضًا قابلًا للتصدير. وهو ما يكرِّس فكرة أن السوق الداخلية القوية هي أساس الحضور الخارجي، وأن بناء قاعدة إنتاجية صلبة هو الطريق الحقيقي نحو تجارة خارجية ناجحة.
ويؤكد أن التوجه نحو التصدير لم يعد حكرًا على المحروقات فقط، بل أصبح خيارًا استراتيجيًا لقطاعات متعددة، مما يُسهم في تحسين صورة الجزائر الاقتصادية ويمنح العملة الوطنية مصدر دعم غير مرتبط بتقلبات أسعار النفط أو الأسواق الدولية.
ويُشير إلى أن هناك فرصًا حقيقية في أسواق إفريقيا، البحر الأبيض المتوسط، وآسيا، يمكن للمنتجات الجزائرية أن تنافس فيها بقوة، خاصة في ظل توفر ميزات تنافسية مثل الجودة المقبولة، التكلفة المنخفضة، وقرب المسافة.
وأكد الدكتور هارون أن التحول في التجارة الخارجية هو ترجمة فعلية للهوية الاقتصادية الجديدة التي تبنيها الجزائر، والتي تقوم على الإنتاج، التصدير، والتنوع، بدلًا من الاستهلاك والاستيراد فقط. مشيرًا إلى أن هذه الديناميكية إذا استمرت، فستجعل من الجزائر فاعلًا مؤثرًا في السوق الإفريقية خلال سنوات قليلة.
التحديات القادمة... المؤسسات الصغيرة والابتكار مفاتيح المرحلة المقبلة
ويرى الدكتور عمر هارون أن الجزائر، رغم ما حققته من مؤشرات إيجابية على صعيد الاقتصاد الكلي، إلا أن المرحلة المقبلة ستُقاس بمدى قدرتها على توسيع قاعدة الإنتاج عبر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والناشئة، التي تشكّل العمود الفقري لأي اقتصاد صاعد ومتنوع.
ويؤكد أن الاقتصاد الوطني بحاجة ماسة إلى مليون مؤسسة اقتصادية جديدة، من أجل رفع الإنتاج، وخلق مناصب الشغل، وتوسيع رقعة الاستثمار المحلي، خصوصًا في الولايات الداخلية والجنوبية التي تزخر بإمكانات كبيرة لم تُستغل بعد.
ويشير إلى أن من أهم التحديات التي تواجه المؤسسات الناشئة هي نسبة بقائها المحدودة في السوق، وهو ما يستدعي وضع آليات دعم ومرافقة فعالة تشمل التكوين، وتسهيل الولوج إلى التمويل، وتوفير بيئة قانونية مرنة تسمح بالتجريب والابتكار دون عبء بيروقراطي خانق.
كما يدعو الدكتور هارون إلى ربط الامتيازات الجبائية الممنوحة للمؤسسات الكبرى بمدى مساهمتها الفعلية في التنمية، من خلال رفع رقم أعمالها، وزيادة مناصب الشغل، وتوسيع شبكات المناولة، بما يُعيد التوازن في العلاقة بين المؤسسات العملاقة والنسيج الاقتصادي المحلي.
ويُشدد على أن الابتكار بات شرطًا أساسيًا لتنافسية أي اقتصاد في القرن 21، ما يستوجب استحداث إستراتيجية وطنية للابتكار تُحفّز الاستثمار في البحث العلمي، وتُدمج مراكز الجامعات والمعاهد في ديناميكية الإنتاج.
ويُوضح أن التركيز على سلاسل المناولة الصناعية سيكون رافعة حقيقية لنقل التكنولوجيا، وتحقيق التكامل الصناعي، وتقليص التكاليف، ما يسمح بتحسين الإنتاجية ورفع حصة المنتجات الجزائرية في السوق المحلية والخارجية على حد سواء.
ويعتبر الدكتور هارون أن الاستثمار في العنصر البشري من خلال التكوين المتخصص، ونقل المهارات، وربط الكفاءة بالفرصة، هو مفتاح تفعيل الإمكانات الكامنة داخل الاقتصاد. مشيرًا إلى أن المورد البشري هو أكبر ثروة يمكن أن تُراكمها الدولة على المدى الطويل.
ويختم بالقول إن بناء اقتصاد تنافسي ومتنوع يستدعي الرهان على القاعدة لا القمة فقط، ودعم المؤسسات الصغيرة، وتحفيز الابتكار، ومرافقة الفاعلين الاقتصاديين الشباب، لأن مستقبل الجزائر الاقتصادي يُبنى بالمشاريع الكبرى، وأيضًا بالأفكار الجديدة والطاقات الصاعدة.
