2025.05.21
ثقافة

 بعلبك.. مدينة الشمس والحضارة والجمال


الرّيف والمدينة… كقُطبي المغناطيس، يكمّلان بعضهما بقدر ما يتنافران، ويشكّلان معًا لوحة الحياة المتوازنة. المدينة صخبٌ وحركة، نظامٌ ومؤسسات، بينما الريف سكينة وبساطة، خضرةٌ تمتدّ كأنها دعاءُ الأرض للسماء. لا يُذكَر أحدهما إلّا ويحضر الآخر في الذهن، فهما على اختلافهما، وجهان لعُملة الإنسان. وفي كلٍّ منهما نبضٌ خاص، ولونٌ خاص، ورائحةٌ لا تُنسى. المدينة والقرية في الأدب والتراث العربي يشكّلُ كلٌّ من المدينة والقرية فضاءين متضادّين في الأدب العربي، تتجلّى فيهما التحوّلات الاجتماعية، والثقافية، وحتى النفسية للإنسان العربي. وقد عبّر الشعراء والكتّاب على مرّ العصور عن رؤيتهم لهذين العالمين من خلال مقارباتٍ تتراوح بين الحنين، والرفض، والنقد، والاحتفاء. المدينة في الأدب العربي المدينة كانت في التراث مركز الحضارة والسياسة والعلم، ومنها تنطلق الحركات الفكرية والدينية. وفي الأدب القديم: ارتبطت المدينة بمراكز الخلافة، وحتّى في العصور الجاهلية، وكان سوق عكاظ مركزًا ومحطّة لاستقطاب الأدباء والشعراء والتنافس، وبعدها كبغداد، ودمشق، والقاهرة، وتجلّى حضورها في المدائح والرسائل والقصائد الرسمية. فكانت المدينة موضع استقرار العلماء والشعراء. أمّا في الأدب الحديث والمعاصر: تحوّلت المدينة إلى رمز للاغتراب والضياع، كما في روايات "نجيب محفوظ"، حيث القاهرة مدينة مزدحمة، تضيع فيها الهويّة بين التمدّن والفقر. وفي الشعر، عبّر الكثيرون عن الخوف من فقدان الروح وسط صخب المدينة وزيف علاقاتها، كما فعل "أدونيس" أو "بدر شاكر السيّاب". "المدينة لا قلب لها، لا تصغي لأنينك، بل تُسرع خُطاك إلى المجهول"، بل هي "حبالٌ من الطّين يمضغن قلبي ويعطينَ، عن جمرةٍ فيه طينه، وحبالًا من النار يجلدن عُريّ الحقول الحزينة".  القرية في الأدب العربي أمّا القرية فهي تمثّل الجذر، والبساطة، والارتباط بالأرض والطبيعة. لطالما كانت مصدر الحنين في الأدب العربي، وفضاءً للبدايات والنقاء. ففي التراث كانت القرية رمزًا للصفاء، حيث الحياة بسيطة، خالية من تعقيد المدينة. أمّا في الأدب الحديث فقد ارتبطت القرية بـالحنين إلى الطفولة والجذور، والجمال والسكينة «أشجارها دائمة الخُضرة، كأنّها أعمدةٌ من رُخام، لا عُريٌّ يعروها ولا صُفرة، وليلها لا ينام"، كذلك ظهرت كرمز للتخلّف في بعض الكتابات التي تقارن بين القرية والمدينة، مع وجود نبرة نقد اجتماعي، "في القرية، لا شيء يُخفى.. الكل يعرف الكل، وذاك عبء وطمأنينة في آن". المدينة والقرية.. مقارنة في الأدب مثّلت المدينة صور عدّة في الأدب فكانت: الحضارة، النظام، التمدّن، مكان الاغتراب، قلق وجودي، واقع مضطرب، علاقات هشّة، ضياع وتوترٌ ووحدة. بينما مثّلت القرية: الجذور، الطبيعة، البساطة، مصدر حنين، خلوة مع الذات، مجتمع مترابط لكن