[caption id="attachment_168936" align="alignnone" width="260"] البروفيسور عبد الصمد سعودي - أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة المسيلة[/caption]
من الاقتصاد الريعي إلى التنوع... الجزائر على عتبة تحول استراتيجي
يرى البروفيسور عبد الصمد سعودي، أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة المسيلة، في تصريح لـ"الأيام نيوز"، أن تحسن مؤشرات الاقتصاد الجزائري في السنوات الأخيرة هو ثمرة خطة استراتيجية متكاملة، تستند إلى تنويع حقيقي لمصادر النمو، خاصة عبر تنشيط القطاعين الفلاحي والمنجمي، فضلاً عن تقليص التبعية للواردات. ويعتبر أن حصول الجزائر على المرتبة الثالثة إفريقيًا من حيث حجم الاقتصاد هو إنجاز اقتصادي وسياسي يعزز مكانتها الإقليمية والدولية. لكن هذا يبقى مجرد محطة في مسار طموح يهدف إلى بلوغ 400 مليار دولار كناتج محلي إجمالي، وهو ما يستدعي تضافر جهود جميع الفاعلين والقطاعات، من خلال دعم الاستثمار، وتفعيل الإنتاج، واستغلال الإمكانات الكبيرة التي تزخر بها الجزائر فوق الأرض وتحتها. ويؤكد البروفيسور سعودي أن المرتبة الثالثة التي حققتها الجزائر في تصنيف أقوى الاقتصادات الإفريقية هي نتيجة مباشرة لتحولات عميقة يشهدها الاقتصاد الوطني منذ سنوات، مدفوعة بإرادة سياسية واضحة وخطة تنموية متعددة الأبعاد. ويعتبر أن هذا الإنجاز يمنح الجزائر قوة تفاوضية وسياسية أكبر في المحافل الإقليمية والدولية، ويعزز مكانتها كشريك استراتيجي موثوق في القارة، سواء على المستوى الاقتصادي أو في مجال الدبلوماسية الاقتصادية وبناء التكتلات الإقليمية. ويشير إلى أن هذه المرتبة المتقدمة لم تأتِ على حساب الاستقرار المالي أو نتيجة لتضخم مؤقت في المؤشرات، بل هي ثمرة لإصلاحات هيكلية بدأت تؤتي ثمارها، خاصة فيما يتعلق بضبط الميزان التجاري، ودعم الإنتاج الوطني، وتقليص الواردات غير الضرورية. كما يلفت البروفيسور سعودي إلى أن الجزائر باتت تنافس دولًا مثل مصر وجنوب إفريقيا، اللتين كانتا تحتلان الصدارة في المشهد الاقتصادي الإفريقي. ويؤكد أن الفارق الحقيقي اليوم يكمن في أن الجزائر تؤسس لنمو نوعي ومستدام قائم على تنويع حقيقي للقطاعات الإنتاجية. ويستعرض أن الجزائر تتمتع بمزايا استراتيجية تتفوق بها على العديد من الاقتصادات الإفريقية، سواء من حيث الموارد الطبيعية، أو الموقع الجغرافي، أو البنية التحتية، وهي عوامل تمنحها قدرة على التموقع القيادي في القارة خلال العقد القادم. ويشدد على أن التحسن في المؤشرات الاقتصادية ينبغي أن يُقرأ ليس فقط من خلال الأرقام، بل أيضًا من حيث الأثر الاجتماعي والسياسي، إذ إن استقرار الاقتصاد ينعكس بشكل مباشر على استقرار المجتمع ويُعزز ثقة المواطن في خيارات الدولة. ويضيف أن هذه المرتبة تُعد حافزًا إضافيًا لدفع باقي الإصلاحات قُدمًا، خاصة تلك المرتبطة بتمويل الاقتصاد، وتطوير القطاع الخاص، ومرافقة الفاعلين المحليين، بهدف تحويل الديناميكية الحالية إلى قفزة هيكلية دائمة. ويؤكد البروفيسور سعودي أن المرتبة الثالثة ليست نهاية الطموح بل بدايته، مشيرًا إلى أن الجزائر إذا استمرت في هذا النهج، فهي قادرة على مزاحمة أقوى الاقتصادات في القارة وفرض نفسها كقوة اقتصادية صاعدة ومتوازنة في إفريقيا. من الأرض وتحتها... الجزائر تراهن على الفلاحة والمناجم للنمو السريع يرى البروفيسور عبد الصمد سعودي أن الطريق إلى مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي وتحقيق هدف 400 مليار دولار لا يمكن أن يمر دون تفعيل القطاعات