محافظ، الطمأنينة، الحنين، الرتابة. إذًا صورة المدينة والقرية في الأدب العربي ليست ثابتة، بل تتبدّل بتبدّل رؤية الكاتب وزمانه. أحيانًا تُمدح المدينة وتُلعن القرية، وأحيانًا العكس. لكن ما يجمع الاثنين أنهما وجهان لتجربة الإنسان العربي بين الانتماء والرحيل، البساطة والتعقيد، الأصالة والحداثة. وقد اقترنت أسماء بعض القرى والمدن بأسماء الأدباء والشعراء اقترانًا لا يُفكّ، فبمجرد أن يُذكَر اسم الشاعر أو الأديب، تتجلّى أمامك صور تلك المدينة أو القرية كأنها خُلقت من حروفه، ونَبضت من قصائده. فـ "جيكور" هرمت مع انطفاء "السيّاب"، و"ياسمين الشام" لا يزال يزهر كلّ صباح على نوافذ "قبّاني"، وفلسطين، بكلّ ما فيها من وجع وعناد، تهمس باسم "درويش" في كلّ ذكرى وحلم، كما ارتبط اسم "فيروز" بلبنان ارتباط الجسد بالرّوح، وكما يرتبط الصّباح بخيوط الشّمس الأولى، فهي نسيد الوطن وحنين الأرض، وذاكرة المُدن. أمّا مدينتي، مدينتي ليست كمدينة "السيّاب" تحاصره بحبالٍ من طينٍ ونار، وليست كمدينة "الماغوط" تسحبه من غرفته ليلًا ليبقى دون ملاذ، وأيضًا ليست كمدينة "أفلاطون" الفاضلة، إنّها مميّزة، إنّها ما بين بين. عريقة عراقة الأزمان، أصيلة وثابتة لا تغيّرها الدّهور، وشامخة كشموخ الأرز والقلعة، إنّها "بعلبكّ".. بعلبكّتي يا وردةً نبتَتْ على كتفِ الزمانْ، وتمدُّ للعشّاقِ قلبًا من جَنانْ، يا ضحكةَ التاريخِ في وجْهِ الدُجى وحكايةً... لا ينتهي فيها الحنينْ بَعلبَكّتي لا تشبهينَ المدنَ حين تخونُنا وتُشيدُ الأبراجَ من نارٍ وضيقْ أنتِ التي تغفو على كتفِ السكينةِ كفُّ طفلٍ فوقَ عصفورٍ يفيقْ أنتِ الحياةُ إذا تنكّرتِ الحياةُ… وأنتِ أُنسُ الوقتِ في زمنِ اختناقْ فيكِ القلوعُ الرومُ تسكنها الوقارْ وشواهدُ الأمجادِ فوقَ حجارةٍ... ما مسّها إلّا انتباهُ اللهِ للحبِّ القديمْ بعلبكّتي ما زلتِ أغنيةً على وترِ العيونْ وقصيدةً كُتِبتْ على ضوءِ الشموسِ ولم تَخُنْ نَفَسَ الحنينْ ومن لا يعرف بعلبكّ؟  تعال، لأحدّثك عن سحرها الدافئ وحنينها الذي يسكن الأرواح... تعال، لأُخبرك عن طيبتها التي تُورق في القلوب، وعن تميّزها الذي لا يُشبه سواه، عن خيرها الذي لا ينضب، وجمالها الذي يُروى ولا يُحصى. تعال نغنّي معًا بصوت "فيروز" السّاحر: يا قلبي لا تتعب قلبك وبحبّك على طول بحبّك بتروح كتير، بتغيب كتير وبترجع ع دراج بعلبك يا قلبي لا تتعب قلبك كأنّها البوصلة التي يحجّ القلب إليها، كلّما ضاقت بنا الدنيا وجدنا أنفسنا عائدين، متعلّقين في أعمدة بعلبك، ورائحة نسيمها وتاريخها وأصالتها. بعلبكّ.. مدينة الشمس والحب والعطاء أوّلًا، يقول المؤرخون في أصل تسمية مدينة بعلبك، إنّ أصل الاسم يعود إلى كلمتي "بعل" و"بك"، وبعل هو أحد آلهة السوريانيين والكنعانيين، أمّا كلمة "بك" فتعني مدينة أي أنها "مدينة بعل". حين يُذكَر التاريخ، يهمس اسم "بعلبك" بملء الفخر، وحين تتكلّم الحجارة، تروي