الإنتاجية الكبرى، وعلى رأسها القطاع الفلاحي والمنجمي، باعتبارهما من أهم مصادر النمو غير المرتبطة بالمحروقات وأكثرها قدرة على خلق الثروة. ويؤكد أن القطاع الفلاحي يعد موردًا استراتيجيًا مهمًا لتحقيق الاكتفاء الغذائي، وأيضًا لتعزيز صادرات الجزائر نحو أسواق تحتاج إلى منتجات طبيعية وآمنة المصدر، خصوصًا أن الجزائر تملك مساحات شاسعة، وإمكانات مائية وبشرية تؤهلها لأن تصبح قطبًا زراعيًا قاريًا. ويضيف أن تطوير الفلاحة يجب أن يشمل الفلاحة الصناعية والتحويلية التي تضيف قيمة مضافة للمنتج الخام وتفتح المجال لتشغيل آلاف العمال، خاصة في ولايات الجنوب التي أصبحت مؤهلة لأن تكون مركز الثقل الفلاحي الجديد. وفي المقابل، يولي البروفيسور سعودي أهمية كبرى للثروة المنجمية، مؤكدًا أن الجزائر تجلس على احتياطات ضخمة من الحديد، الفوسفات، الزنك، الرصاص، وحتى المعادن النادرة، وهي ثروات لم يُستغل منها سوى القليل رغم أنها تمثل رافعة اقتصادية عالمية. ويشير إلى أن منجم “غار جبيلات” وحده قادر على أن يدرّ على الجزائر مليارات الدولارات سنويًا، سواء في شكل خام أو بعد معالجته. كما أن الشراكة مع الصين في فوسفات تبسة تُعد من أكبر المشاريع الإفريقية في هذا المجال، مما يفتح المجال لتطوير صناعات تحويلية ضخمة. ويرى أن الاستثمار في المناجم لا يعني فقط التصدير، وإنما هو أيضًا ركيزة لبناء قاعدة صناعية حقيقية، حيث تُستخدم المواد الأولية المستخرجة في الصناعات الثقيلة، مواد البناء، والأسمدة، وهو ما سيقلل من فاتورة الاستيراد ويُعزز الإنتاج الوطني. ويشدد على أن نجاح هذه الرهانات يحتاج إلى بيئة استثمارية جذابة، ومرافقة حقيقية للمستثمرين المحليين والأجانب، سواء عبر تبسيط الإجراءات أو توفير البنية التحتية اللازمة، خصوصًا في المناطق الداخلية التي تحتضن أغلب الموارد المنجمية والزراعية. ويضيف البروفيسور سعودي أن الجزائر تمتلك ما يكفي من الثروات فوق الأرض وتحتها لتصنع الفارق اقتصاديًا، لكن التحول الحقيقي يتطلب تحويل هذه الإمكانات إلى مشاريع ملموسة تُسهم في رفع الناتج الوطني، وتحقق العدالة في التنمية، وتثبت أن الجزائر بلد منتج وواعد، لا بلد ريعي ومستورد. من تقليص الواردات إلى مضاعفة الإنتاج... اقتصاد جزائري جديد يتشكل ويؤكد البروفيسور عبد الصمد سعودي أن أحد أبرز التحولات الجارية في الاقتصاد الجزائري يتمثل في الانتقال من اقتصاد استهلاكي قائم على الاستيراد إلى اقتصاد إنتاجي يسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوسيع قاعدة التصدير. وهذا المسار يعكس نضجًا في الرؤية الاقتصادية واستيعابًا لضرورات السيادة الاقتصادية. ويشير إلى أن الدولة الجزائرية تبنّت سياسة متدرجة تهدف إلى خفض الواردات التي استنزفت الاقتصاد لسنوات، خاصة تلك المرتبطة بالسلع الاستهلاكية، مقابل دعم الإنتاج المحلي وتحفيز الصناعات الوطنية. وهذه خطوة ضرورية لتقليص العجز في الميزان التجاري وتعزيز قيمة الدينار. ويُضيف أن مضاعفة الإنتاج الوطني تُعد مسألة أمن وطني، لأنها تمكّن الدولة من التحكم في احتياجاتها، وتوفير فرص عمل داخلية، وتحصين السوق من تقلبات الأسعار العالمية أو الأزمات الجيوسياسية، كما حدث في أزمة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية. ويُشدد البروفيسور سعودي على أن الحكومة نجحت في وضع أسس هذه السياسة عبر دعم القطاعات الإنتاجية الحيوية مثل الصناعة والفلاحة والتحويل الغذائي، وربطها بسلاسل التوزيع المحلية والدولية، مما ساعد على رفع كفاءة الإنتاج وتقليص الكلفة العامة. كما يرى أن محاربة الاستيراد العشوائي والفوضوي يُعد إنجازًا مهمًا، إذ ساهم في استعادة السيطرة على السوق، ووقف نزيف العملة الصعبة، وتشجيع المؤسسات الوطنية على الاستثمار في الإنتاج بدل التجارة، وهو ما يدعم بشكل مباشر النمو الاقتصادي المحلي. ويُشير إلى أن دعم هذا التوجه يستلزم أيضًا إعادة تنظيم السوق الداخلية، من خلال تطوير منظومات التوزيع، ومراقبة الجودة، وتحديث سلاسل التموين، لتفادي المضاربة وتقديم منتج وطني تنافسي من حيث السعر والنوعية. ويؤكد أن المطلوب اليوم هو إنتاج أفضل، عبر تشجيع الجودة، والتحول الرقمي، والابتكار الصناعي، لضمان أن يكون الإنتاج المحلي قادرًا على منافسة الواردات، وليس مجرد تعويضها بشكل شكلي. ويُضيف قائلاً إن الجزائر، عبر هذا المسار، تسير نحو تأسيس اقتصاد جديد قائم على الإنتاج بدل الاستهلاك، وعلى المبادرة بدل التبعية، وهو ما سيجعلها أكثر استقلالية وقوة في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، وأكثر قدرة على تحقيق التوازن الاجتماعي والمالي داخليًا. الاستثمار كقوة دافعة... الجزائر تعرض فرصًا واعدة في كل الاتجاهات كما يرى البروفيسور عبد الصمد سعودي أن الاستثمار هو القاطرة الحقيقية التي يمكن أن تجر الاقتصاد الجزائري نحو الهدف الطموح ببلوغ 400 مليار دولار كناتج محلي إجمالي، شريطة أن يُوجه الاستثمار إلى القطاعات المنتجة وأن تُستغل كل الميزات التي توفرها الجزائر اليوم. ويؤكد أن الجزائر باتت توفر بيئة استثمارية أكثر مرونة وانفتاحًا من أي وقت مضى، سواء عبر التحفيزات الجبائية، أو تبسيط الإجراءات الإدارية، أو استحداث مناطق نشاط جديدة في مختلف الولايات، وهو ما يُمهّد لمرحلة جذب رؤوس أموال محلية وأجنبية حقيقية. ويُشير إلى أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي للجزائر، الممتد على بوابة إفريقيا والمطل على أوروبا، يجعل منها مركزًا طبيعيًا للربط بين الأسواق، خصوصًا في ظل توسع مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل الطرق السريعة، الموانئ، والسكك الحديدية التي تربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. ويُضيف أن توفر الطاقة بأسعار تنافسية، واليد العاملة المؤهلة، واتساع السوق الداخلية، كلها عناصر تجعل من الاستثمار في الجزائر خيارًا استراتيجيًا للمتعاملين الاقتصاديين الراغبين في التمركز إقليميًا وإفريقيًا. ويُشدد البروفيسور سعودي على ضرورة تحفيز الاستثمار في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، مثل الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا، والمناجم والفلاحة الحديثة، من أجل خلق الثروة ومناصب الشغل وتوسيع القاعدة الإنتاجية الوطنية. كما يلفت إلى أهمية إشراك القطاع الخاص المحلي بقوة في هذه الديناميكية، وتوجيهه نحو المشاريع ذات الأثر الاقتصادي، بدل حصره في أنشطة تجارية قصيرة الأجل. مشيرًا إلى أن رأس المال الوطني يجب أن يكون جزءًا من الحل، لا مجرد متفرج على التحولات. ويرى أن الجزائر مطالبة اليوم بإرسال إشارات ثقة قوية نحو الخارج، من خلال الاستقرار القانوني، والشفافية، وتسهيل نقل الأرباح، وهي خطوات ضرورية لتثبيت صورة الجزائر كبيئة آمنة وواعدة للاستثمار على المدى المتوسط والطويل. ويختم الدكتور سعودي بالتأكيد على أن الاستثمار هو خيار سيادي واستراتيجي، وأن نجاح الجزائر في هذا المسار سيجعل منها لاعبًا اقتصاديًا أساسيًا في إفريقيا، وقوة إنتاجية قادرة على المنافسة والصعود في النظام الاقتصادي العالمي الجديد.