قلعتها أعظم الحكايات، وحين ينحني الزمن احترامًا للخلود، يمرّ من بوابات هذه المدينة، التي لا تعرف الأفول. بعلبكّ... مدينة "أهلا وسهلا" التي تُقال بقلوبٍ لا تعرف الزيف، هي بعلبكّ المسجد والكنيسة، حيث يعلو صوت الأذان قرب أجراس المحبّة، هي بعلبكّ المطرانية العريقة، ومسجد "رأس الحسين" الذي تفوح منه رائحة التاريخ، ومقام السيّدة "خولة" الذي يحتضن الطمأنينة والسكينة. بعلبكّ الكرم الفائض من عيون أهلها، والضيافة التي تُقدّم قبل الخبز والماء. بعلبكّ السماحة التي تفتح الأبواب، والألفة التي تلمّ الشمل وتُحيي المودّة. هي المدينة التي لا تعرّفها بالكلمات، بل تُحسّها في النبض. كما أنّ بعلبك ليست مدينة عادية، بل هي معبد الزمن، وذاكرة الأرض، وعروس الجبال التي احتضنت الشمس يومًا وخلّدتها في اسمها. "مدينة الشمس"، هكذا عُرفت، لأنها امتلأت دفئًا وحياة، نورًا وجمالًا، وأشرقت على مرّ العصور، في كل حجَرٍ فيها، وفي كل درب من دروبها. في قلعتها الرومانية، تقف الأعمدة كأنها أرواحٌ متبتّلة، تنشد المجد القديم، وتناجي العظمة التي سكبتها حضاراتٌ عظيمة في طيّات حجارتها. هناك، تسمع صدى أباطرةٍ مرّوا من هنا، وملوكٍ ساروا على تلك الساحات، وتُبصر في الغروب مشهدًا يشبه صلاةً من نور، ترتفع من جدرانها إلى السماء. أمّا "مرجة رأس العين"، فماؤها لا يسقي الأرض فحسب، بل يروي الحنين، ويُنعش القلب، وتُصبح ضفافها مزارًا للروح الباحثة عن الصفاء، ومسرحًا لأحاديث الحب الأولى، حين تهمس الطبيعة بأعذب الألحان. "مرجة رأس العين"... تلك اللوحة الحيّة التي رسمتها الطبيعة بريشة الحنان، مليئةٌ بأراجيح الطفولة ومرحهم، صاخبةٌ بضحكاتهم التي تتعانق مع زقزقة العصافير، محطّةٌ للكبار يستظلون فيها بظلال الراحة ويسترجعون بها نكهة الزمن الجميل. قلبها رحب، يتّسع للجميع بلا استثناء، تفتح ذراعيها لكلّ الأطياف كما النهر لا يسأل من أيّ أرضٍ أتيت. وفي الخريف، تنفجر ألوانها سحرًا… حمرةٌ تتوسّد الصفار، وبينهما أخضرٌ يعانق الغيم، مشهدٌ يُدهش القلب قبل العين. وهناك، لا يكتمل الحضور إلّا بنكهات الحياة البسيطة: كوب نسكافيه دافئ، ترمس يُملأ بالملح والذكريات، ذرةٌ مشويّة تعبق برائحة الطفولة، وغزل البنات يذوب على أطراف الضحك. إنها مرجة "رأس العين"... حيث تتنفس الروح من جديد. وحين تُذكر "رأس العين"، لا بدّ أن يخطر في بالك اسمٌ يتردّد مع خرير الماء وهمسات الريح: "البيّاضة". هي المحطة التي لا يمكن أن تُخطئها العين ولا القلب، فكلّ دربٍ إلى "مرجة رأس العين" يمرّ بها، أو على الأقل، يعود إليها شوقًا وحنينًا. في "البيّاضة"، تستقبلك بحيرة صغيرة، لكنّها كبيرة بما يكفي لاحتضان سربٍ من طيور البطّ الملوّنة، تلك التي تسبح في الماء بمرح الأطفال، وتنتظرك كما تنتظر اللقاءات الجميلة. لا تُبالي إن كنت تحمل في يدك فتات خبز أو رقائق بطاطا، فهي ألفت الزوّار كما ألفوها، واعتادت على لطافة قلوبهم. وهناك، لا تكتمل الزيارة من دون أن تخلّدها بصورةٍ مع لافتة (I LOVE BAALBECK)، وكأنّك تعلن ولاءك للحبّ والجمال والذكريات الآسرة. في هذا المكان، لا تسرح العين وحدها، بل تسبقها الروح إلى فضاءات الطمأنينة، فتتغلغل في الماء والحَوْر والصفصاف والصوت الرخيم لطيور البط. تخرج من "البيّاضة" وأنت لست كما دخلت، محمّلًا بعبق الطبيعة، ونسمة الأمل، وبذور طاقة جديدة تُعينك على متابعة رحلة الحياة الشاقة، بوجهٍ أكثر إشراقًا، وقلبٍ أكثر امتنانًا. و"السوق القديم"، ليس مجرّد حجرٍ وعتبة، بل عبقٌ من الماضي، ورائحةُ الزعتر، والخبز الساخن، والتوابل التي مرّت بها الجدّات قبل مئات الأعوام، ما زالت تسكن الأبواب والنوافذ. هناك، لا تتبضّع فحسب، بل تشتري الذكرى، وتسمع خطوات من رحلوا وكأنهم ما زالوا يعبرون الأروقة، وينادون بأسماءٍ لا تُنسى. وفي بعلبكّ، ليس الجمال فقط في الحجر والماء، بل في أهلها. في ضحكة وجهٍ تعب من الحياة وما زال يعطي، في دفء البيوت التي تُفتح لكل غريب، وفي عيون الجدّات حين يُعِدن الحديث عن الأيام الخوالي، وعن أعراسِ الصيفِ، وسهراتِ العود والدّبكة، وقلوبٍ ما خانت عهد الوفاء. بعلبكّ، تلك المدينة التي تشبه القصائد، بل هي ديوانُ حبٍّ كتبته الحضارة، وهي نشيد العطاء، ومتحفُ الحياة، وسرُّ الألفة الذي يجمع أهلها على اختلافهم، كأنها تنسج من قلوبهم مدينةً أخرى، تُشبه السماء في صفائها. هي ليست مدينة فقط، بل وعدٌ بالبقاء، وأملٌ بأن لا تغيب شمس التاريخ أبدًا، فهي مدينة تنبت من رحم المجد، وتُزهِر بالحب، وتعيش في ذاكرة من رآها... وتسكن قلب من مرّ بها مرةً واحدة. بعلبكّ… ملهمة الشعراء ومسرح الفنون الخالدة منذ أن كان الشعر ناي القلوب، وبوح الأرواح، كانت بعلبكّ مصدر الإلهام، ومدينة القصيدة الأولى. وقف الشعراء على أعتابها كما يقف العاشق أمام معشوقته، يفتّش في حجارتها عن حروف، وفي سمائها عن قوافٍ، وفي نسائمها عن موسيقى تليق بجمالها المهيب. بعلبَك ... أنا شمعة على دراجِكْ وردة على سياجِكْ أنا نقطة زيت بسراجِكْ كتب عنها "نزار قباني"، وتغنّت بها "فيروز"، وسكنها صوت "وديع الصافي" كأنّه أنشد لها وحدها. كلّ نغمةٍ في مهرجان بعلبك، كانت تُعمّد بالمجد، وكل خشبة مسرحٍ ارتفعت أمام أعمدتها، كانت مُصلّى للفنّ، ومحرابًا للثقافة. في كل عام، تُعيد هذه المدينة بعث الفنون، وتفتح حضنها للأصوات التي لا تُنسى، وللرّؤى التي لا تموت. بعلبك ليست فقط مسرحًا، بل مسرح الحياة، حيث يلتقي الشرق بالغرب، والتاريخ بالحلم، وحيث يتحوّل الحجر إلى قصيدة، والهواء إلى نغمة، والقلعة إلى أمسياتٍ يظل صداها عالقًا في الذاكرة كأجمل حنين. فمن هنا، من عرش الجمال، خرجت بعلبك لتقول: "أنا المدينة التي تُنشَد وتُرسم وتُعزف، لأن الجمال عندي عقيدة، والفنّ في دمي، وأنا ابنةُ المجد الذي لا يغيب". مدينة بعلبك ليست كغيرها من المدن... هي لا تعرف زيف الأبراج العالية ولا وجع الإسمنت الممتد حتى الأفق. لا تُجيد خنق الأرواح بين زحام الضوضاء، ولا تلوّث الهواء بحبال الطين الممرغة بالنار. بعلبك مختلفة، متفرّدة، كأنها لا تنتمي إلى هذا العصر المُتعب. تزهو بثوبٍ أخضر من بساتينها التي تفوح بعطر الكرم، وتتمايل كضفائر فتاة شرقية تعشق الحياة. تغسل وجهها كل صباحٍ بمياه "رأس العين"، تلك التي لا تزال عذبة، طاهرة، كأنها وُلدت من قلب السماء. تتنفس نسيمًا من ذاكرة الزمن، حيث لا يُغلق التاريخ دفّته، ولا يُطفأ مجدها في غياهب النسيان. بعلبكّ لا تُشبه المدن الحديثة الباردة، بل تشبه صدر الأمّ، حين يضيق بك العالم، وتبحث عن دفءٍ لا يشبه سواه. هي المدينة التي إذا مشيت فيها، شعرت أن الأرض تنبض تحت قدميك، وأن الحجر يحفظ اسمك، وأن الهواء يُصافح قلبك قبل وجنتيك. وبعلبكّ ليست جميلة فقط، ولا شامخة بقلعتها وحسب، بل برجالها الأبطال الشجعان، أولئك الذين كتبوا مجدها بالدّم والتّضحيات، وزيّنوا ترابها بالعزّة والكرامة. فحين تمرّ بشوارعها، لا ترى فقط حجارة التاريخ، بل ترى وجوه الشهداء تُطلّ من على الجدران، تحرس المكان، وتُذكّرك أنّ الأرض لا تُروى إلا بدم الأوفياء. فرجالُ بعلبكّ، ثابتون كصخور قلعتها، بل أشدّ صلابة، لا يعرفون الذلّ ولا يُساكنهم الخنوع، قدّموا أرواحهم وفلذات أكبادهم قرابين للوطن، ليظلّ عالي الجبين، عصيًّا على الطغاة والجبابرة.وما كان مستغرَبًا يومًا أن يحاول العدو طمس هذا التاريخ العريق، تاريخ الحجر والبشر، كما فعل في الحرب الأخيرة حين صبّ نيرانه على الكثير من البلدات، وقام بالعديد من المجازر الجماعية لمحو بيئة المقاومة، ولم يكتفِ بذلك وحسب بل قام أيضًا بتدمير بعض المعالم الأثرية قرب القلعة، ظنًّا منه أنّ الدمار يُسدل ستارًا على الحقيقة، وأن القصف يرهب القلوب ويُطفئ جذوة العزم. لكن هيهات!  ففي بعلبك، لا الشجر يُهادن، ولا الحجر يُساوم، ولا البشر يعرفون الانكسار...هنا، يقف التاريخ على قدمَيه، وتنبض الأرض بالعزّ، وترفض الأرواح إلّا أن تكون حُرّة أبية. ولأن بعلبَكّ وفيةٌ لفكر المقاومة، سُمّيت لدينا: "خزّان المقاومة"، ذاك الخزّان الذي لا ينضب، ولن ينضب بإذن الله، ما دام في هذه الأرض رجالٌ من طينة الأحرار، يكتبون بالغبار والدم معًا: "هنا بعلبك، هنا تُصاغ البطولة". "وهل تُختتم الكلمات إلا عند عتبات المجد؟". بعلبك، المدينة التي تنبض في الريف، والريف الذي يسكن في المدينة، تجسيدٌ حيٌّ لتلك الثنائية العجيبة بين العراقة والبساطة، بين عبق الحضارات ودفء التراب. هي ليست كغيرها من المدن، فلا ناطحات تلامس صدر السماء، ولا زحام يخنق الأرواح، بل فيها السكينة تُجاور العظمة، وفي حجارتها حكايا الفينيق والرومان، وفي عيون أهلها نُبل القرى وصفاء السواقي. بعلبك… حين تجتمع روعة الريف وألق المدينة، وتختصر كلّ الحكايات في قلبٍ واحد نابض بالحياة.